"لماذا طلب الله من الملائكة علم الأسماء وهم لا يعرفونها؟"
السؤال: (كيف يطلب الله من الملائكة بقوله : {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ...} ، وهو يعلم أنّهم لا يعلمون مَن هم..؟ فالملائكة لم تحضر خلقهم ولا تسميتهم؟)
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم
، الأخ السائل المحترم ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد..
فللإجابة عن سؤالكم لابدّ من عرض تمام الآيات ذات العلاقة ، والوقوف على أجوائها ، وهي قوله تعالى:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (*) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (*) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (*) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }[سورة البقرة ، الآيات: 30 – 33] .
وكما نرى فإنّ الآيات الكريمة تشتمل على حوار دائر بين ثلاثة أطراف هم: المولى تبارك وتعالى ، والملائكة ، ثمّ آدم "عليه السلام" ، وموضوع المحاورة هو المشروع الإلهي الكبير المتمثّل باستخلاف الإنسان في الأرض ، أي جعله خليفة لله تعالى فيها ، حيث تبتدئ الآيات المذكورة بإخبار الله تعالى لملائكته بهذا المشروع الربّاني ، الأمر الذي أثار دهشة الملائكة وحفيظتهم. وقد ذكر المفسرون مجموعة مسائل مهمّة في المقام ، منها:
المسألة الأولى: وتتعلّق بمنشأ نبوءة الملائكة بفساد الإنسان في الأرض وسفكه الدماء: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}، إذ لا يمكن أن يقولوا ذلك رجماً بالغيب، وقد ذكروا له وجوهاً عديدة:
أوّلها: أنّ قولهم هذا مجرّد توقّعات جاءت كنتاجٍ وحصيلةٍ لتجربة سابقة مع مخلوقات أخرى قبل آدم صدر منها الفساد وسفك الدماء! وهذا ما عليه كثير من المفسّرين.[ينظر: مجمع البيان ج1 ص148].
والثاني: أنّ الله سبحانه أخبر الملائكة ابتداءً بأنّه جاعل في الأرض خليفة سيكون من ذرّيته من يعصي ويُفسد؛ لأنّه مخلوق من المادّة ولديه هوى، وسيتمتّع بعنصر الاختيار والإرادة..! [ينظر: علوم القرآن للسيّد محمد باقر الحكيم ص454]
والثالث: أنّ الملائكة فهموا ذلك من خلال عبارة (في الأرض)، لأنّهم علموا أنّ هذا الإنسان كائن مادّي مركب من القوى الغضبيّة والشهويّة. وكذلك فإنّ محدوديّة العالم المادّي تجعل منه مركزاً للتنافس والصراع من أجل البقاء، وهو ممّا يؤدّي إلى الفساد وسفك الدماء ؛ إذ لا يستطيع هذا العالم أن يشبع غرائز الإنسان ، أو يمنع حبّه للبقاء ، أو يقضي على طبيعة الحرص المودعة فيه. [ينظر: تفسير الميزان ج1 ص115، تفسير الأمثل ج1 ص156].
المسالة الثانية: ترتبط على نحو خاصٍّ بطبيعة السؤال المذكور: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}، فهل كان سؤالهم هذا على سبيل الإنكار - أي استفهام إنكاريّ؟ أو على نحو الاعتراض؟ أو هو تعجّب من استخلافه تعالى للبشر ، وقد علم أنّهم يفسدون ويسفكون الدماء؟ أو هو استعظام من الملائكة لردّة فعل الإنسان تجاه فضل الله عليه، فكأنهم قالوا: عجباً لهذا المخلوق، فأنت يا ربّنا تجعله خليفة فتقابلك ذرّيته بالمعصية والفساد وسفك الدماء! أليس حقّك عليهم التعظيم والتقديس كما نفعل نحن ذلك؟! أو كان طلباً لتوكيد أصل الاستخلاف حالة كون ذرّيّته مفسدين؟ أو أنّ سؤالهم هذا كان استفهاماً واستعلاماً عن وجه الحكمة والمصلحة في الاستخلاف مع كون بعض ذرّيّة الخليفة كذلك؟ فكأنّهم قالوا: يا ربّنا ما وجه الحكمة من هذا الاستخلاف مع علمك بما يترتّب عليه من فساد وسفك للدماء؟ . حكى شيخ الطائفة في ذلك وجوهاً عن المفسّرين وجعل أقواها الأخير. [ينظر. تفسير التبيان ج1 ص132].
وعليه فالمتحصّل من مجموع المسألتين أنّ الملائكة علموا جزء الحقيقة ، وأنّ بعض ذرّيّة الخليفة سيفسدون ويسفكون الدماء ، ولم يعلموا أنّ البعض الآخر سيكون منهم الأنبياء والمرسلون والأئمّة الطاهرون (عليهم السلام) والأولياء الصالحون، وأنّ هؤلاء جميعاً سيعمرون الأرض بالصلاح ويطهّرونها من ألوان الفساد والظلم لتكون خالصة لله تعالى ولعباده الصالحين ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] ، ولو كان الملائكة يعلمون تمام الحقيقة لما احتاجوا إلى السؤال عن حكمة الاستخلاف كما لا يخفى.
المسألة الثالثة: في قول الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فإنّه ظاهر في تفضيلهم لأنفسهم على هذا الخليفة بناءً على ما تقدّم من استنتاجهم المتولّد من معرفتهم لجزء الحقيقة ، وقد ركنوا في هذا التفضيل إلى ثلاثة أمور هي: التسبيح والحمد والتقديس [ينظر: تفسير الأمثل ج1 ص158] ؛ وبناء عليه فقد طلبوا من الله تعالى أن يجعل الخليفة منهم ؛ لأهليتهم لهكذا مهمّة ، ولأنّهم {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم: 6] ، وفي هذا المعنى ذكر الشيخ في التبيان رواية عن الصادق (ع) قال: «إنّ الملائكة سألت الله أن يجعل الخليفة منهم وقالوا: نحن نقدّسك ونطيعك ولا نعصيك كغيرنا، فقال أبو عبد الله (ع): فلمّا أجيبوا بما ذكر الله في القرآن ، علموا أنّهم قد تجاوزوا ما ليس لهم فلاذوا بالعرش استغفاراً، فأمر الله آدم بعد هبوطه أن يبني لهم في الأرض بيتاً يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقرّبون فقال الله تعالى: إنّي أعرَفُ بالمصلحة منكم وهو معنى قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}».[التبيان ج1 ص136].
المسألة الرابعة: أنّ صيغة (افعل) ذكروا لها معاني عديدة: كالطلب والدعاء والتسخير والاستهزاء والتحقير ونحوها من المعاني التي أوصلها بعضهم إلى خمسة عشر معنىً ، والمعروف بين المحقّقين المتأخّرين من علماء الأصول أنّ الاختلاف بين هذه المعاني إنّما هو في دواعي الاستعمال التي تكشف بدورها عن شيء ثابتٍ في نفسِ المتكلّمِ هو الذي دعاه إلى استعمالِ هذه الصيغةِ ، والذي يدلّنا على دواعي الاستعمال الموجودة في نفس المتكلّم هو جملة القرائن التي يحتفّ بها كلامه ، فمثلاً لو قال العبد: (ربِّ اغفر لي)، فإنّ طلب المغفرة مع مقام العبوديّة قرينتان على أنّ الداعي الموجود في نفس العبد لاستعمال الصيغة هو الدعاء لا انّه يريد أن يأمر ربّه - جلّ شأنه - بالمغفرة له ، وإن كانت الصيغة التي استعملها هي صيغة (افعل) الدالّة في أصل وضعها على النسبة الطلبيّة والإرساليّة ، بخلاف قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}[هود 21-22] فإنّ الصيغة مستعملة فيه التهديد ؛ لأنّ المعنى هو: (قل للمشركين: يا قوم اعملوا واثبتوا على حالتكم التي أنتم عليها من الشرك والكفر ، ودوموا على ما أنتم عليه من الظلم) [ينظر: تفسير الميزان ج7 ص357]، وليست الصيغة مستعملة هنا في الأمر والطلب المحض؛ لأنّ الله تعالى لا يأمر بالشرك والكفر ، فكان هذا قرينة على استعمالها في التهديد.
فإذا عرفت ذلك فإنّ من دواعي استعمال صيغة الأمر ما يعرف بالتعجيز ، وهو: طلب ما يعجز المخاطب من الإتيان به ؛ لأجل أنّ تبرهن له على عجزه وعدم التفاته إليه ، فمن أمثلة التعجيز قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}[البقرة:23] ، فإنّ العرب حين نزول القرآن كانت في قمّة الفصاحة والبلاغة ، وقد كانت تنكر على رسول الله (ص) أنّ ما يتلقّاه من هو من وحي السماء ، فبرهن لهم على ذلك بعجزهم عن الإتيان لو بسورة من مثلهم، لا لأنّ الله سلبهم القدرة على الإتيان بمثله كما يذكر بعضهم، بل لأنّ الكلام الإلهيّ فعلٌ من أفعاله تعالى فلا يستطيع أن يأتي به إلّا مَن كان واجب الوجود، وأمّا ممكن الوجود - كالإنسان - فهو يعجز عن الإتيان بمثله عجزاً ذاتياً لا تعجيزاً جعليّاً.
وفي مقامنا هذا فقد ذكر مفسّرو الفريقين أنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يقيم الحجّة على الملائكة - ومعهم إبليس (عليه اللعنة) - على مدى استحقاق هذا الخليفة للخلافة ، كما أراد أن يُمهّد لأمرهم بالسجود له وتعظيمه، ويُبيّن لهم عدّة أمور أخرى بواسطة إثبات عجزهم عن الرقي إلى درجة هذا الخليفة والوصول إلى فضله ، فكان ممّا أراد بيانه:
أوّلاً: وقوعهم في الخطأ حينما جعلوا من جزء الحقيقة دليلاً كافياً للحكم على الإنسان بعدم استحقاقه للخلافة.
ثانياً: وقوعهم في الخطأ أيضاً حينما أقدموا على تفضيل أنفسهم على الإنسان مستشهدين لذلك بامتيازهم على الصعيد العمليّ بما لديهم من طاعة له سبحانه وعدم معصية ، ولأدائهم للتسبيح والحمد والتقديس له جلّت عظمته ؛ فكأنّه تعالى أراد أن يقول لهم: أين تقع أعمالكم هذه وأنا لم أركّب فيكم إلّا العقل ، من أعمال وطاعة وعبادة الإنسان الذي ركبتُ فيه عقلاً وشهوةً وغضباً ، وزُيِّنتْ له الشهوات كلّها ، وقعد له الشيطان على الصراط ؛ لأجل غوايته ، وهو - أي الإنسان - مع ذلك كلّه سيعمر الأرض بطاعتي من خلال جهاد نفسه ومخالفة عدوّه من النفس والشيطان ، ويعمل على تحكيم عقله وتقوى ربّه. فأراد سبحانه أن يبرهن لهم على أنّ مناط التفضيل – عمليّاً - عنده تعالى هو مجموع جهاد النفس والشيطان ثمّ الإتيان بالطاعات.
ثالثاً: أراد سبحانه أن يثبت لهم أن المناط العملي المذكور إنّما يستند فيه الإنسان المستخلف إلى علمٍ ومعرفةٍ إلهيين، وهم كملائكة لا يملكون شيئاً من ذلك العلم وتلك المعرفة؛ وبعبارة أخرى فإنّه سبحانه أراد أن يثبت لهم على أنّ مناط التفضيل عنده تعالى هو التكامل على الصعيدين النظري والعملي - أي التكامل في العلم والعمل - لا في العمل وحده ؛ ومن هنا فقد علّم الله تعالى آدم (ع) الأسماء كلّها وما تدلّ عليه من المعاني بكامل خصائصها وصفاتها ، ومن بينها أسماء حججه على الخلق.
فلأجل تحقيق هذه الأمور الثلاثة قال تعالى للملائكة على نحو التعجيز: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم عدم استحقاق الإنسان للخلافة، وأنّكم تملكون الأفضليّة، أي إذا كنتم حقّاً أفضل من الإنسان المستخلف في الأرض فأثبتوا ذلك من خلال إخباريّ بأسماء هؤلاء؟ وهنا لمّا التفت الملائكة إلى عجزهم ، وعلموا أنّ الخليفة يملك من العلم والمعرفة ما لا يملكون ، عادوا فاعترفوا بقصورهم وتقصيرهم: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}، وإذنْ: فاستعمال الصيغة في قوله تعالى: {أَنْبِئُونِي} لم يكن نحو الطلب المحض حتّى يرد الإشكال، بل هو على نحو التعجيز وإقامة الحجّة ، روى الصدوق عن الصادق (ع): «أنّ الله تبارك وتعالى علم آدم (ع) أسماء حجج الله كلّها ثمّ عرضهم - وهم أرواح - على الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بأنّكم أحقّ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم (ع)، {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} قال الله تبارك وتعالى : {يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره فعلموا أنّهم أحقّ بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريّته ، ثمّ غيّبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبّتهم وقال لهم : {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} » [كمال الدين ص14 ]. والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق