أسباب دفن الإمام الهادي (ع) في داره..!
السؤال: لماذا دَفِنَ الامام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) في داره ولم يُدفن في مقابر المسلمين كما هي عادة المسلمين؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا ريب في كون الدفن في مقابر المسلمين سيرةً حسنةً جرى عليها المسلمون جيلاً بعد جيل منذ عصر الدعوة، فقد اتّخذ الأوائل من أرض البقيع في المدينة المنوّرة مقبرة لموتاهم، بمرأى ومسمعٍ من النبيّ (ص)، بل كان النبيّ(ص) بنفسه يدفن بعض الشخصيّات هناك، كفاطمة بنت أسد (ع)[الوسائل ج3 ص49]، والصحابيّ الجليل عثمان بن مضعون. [المغني لابن قدامة ج2 ص385]، وسعد بن معاذ [علل الشرايع ج1 ص309]، وغيرهم، لكنّ ذلك لا يعني وجوب دفن الميّت المسلم في مقابر المسلمين، بل الواجب هو أن لا يدفن في مقابر الكفّار، أو في ملك غيره من دون إذنه، أو في موضع تُهتك به حرمته، أو في أرض موقوفة لغير الدفن كالمساجد. [ينظر: منهاج الصالحين للسيّد السيستانيّ ج1 ص131] وأمّا ما عدا ذلك من الأماكن فالناس في سعة منه، فيجوز لهم دفن الميّت في داره أو في أيّ موضع آخر، وقد دُفِنَ رسول الله (ص) في داره.
وعليه فدفن الإمام الهادي (ع) في داره ليس بالأمر الجديد ولا فيه مخالفة لحكم شرعيّ إلزاميّ.
نعم ذكرت بعض الاحتمالات المطروحة كأسباب موضوعيّة، وربّما اجتمعت بعضها أو جميعها لتشكّل علّة تامّة تقف وراء دفنه (ع) في داره، وإليك بيانها:
الاحتمال الأوّل: أنّ يكون ذلك بتدخّل من السلطة العبّاسيّة بأن منعوا من دفن الإمام(ع) في المقبرة العامّة لخشيتهم من انتفاضة شيعيّة عارمة بعدما شاهدوه من فوران الغضب الشيعيّ عند تشييع جثمانه الطاهر، إذِ اجتمع الشيعة هناك من مختلف الأماكن وتكاثروا وأظهروا السخط على السلطة، وبسبب كثرتهم لم تكن دار الإمام تسعهم عندما أرادوا إقامة الصلاة على الجنازة الشريفة، فخرجوا بها للصلاة عليها في أكبر شارع في سامرّاء، وكان أغلب سكّانه من الشيعة، فخشي المعتزّ العباسيّ من الثورة عليه؛ لإدراكه أنّ جريمته النكراء بقتل الإمام(ع) مسموماً لا يمكن أن تخفى على الشيعة وأنّهم ناقمون عليه، فأوفد من ينوب عنه في التشييع، وحصل المنع احتواءً للأزمة. قال اليعقوبيّ: (وبعث المعتزّ بأخيه أحمد بن المتوكّل، فصلّى عليه في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد، فلمّا كَثُرَ الناس واجتمعوا كثرَ بكاؤُهم وضجَّتُهم، فَرُدَّ النعش إلى داره، فدفن فيها). [تاريخ اليعقوبيّ ج2 ص503 - حوادث سنة 245].
الاحتمال الثاني: أنّ بيوت آل محمّد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) قد أمر الله برفعها وأوجب تعظيمها وتوقيرها بنصِّ القرآن الكريم في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ.... الآية}[النور: 36] وقد روى الحاكم الحسكانيّ والسيوطيّ بإسنادهما إلى أنس بن مالك وبريدة معاً قالا: (قرأ رسول الله (ص) هذه الآية: {في بيوت أذن الله... إلى قوله - والأبصار}[النور: 36-37] فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، أيُّ بيوتٍ هذه؟ قال: «بيوتُ الأنبياء. فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها؟ - لبيت علي وفاطمة - قال: نعم من أفاضلها»). [شواهد التنزيل ج1 ص534، الدرّ المنثور ج5 ص50]، ووجوب التعظيم والتوقير هذا يجري في جميع بيوتات الأئمّة (عليهم السلام) كما دلّ عليه حديث الباقر(ع) مع قَتَادَة بن دِعَامة - فقيه أهل البصرة - إذْ جاء فيه: « ... فَسَكَتَ قَتَادَةُ طَوِيلاً ثُمَّ قَالَ: أَصْلَحَكَ اللَّه، واللَّه لَقَدْ جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيِ الْفُقَهَاءِ وقُدَّامَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَا اضْطَرَبَ قَلْبِي قُدَّامَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا اضْطَرَبَ قُدَّامَكَ..!، قَالَ لَه أَبُو جَعْفَرٍ(ع): وَيْحَكَ أتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ؟!، أَنْتَ بَيْنَ يَدَيْ (بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه يُسَبِّحُ لَه فِيها بِالْغُدُوِّ والآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وإِقامِ الصَّلاةِ وإِيتاءِ الزَّكاةِ)، فَأَنْتَ ثَمَّ ونَحْنُ أُولَئِكَ»[الكافي ج6 ص256]. ولا ريب في أنّ الأئمّة الثلاثة (الهادي والعسكريّ والمهديّ صلوات الله وسلامه عليهم) قد عاشوا في تلك الدار، بل كانت فيها ولادة الأمل الموعود(عجّ)؛ فلذا استحقّت التوقير والتعظيم وأصبحت مزاراً للمؤمنين. [ينظر: مقال بعنوان (لماذا دفن الإمام الهادي(ع) في داره؟ مجلّة ينابيع - العدد 11بقلم مدير التحرير أ. حيدر الجدّ].
الاحتمال الثالث: لأنّ قبور آل محمّد (صلوات الله عليهم أجمعين) تكون معدّةً لهم قبل وفاة أحدهم (ع) باعتبارها بُقعةً من بقاع الجنّة وعَرْصَةً من عرصاتها، كما دلّت على ذلك الكثير من الأخبار، منها - مثلاً - ما رواه شيخ الطائفة في [التهذيب ج6 ص22] بإسناده إلى أبي عامر الساجيّ واعظ أهل الحجاز قال: (أتيت أبا عبد الله جعفر بن محمّد(ع) فقلت له: يا بن رسول الله ما لمن زار قبره - يعني أمير المؤمنين - وعَمّر تربته؟، قال: «يا أبا عامر حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه الحسين بن عليّ عن عليّ(ع) أنّ النبيّ(ص) قال له: والله لَتُقتَلَنَّ بأرض العراق وتُدفن بها، قلت: يا رسول الله ما لِمَن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟، فقال لي: يا أبا الحسن إنّ الله جعل قبرك وقبر وِلدك بقاعاً من بقاع الجنّة وعرصة من عرصاتها، وإنّ الله جعل قلوبَ نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحنُّ إليكم وتحتمل المذلّة والأذى فيكم، فيَعمُرون قبوركم ويُكثرون زيارتها تقرّباً منهم إلى الله مودّة منهم لرسوله، أولئك يا عليُّ المخصوصون بشفاعتي والواردون حوضي، وهم زوّاري غداً في الجنّة»). [ينظر عن الوجهين: مقال بعنوان (لماذا دفن الإمام الهادي(ع) في داره؟ مجلّة ينابيع - العدد 11بقلم مدير التحرير أ. حيدر الجدّ].
الاحتمال الرابع: أن يكون ذلك بأمرٍ من الإمام الهادي (ع) قُبيل وفاته؛ ليبقى قبره الشريف شاخصاً لشيعته ومحبّيه ويكون معروفاً لديهم؛ إذ لو دفن في المقابر العامّة للمسلمين لم يمتنع أن يصير القبر في معرض الخراب والاندراس، أو يشتبه بغيره من القبور، ولاسيّما مع ملاحظة ما رواه شيخ الطائفة بإسناده إلى أبي موسى المنصوريّ قال:« قال يوماً الإمام عليّ بن محمّد(ع): يا أبا موسى، أُخرجتُ إلى سُرَّ من رأى كرهاً، ولو أُخرجتُ عنها خَرجتُ كرها. قال: قلت: وَلِمَ يا سيدي؟، قال: لِطيب هوائها وعذوبة مائها وقلّة دائها، ثمّ قال: تخرب سُرَّ مَن رأى حتّى يكونَ فيها خانٌ، وبقَّالٌ للمارَّةِ، وعلامة تدارك خرابها تدارك العمارةِ في مشهدي مِن بعدي»[أمالي الطوسيّ ص281]، فكان كما قال (ع)، حيث هُجرت سامراء تماماً بعد تولّي المعتضد للخلافة (279 هـ) وعودته بها رسميّا إلى بغداد. قال ياقوت الحمويّ: (كان آخر من انتقل إلى بغداد من الخلفاء وأقام بها وترك سر من رأى بالكُليّة المعتضد بالله أمير المؤمنين كما ذكرناه في التاج، وخربت حتّى لم يبق منها إلّا موضع المشهد الذي تزعم الشيعة أنّ به سرداب القائم المهديّ ومحلّةٌ أخرى بعيدة منها يقال لها كرخ سامراء وسائر ذلك خرابٌ يَبابٌ يستوحش الناظر إليها بعد أن لم يكن في الأرض كلّها أحسن منها ولا أجمل ولا أعظم ولا آنس ولا أوسع مُلكاً منها، فسبحان من لا يزول ولا يحول)[معجم البلدان ج3 ص176]، وبقيت خراباً لأكثر من خمسين عاماً حتّى جاء عام (333 هـ) فقام ناصر الدولة الحمدانيّ ببناء قبري الإمامين (عليهما السلام) فعادت الحياة إلى سامرّاء مجدّداً [فهرست التراث لمحمّد حسين الجلاليّ ج1 ص320].
كما لا يبعد أن يكون ذلك لتَخَوَّف الشيعة أنفسهم على الجثمان الطاهر من التمثيل به لاحقاً، أو لخشيتهم على القبر الشريف من الهدم والتخريب عن قصد وتعمّد من قبل السطلة وأزلامها، وبالتالي منعهم من زيارته، فأرادوا بدفنه (ع) في داره حفظ الجثمان الطاهر وتوقير القبر الشريف وضمان المداومة على زيارته. وكيف لا يفعلون ذلك، وقد شاهدوا بأمّ أعينهم نبش بني العبّاس لقبر سيّد الشهداء الحسين (ع) عدّة مرات وبطرق بشعة، فضلاً عن منعهم من زيارته! [ينظر: مقاتل الطالبيين ص395]، وفي ذلك يقول الشاعر ابن الروميّ وهو المعاصر لتلك الأحداث:
بنفسي الأُلَى كَظَّتْهُمُ حَسَرَاتُكُمْ * فَقَدْ عُزِلُوا قَبْلَ المَمَاتِ وَحُشْرِجُوا
ولم تَقْنَعُوا حَتّى استَثَارَتْ قُبُورُهُمْ * كِلاَبَكُمُ منها بَهِيمٌ وَدَيْزَجُ
[ينظر: تمام قصيدته في المصدر السابق ص424 وما بعدها]. والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق