هل يجوزُ للخليفةِ المُنصّبِ بالنصِّ أن يتنازلَ عن المنصبِ الإلهي ؟ 

أسئلةٌ حولَ الموضوعِ:(غدير خم)   ١- هل يجوزُ للخليفةِ المُنصّبِ بالنصِّ أن يتنازلَ عن المنصبِ الإلهي ؟   ٢- هل تنازلهُ يُعتبرُ مدحاً أو قدحاً فيه ؟   ٣- و هل يُعتبرُ ذلكَ طاعةً للهِ أو معصيةً في حقّه .   ٤- و أين الشجاعةُ فيمَن تركَ مخلوقاً مثله بل أضعفَ منه قوّةً يجبرُه على ترك ِمنصبٍ ولّاهُ اللهُ إيّاه بالنّص ؟؟ 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :   

 تبتني هذه الأسئلةُ على قضيّةٍ افتراضيّة؛ وهي كونُ الإمامِ عليّ (عليه السلام) تنازلَ عن حقّه في الإمامةِ بمحضِ إرادتِه واختياره، فأسلوبُ الأسئلةِ وطريقةُ صياغتِها توحي بأنَّ الإمامَ عليّاً (عليه السّلام) هو الذي رفضَ أن يتولى أمرَ الخلافة، وهذا الافتراضُ غيرُ واقعيٍّ ولا علاقةَ له بما وقعَ مِن أحداثٍ في التاريخ، فالثابتُ وبكلِّ المصادرِ المُعتمدةِ أنَّ الإمامَ عليّاً (عليهِ السلام) وأهلَ بيتِه والخُلّصَ مِن أصحابِه قد عارضوا ما وقعَ في سقيفةِ بني ساعدةَ مِن مؤامرةٍ أبعدَته عن الخلافة.  

ولكن قبلَ الإجابةِ المُباشرةِ على الأسئلةِ فليسمَح لنا السّائلُ ببعضِ المُقدّمات التي ترسمُ النسقَ العامَّ للأحداثِ التاريخيّة، وبخاصّةٍ أنّنا نشعرُ أنَّ السّائلَ غيرُ مُعترفٍ بالوصيّةِ أو على الأقلِ تنتابُه بعضُ الشكوك.  

فقبلَ الحديثِ عن دورِ الإمامِ عليٍّ (عليه السّلام) وما يجبُ عليهِ فعله بعدَ وفاةِ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) يجبُ أن نقفَ على المشروعِ الذي قامَ بإعدادِه رسولُ اللهِ فيما يتعلّقُ بمُستقبلِ الرّسالة، فمنَ الواضحِ أنَّ المسارَ الطبيعيَّ الذي كانَ منَ المُفترضِ أن تمضيَ عليهِ الرّسالة بعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ هوَ أن يكونَ أهلُ البيتِ وعلى رأسِهم الإمامُ عليٌّ (عليهِ السلام) الامتدادَ الطبيعيَّ لرسولِ اللهِ وإليهم تعودُ مقاليدُ الأمور.  

وقد كانَ رسولُ اللهِ يخشى مِن انقلابِ الأمّةِ على هذا المسار، وبخاصّةٍ أنَّ هناكَ الكثيرَ منَ المؤشّراتِ التي تدلُّ على مطامعِ القومِ في الإمارةِ بعدَ رسولِ الله، والمعالجةُ المُمكنةُ التي يمكنُ أن يقدّمَها النبيُّ للوقوفِ في وجهِ هذهِ المطامعِ لا تخرجُ مِن نحوين.  

 النحو الأوّل: ألّا يكتفي رسولُ اللهِ بالتنصيبِ الشفوي لأميرِ المؤمنينَ كما فعلَ في مناسباتٍ مُختلفةٍ كانَ آخرُها غديرُ خم، وإنّما يسعى لتثبيتِ ذلكَ عبرَ كتابتِه وتوثيِقه، ومعَ أنَّ العباراتِ التي نُصّبَ بها أميرُ المؤمنين (عليه السّلام) كانَت واضحةً لا لبسَ فيها كقولِه (لا تحلُّ إمرةُ المؤمنينَ بعدي لأحدٍ غيره، ثمَّ رفعَه إلى السّماءِ وقال: معاشرَ الناسِ هذا أخي ووصيّي وواعي علمِي وخليفتي على مَن آمنَ بي وعلى تفسيرِ كتابِ ربّي. وفي روايةٍ: اللهمَّ والِ من والاه وعادِ من عاداه، والعَن مَن أنكرَه، واغضَب على مَن جحدَ حقّه، اللهمَّ إنَّكَ أنزلتَ عندَ تبيينِ ذلكَ في علي، اليومَ أكملتُ لكم دينَكم بإمامتِه فمَن لم يأتمَّ به وبمَن كانَ مِن ولدي مِن صُلبه إلى يومِ القيامةِ فأولئكَ حبطَت أعمالهم وفي النارِ هُم خالدون) ومع وضوحِ تلك العباراتِ إلّا أنّهُ أرادَ أن يقيمَ الحجّةَ عليهم بالكاملِ مِن خلالِ كتابةِ الائمّةِ مِن بعدِه في كتابٍ يكونُ مرجعاً للأمّة.  

 فقبلَ وفاتِه بأربعةِ أيّام أمرَهم أن يُحضروا له كتفاً ودواةً ليكتبَ لهم كتاباً لن يضلّوا بعدَه أبداً، وقد روى ذلكَ الخبرَ البُخاريُّ ومسلمٌ عن ابنِ عبّاس حيثُ قال: (لمّا حضرَ رسولُ الله، وفي البيتِ رجالٌ كانَ فيهم عُمرُ بنُ الخطّاب، قالَ النبيّ: هلمَّ أكتُب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدَه. فقالَ عُمر: إنَّ النبيّ قد غلبَ عليهِ الوجع، وعندَكم القرآن، حسبُنا كتابُ الله.. فاختلفَ أهلُ البيتِ فاختصموا، منهم مَن يقول: قرّبوا يكتُب لكُم النبيُّ كتاباً لن تضلّوا بعدَه، ومنهم مَن يقولُ ما قالَ عُمر. فلمّا أكثروا اللغوَ والاختلافَ عند النبيّ قالَ لهم: قوموا. - قالَ ابنُ مسعود - : فكانَ ابنُ عبّاس يقول : إنَّ الرزيّةَ كلُّ الرزيّة ما حالَ بينَ رسولِ اللهِ وبينَ أن يكتبَ لهم ذلكَ الكتابَ مِن اختلافِهم ولغطِهم(. وفي روايةٍ أخرى يقولُ عُمر أنّه يهجُر، وهذا مؤشّرٌ خطيرٌ يكشفُ عن جرأةِ البعضِ في محضرِ رسولِ اللهِ من لغطٍ واختلافٍ وعدمِ استجابةٍ لأوامرِه الواضحة، ولو لم يكُن الأمرُ مهمّاً لما طلبَه رسولُ اللهِ وهوَ في تلكَ الحالةِ منَ المرض، وقد أكّدَ بنفسِه هذه الأهميّةَ عندَما قال: (اكتبُ لكُم كتاباً لن تضلّوا بعدَه)، وأيُّ شيءٍ أهمُّ مِن كتابةِ كتابٍ يمنعُ من الضّلالِ بعدَ وفاتِه؟ وفي أيّ شيءٍ يمكنُ أن تضلَّ الأمّةُ بعدَه؟ وهل ضلَّت الأمّةُ بعدَ رسولِ الله في شيءٍ أكثرَ مِن موضوعِ الخلافةِ والإمامة؟ وهل سُلَّ سيفٌ في الإسلامِ كما سُلَّ في الإمامة؟ وهل تفرّقَ المسلمونَ وتعدّدَت مذاهبُهم إلاّ في الإمامة؟

النحو الثاني: أن يقومَ رسولُ اللهِ لمنعِ الطامعينَ في السلطة، بإبعادِهم إلى منطقةٍ بعيدةٍ عن المدينة، بحيثُ تحدثُ الوفاةُ وتنعقدُ البيعةُ للخليفةِ الشرعي وهُم لا خبرَ لهم ولا علم، وهذا ما فعلهُ رسولُ اللهِ أيضاً، عندَما عقدَ الرايةِ لأُسامة بنِ زيد وبعثَه على رأسِ جيشٍ فيه كبارُ الصّحابةِ إلى أرضِ الشام، وقد يتعجّبُ البعضُ من إصرارِ النبيّ الشديدِ على إنفاذِ هذا الجيشِ وهوَ يصارعُ مرضَ الموت، وقد كانَ يُردّدُ ويقولُ أنفذوا جيشَ أسامة، وفي بعضِ الرواياتِ، لعنَ اللهُ مَن تخلّفَ مِن جيشِ أسامة، فكانَ يحثُّهم على الخروجِ ويستعجلهم في المسيرِ كأنّه لا يريدُ أن يشهدوا وفاتَه، وهذا أمرٌ غيرُ واضحٍ حيثُ كانَ بالإمكانِ أنَّ يُوصي رسولُ الله بإخراجِ هذا الجيشِ بعدَ وفاته، ولم يبقَ أمامَه منَ الدّنيا إلّا أيّاماً وهو يعلمُ أنَّ خروجَ الجيشِ في الموعدِ الذي أمرَ فيه بالخروجِ يتسبّبُ في حرمانِ كبارِ الصّحابةِ منَ المُهاجرين والأنصارِ مِن أن يشهدوا وفاتَه ويشاركوا في تشييعِه ودفنه، الأمرُ الذي يقودُنا إلى وضعِ علاماتِ استفهامٍ كبيرةٍ أمامَ هذه الإصرار.  

وفي المقابلِ هل كانَ يعلمُ الصّحابةُ الحكمةَ مِن هذهِ الغزوة؟ والضرورةَ التي توجبُ هذا التوقيت؟ والسّببَ في هذا الإصرار؟   

إنَّ التحليلَ المنطقيَّ للأحداثِ يقودُنا إلى القولِ أنَّ إصرارَ الرسولِ كاشفٌ عن وجودِ توجّهٍ بينَ بعضِ الصّحابةِ لاستلامِ مقاليدِ الأمرِ مِن بعدِ وفاته، ولذا كانَ البعضُ حريصاً على إفشالِ هذا البعثةِ، أو على الأقلِّ على العملِ على تأخيرِها بالقدرِ المُستطاع، فقد تمَّ الاعتراضُ أوّلاً على توليةِ أسامةَ على إمارةِ الجيشِ وطعنوا في ذلك، معَ أنَّ أمارتَه كانَت بأمرِ رسولِ الله، الأمرُ الذي أغضبَ رسولَ اللهِ وجعلَه يخرجُ مِن بيتِه مريضاً، وقد عصبَ على رأسِه عصابةً وعليهِ قطيفةٌ، فصعدَ المنبرَ، فحمدَ اللهَ وأثنى عليهِ ثمَّ قال «أمّا بعد، أيُّها الناسُ فما مقالةٌ بلغتني عن بعضِكم في تأميري أسامة، ولئِن طعنتُم في إمارتي أسامةَ، لقد طعنتُم في إمارتي أباهُ مِن قبله، وأيمُ اللهِ إن كانَ للإمارةِ لخليقًا وإنَّ ابنَه مِن بعدِه لخليقٌ للإمارة، وإن كانَ لمِن أحبِّ الناسِ إلي، وإنَّهما لمخيلانِ لكلِّ خير، واستوصوا به خيراً، فإنَّهُ مِن خيارِكم». ثمّ نزلَ فدخلَ بيتَه وذلكَ يومَ السبتِ 10 ربيع الأول وجاءَ المسلمونَ الذينَ يخرجونَ معَ أسامةَ يودّعونَ النبيَّ محمّداً، فجعلَ يقولُ «انَّفذوا بعثَ أسامة».  

 وقد حدثَت هذه المخالفةُ والاعتراضُ على أمرِ رسولِ اللهِ في نفسِ الفترةِ التي حدثَت فيها رزيّةُ يومِ الخميس، الأمرُ الذي يكشفُ عن وجودِ خُططٍ وخُططٍ مُضادّة، فقد كانَ الرسولُ حريصاً على مستقبل الدّعوةِ ويعملُ على تثبيتِ دعائمِ الإمامةِ مِن بعده، وفي المقابلِ هناكَ خططٌ مُضادّةٌ تعملُ على إفشالِ كلِّ هذه الخُططِ الاحترازيّة.   

وقد احتجَّ المُعارضونَ لإمرةِ أسامةَ بصغرِ سنِّه وحداثةِ عهدِه، فكيفَ يكونُ أميراً على جيشٍ فيه كبارُ الصّحابة؟ فتكلّمَ قومٌ وقالوا «يستعملُ هذا الغلامَ على المُهاجرينَ الأوّلين» وقد كانَ فيهم أبو بكرٍ وعُمر وأبو عبيدةَ وغيرُهم مِن كبارِ المُهاجرينَ والأنصار!!   

وعندما شهدوا إصرارَ النبيّ على أسامة عملوا على تأخيرِ الجيش، فخرجوا منَ المدينةِ وابتعدوا عن أعينِ رسولِ الله، ولكنّهم عسكروا على مقربةٍ منها في منطقةِ الجُرف، وكانوا يترصّدونَ الأخبارَ منَ المدينة، وعندما وصلهم خبرُ وفاةِ رسولِ الله، رجعوا إلى المدينةِ وكانَ ممَّن رجعَ عُمر وأبو عبيدة.  

وبذلكَ يتّضحُ أنَّ أبا بكرٍ وعُمر وأبا عبيدةَ كانوا في جيشِ أسامةَ خارجَ المدينةِ حينَ وفاةِ رسولِ الله فكيفَ أسرعَت بهم الخُطى ليُدركوا الأنصارَ في سقيفةِ بني ساعدة، ثمَّ يحدثَ بينَهم نزاعٌ حولَ مَن هو أولى بخلافةِ رسولِ الله؟ المهاجرونَ أم الأنصار؟ بالقطعِ واليقينِ لم يحدُث كلُّ ذلكَ صُدفةً، وإذا ربطنا بينَ هذا النزاعِ الذي حدثَ في السّقيفةِ وبينَ حرصِ رسولِ اللهِ على إنفاذِ جيشِ أسامة وتأكيدِه على ذلكَ بعدَ مُخالفةِ أمرِه الصّريحِ في إحضارِ كتفٍ ودواة ليكتبَ لهم ما يمنعُهم منَ الاختلافِ، نتحصّلُ على نتيجةٍ مفادُها أنَّ إنفاذَ جيشِ أسامة وكتابةَ الوصيّةِ كلّها كانَت مِن أجلِ تحديدِ مَن يتولّى الخلافةَ بعدَ رسولِ الله لقطعِ هذا النّزاع، وقد علمَ بعضُ الصّحابةِ بذلكَ ولذا عملوا بشتّى السّبلِ لمنعِ رسولِ اللهِ مِن ذلك، ولذا ما إن ماتَ رسولُ اللهِ وقبلَ دفنِه، اجتمعَ القومُ في سقيفةِ بني ساعدة وأخذوا الخلافةَ ورسولُ اللهِ لم يُدفَن بعد.  

أمّا معارضةُ الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام) لِما حدثَ قد كانَت ظاهرةً واضحةً لم يتمكّن المؤرّخونَ منَ التستّرِ عليها، فقد قالَ أبو بكرٍ الجواهري في احتجاجِ عليٍّ (عليهِ السّلام) إنَّه كانَ يقول: (أنا عبدُ اللهِ وأخو رسولِ الله، حتّى انتهوا به إلى أبي بكر، فقيلَ له: بايع، فقالَ: أنا أحقُّ بهذا الأمرِ منكم لا أبايعُكم وأنتُم أولى بالبيعةِ لي، أخذتُم هذا الأمرَ منَ الأنصارِ واحتججتُم عليهم بالقرابةِ مِن رسولِ الله، فأعطوكم المقادةَ وسلّموا إليكم الإمارة، وأنا أحتجُّ عليكم بمثلِ ما احتججتُم به على الأنصار، فانصِفونا إن كنتُم تخافونَ اللهَ مِن أنفسِكم، واعرفوا لنا منَ الأمرِ مثلما عرفَت الأنصارُ لكم وإلاّ فبوؤوا بظلمٍ وأنتم تعلمونَ فقالَ عُمر: إنَّك لستَ متروكاً حتّى تُبايع..  

فقالَ له علي: احلِب له يا عُمر حلباً لك شطرُه، اشدُد له اليومَ أمرَه ليردّه عليكَ غداً. لا واللهِ لا أقبلُ قولكَ ولا أتّبعُك).

قالَ الشريف ُالرّضي: وقد رويَ له شعرٌ قريبٌ مِن هذا المعنى وهو :  

فإن كنتَ بالشُّورَى ملكـتَ أُمُورَهُم‌ * فكيفَ بهذا والمُشيرُونَ غُيَّــبُ   

وإنَّ‌ كنتَ بالقربى حججتَ خصيمَهُم‌ * فغيرُك أولى بالنَّبِي وأقربُ.   

فأصرَّ عليٌّ على موقفه، حتّى أنَّه أقسمَ على ألّا يُبايع، بحسبِ ما تذكرُ بعضُ الرّوايات. ولما احتدَّ النقاشُ والسّجال، وأضحَت الأجواءُ مشحونةً بالتوتّر، واتّسعَت شقّةُ الخلافِ بينَ عليٍّ مِن جهة، وأبي بكرٍ وعُمر مِن جهةٍ ثانية، تدخّلَ أبو عُبيدةَ بنُ الجرّاح، لتلطيفِ الأجواء، فخاطبَ عليًّا بأسلوبٍ مرن، قالَ له فيه: «يا بنَ عمِّ، إنَّكَ حديثُ السنِّ وهؤلاءِ مشيخةُ قومِك، ليسَ لكَ مثلُ تجربتِهم، ومعرفتِهم بالأمور، ولا أرى أبا بكرٍ إلاّ أقوى على هذا الأمرِ منكَ، وأشدَّ احتمالاً واضطلاعاً به، فسلِّم لأبي بكرٍ هذا الأمر»  

فأجابَ عليٌّ: «فواللهِ يا معشرَ المُهاجرين، لنحنُّ أحقُّ الناسِ به، لأنّا أهلُ البيت، ونحنُ أحقُّ بهذا الأمرِ منكم». قامَ بشيرٌ بنُ سعدٍ الأنصاري مُنصِفاً عليّاً بنَ أبي طالب، فقالَ له: «لو كانَ هذا الكلامَ سمعَتهُ الأنصارُ منكَ يا علي قبلَ بيعتِها لأبي بكر، ما اختلفَ عليكَ اثنان» كأنَّ بشيراً بنَ سعدٍ لا يدري أنَّ كلَّ هذه العجلةِ التي تمَّت في السّقيفةِ حتّى لا يُسمعَ لعليٍّ صوت.  

وتضيفُ الرّواياتُ أنَّه لمّا استعصى على عليٍّ بنِ أبي طالب إقناعُ المهاجرينَ بحُجّته في أحقيّتِه بالخلافة، بعد مُبايعتِهم لأبي بكر، خرجَ ليلاً يحملُ فاطمةَ على دابّتِه يطوفُ بينَ مجالسِ الأنصار يسألهم نُصرتَه، لكن من دونِ جدوى. وكانَ جوابُ الأنصاِر لفاطمة أن قالوا لها: «يا بنتَ رسولِ الله، قد مضَت بيعتُنا لهذا الرّجل، ولو أنَّ زوجَكِ وابنَ عمّك سبقَ إلينا قبلَ أبي بكر، ما عدلنا به». فردَّ عليهم عليٌّ بالقول: «أفكنتُ أدعُ رسولَ اللهِ في بيتِه لم أدفِنه، وأخرجُ أنازعُ الناسَ سلطانَه [أي خلافتَه]؟». أمّا فاطمةُ، فقد ردّت بما دافعَت به عن رأيّ عليٍّ، إذ قالت: «ما صنعَ أبو الحسنِ إلاّ ما كانَ ينبغي له، ولقد صنعوا ما اللهُ حسيبُهم وطالبُهم»             

والعجيبُ أنَّ أميرَ المؤمنينَ (عليه السّلام) قد أجابَ بنفسِه على مثلِ هذه الأسئلة عندَما أرسلَ له معاويةُ رسالةً جاء فيها: (وعلى كلّهم بغيتَ، عرفنا ذلكَ في نظرِك الشزر، وقولِك الهجر، وتنفّسِكَ الصّعداء، وإبطائِك عن الخلفاء، تقادُ إلى كلٍّ منهم كما يقادُ الفحلُ المخشوشُ حتّى تبايعَ وأنتَ كاره).  

وأجابَ أميرُ المؤمنين عليٌّ بنُ أبي طالب (عليهِ السّلام): أمّا بعد، فقد أتاني كتابُك.. وقلتُ: أنّي كنتُ أُقاد كما يقادُ الجملُ المخشوشُ حتّى أبايع.. ولعمرُ اللهِ لقد أردتَ أن تذمّ فمدحَت، وأن تفضحَ فافتُضِحت، وما على المُسلمِ مِن غضاضةٍ في أن يكونَ مظلوماً ما لم يكُن شاكّاً في دينِه ولا مُرتاباً بيقينِه..)  

ورُغمَ دعواتِ أبي بكرٍ المُتكرّرةَ لعليٍّ ولفاطمةَ بالبيعةِ، فقد امتنعا عن ذلك: أمّا عليٌّ فقد كانَ يقول إنَّ أبا بكر: «قد ادّعى ما ليسَ له». وأمّا فاطمةُ، فقد قالت: «لا عهدَ لي بقومٍ حضروا أسوأ محضرٍ منكم، تركتُم رسولَ اللهِ جنازةً بينَ أيدينا، وقطعتُم أمرَكم بينَكم، لم تستأمرونا، ولم تردّوا لنا حقّنا».  

فحاولوا بعدّةِ طرقٍ أنَّ يكسبوا عليّاً (عليهِ السّلام)، حتّى أنَّهم أرادوا أنَّ يغيّروا العبّاسَ فقالوا: (أعطوهُ نصيباً يكونُ لهُ ولعقبِه مِن بعدِه فتقطعونَ به ناحيةَ عليٍّ بنِ أبي طالب وتكونُ لكم حجّةٌ على عليٍّ إذا مالَ معكم. فردَّ عليهم العبّاس بقوله: فأمّا ما قلتَ إنَّك تجعله لي، فإن كانَ حقّاً للمؤمنينَ فليسَ لكَ أن تحكمَ فيه، وإن كانَ لنا فلِمَ نرضى ببعضِه دونَ بعض؟! وعلى رسلِك فإنَّ رسولَ اللهِ مِن شجرةٍ نحنُ أغصانُها وأنتم جيرانُها.   

وعندَما لم ينجَح هذا الأسلوبُ لجئوا إلى أسلوبِ الإكراه.  

قالَ عمرُ بنُ الخطّاب: وإنَّه كانَ مِن خبرِنا حينَ توفّى اللهُ نبيّه أنَّ عليّاً والزّبيرَ ومَن معهُما تخلّفوا عنّا في بيتِ فاطمة. فبعثَ إليهم أبو بكرٍ عُمرَ بنَ الخطّاب ليُخرجَهم مِن بيتِ فاطمة، وقالَ له: إن أبوا فاقتُلهم. فأقبلَ عمرُ بنُ الخطّاب ومَن معَه ـ بقبسٍ مِن نارٍ على أن يضرمَ عليهم الدّارَ فلقيَتهم فاطمةُ فقالت: يا بنَ الخطّابِ أجئتَ لتُحرقَ دارَنا؟! قالَ: نعم، أو تدخلوا فيما دخلَت فيهِ الأمّة. وفي أنسابِ الأشراف: فتلقّتهُ فاطمة على البابِ فقالت فاطمة: يا ابنَ الخطّابِ أتراكَ مُحرِقاً عليَّ بابي؟ قالَ: نعم. وقالَ الطبري: أتى عمرُ بنُ الخطّابِ منزلَ عليٍّ وفيه طلحةُ والزّبيرُ ورجالٌ منَ المُهاجرين، فخرجَ عليهِ الزّبيرُ مُسلّطاً بالسيفِ، فعثرَ فسقطَ السيفُ مِن يدِه فوثبوا عليه فأخذوه.  ورأت فاطمةُ ما صنعَ بهما ـ أي بعليٍّ والزّبير ـ فقامَت على بابِ الحُجرة وقالت: يا أبا بكر، ما أسرعَ ما أغرتُم على أهلِ بيتِ رسولِ الله، واللهِ لا أكلّمُ عُمر حتّى ألقى الله.  

ولهذا ولمنعِ فاطمةَ إرثهَا ومصائبَ أخرى، غضبَت فاطمةُ، ووجدَت على أبي بكرٍ فهجرَته ولم تكلّمه حتّى تُوفّيَت، وعاشَت بعدَ النبيّ ستّةَ أشهر...! فلمّا تُوفّيَت دفنَها زوجُها عليٌّ ليلاً ولم يؤذِن بها أبا بكر.  

وإذا اتّضحَ السّياقُ التاريخيُّ للأحداثِ اتّضحَت الإجابةُ على تلكَ الأسئلةِ

السّؤالُ الأوّل: هل يجوزُ للخليفةِ المُنصّبِ بالنصِّ أن يتنازلَ عن المنصبِ الإلهي؟ صحيحٌ أنَّ الخلافةَ لا تكونُ إلّا بالنصِّ، إلّا أنَّ النصَّ لا يعني إلزامَهم وإجبارَهم بالقوّة، فالنصُّ يُعبّرُ عَن أمرِ اللهِ التشريعي وتبقى إرادةُ الإنسانِ بينَ الطاعةِ والامتثالِ أو التمرّدِ والاعتراضِ، فالانقيادُ للمنصوصِ مهمّةُ المؤمنينَ وليسَت مهمّةَ النصِّ، فعدمُ استجابتِهم لأمرِ اللهِ في الوصيّةِ لا يعني أنَّ الوصيَّ قد تنازلَ عن وصيّتِه، فمثلاً لو نصَّ اللهُ على حقِّ المرأةِ في الميراث، ثمَّ ظُلمَت ومُنعَت مِن حقّها، هل هذا يعني أنّها تنازلت عَن حقّها المنصوص؟ وعليهِ فإنَّ الإمامَ عليّاً (عليهِ السّلام) ثبتَت خلافتُه بالنصِّ إلّا أنَّ القومَ تمرّدوا ولم يُسلّموا الخلافةَ إليه،   

السّؤالُ الثاني: هل تنازلهُ يُعتبرُ مدحاً أو قدحاً فيه؟ لم يكُن هناكَ تنازلٌ وإنّما كانَ هناكَ غصبٌ للخلافة.  

السّؤالُ الثالث: وهل يُعتبرُ ذلكَ طاعةً للهِ أو معصيةً في حقّه؟ مِن جهةِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) لهُ أجرُ الصّبرِ على ما أصابَه مِن نكرانِ القومِ لحقِّه، ومِن جهةِ المُنقلبينَ يُعدُّ معصيةً وتمرّداً على أمرِ اللهِ تعالى.  

السّؤالُ الرّابع: وأينَ الشجاعةُ فيمَن تركَ مخلوقاً مثله، بل أضعفَ منه قوّةً يجبرُه على تركِ منصبٍ ولّاهُ اللهُ إيّاه بالنصّ؟ هناكَ فرقٌ بين الشجاعةِ والتهوّر، فليسَ مِن حقِّ القويّ أن يستخدمَ قوّتَه مِن غيرِ ضوابطَ شرعيّة، والإمامُ عليٌّ (عليهِ السّلام) لا يبحثُ للانتقامِ لذاتِه، وقد قالَ في ذلكَ سلامُ اللهِ عليه: «لقد علمتُم أنّي أحقُّ الناسِ بها مِن غيري، وواللهِ لأسلمنَّ ما سلمَت أمورُ المُسلمين، ولم يكُن فيها جورٌ إلّا عليَّ خاصّة، التماساً لأجرِ ذلكَ وفضلِه، وزُهداً فيما تنافستموهُ مِن زخرفِه وزبرجه» فهناكَ فرقٌ بينَ الانتقامِ الشخصي وبينَ الصّبرِ مِن أجلِ مصلحةِ الرّسالة، فمنَ المعلومِ أنَّ المخاطرَ التي كانَت تُحدقُ بالإسلامِ كبيرةٌ، وخروجُ أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) بالسّيفِ سوفَ يضعفُ الإسلامَ بالفعل، فالتحرّكُ العسكريُّ مِن داخلِ المدينةِ يُهيّئُ الفرصةَ للقبائلِ المُتربّصةِ، مُضافاً لخطرِ فارسَ والرّوم التي تتحيّنُ نقاط الضّعفِ لتنقضَّ على هذهِ التجربةِ الوليدة، فروحُ المسؤوليّةِ والحرصِ على الإسلامِ جعلَ أميرَ المؤمنين (ع) يبتعدُ بنفسِه عن هذا الصّراعِ، هذا مُضافاً لوصيّةِ رسولِ اللهِ التي جاءَ فيها: (فإن وجدتَ أعواناً عليهم فجاهدهمُ وإن لم تجِد أعواناً فاكفُف يدكَ واحقُن دمَك).