نُبْذَةٌ عَنْ حَيَاةِ إِمَامِنَا الهَادِي (ع).
أَحْمَدُ العِرَاقِيُّ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. مَعَ قُرْبِ حُلُولِ ذِكْرَى وِلَادَةِ وَشَهَادَةِ الإِمَامِ عَلِيٍّ الهَادِي {ع} نَرْجُو مِنْ جَنَابِكُمُ الكَرِيمِ أَنْ تُزَوِّدُونَا عَنْ حَيَاةِ هَذِا الإِمَامِ العَظِيمِ؟
الأَخُ أَحْمَدُ المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
هُوَ أَبُو الحَسَنِ، عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الهَادِي (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، عَاشِرُ أَئِمَّةِ الهُدَى وَأَنْوَارِ الدُّجَى مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ)، وُلِدَ فِي الثَّانِي مِنْ رَجَبَ سَنَةَ 212 ه، وَامْتَدَّتْ إِمَامَتُهُ المُبَارَكَةُ 34 عَامًا، قَضَى أَكْثَرَهَا مُحْتَجَزًا بِأَمْرِ المُتَوَكِّلِ العَبَّاسِيِّ فِي سَامَرَّاءَ، فَقَدْ كَانَ لِتَسَنُّمِ المُتَوَكِّلِ لِلخِلَافَةِ أَثَرُهُ الكَبِيرُ فِي التَّضْيِيقِ عَلَى الأَئِمَّةِ (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ) وَشِيعَتِهِمْ، يَقُولُ أَبُو الفَرَجِ الأَصْفَهَانِيُّ فِي "مَقَاتِلِهِ": (كَانَ المُتَوَكِّلُ شَدِيدَ الوَطْأَةِ عَلَى آلِ أَبِي طَالِبٍ، غَلِيظًا عَلَى جَمَاعَتِهِمْ، مُهْتَمًّا بِأُمُورِهِمْ، شَدِيدَ الغَيْظِ وَالحِقْدِ عَلَيْهِمْ، وَسُوءَ الظَّنِّ وَالتُّهْمَةِ لَهُمْ، وَاتَّفَقَ لَهُ أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ ابْنَ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ وَزِيرَهُ يُسِيءُ الرَّأْيَ فِيهِمْ،
فَحَسَّنَ لَهُ القَبِيحَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ، فَبَلَغَ فِيهِمْ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي العَبَّاسِ قَبْلَهُ، وَكَانَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ كَرَبَ قَبْرَ الحُسَيْنِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَعَفَى أَثَارَهُ، وَوَضَعَ عَلَى سَائِرِ الطُّرُقِ مَسَالِحَ لَهُ لَا يَجِدُونَ أَحَدًا زَارَهُ إِلَّا أَتَوْهُ بِهِ فَقَتَلَهُ أَوْ أَنْهَكَهُ عُقُوبَةً). انْتَهَى [مَقَاتِلُ الطَّالِبِيِّينَ، ص 478].
وَقَدْ نَقَلَ المُؤَرِّخُونَ كَيْفِيَّةَ إشْخَاصِ المُتَوَكِّلِ لِلإِمَامِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مِنَ المَدِينَةِ إِلَى سَامَرَّاءَ:
عَنْ ابْنِ الجَوْزِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ هَرْثَمَةَ - الَّذِي تَوَلَّى جَلْبَ الإِمَامِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) إِلَى سَامَرَّاءَ - قَالَ: (وَعِنْدَمَا أَرْسَلَنِي المُتَوَكِّلُ إِلَى المَدِينَةِ لإِشْخَاصِ الإِمَامِ الهَادِي (عَلَيْهِ السَّلَامُ) إِلَى سَامَرَّاءَ، وَدَخَلْتُ المَدِينَةَ، ضَجَّ أَهْلُهَا ضَجِيجًا عَظِيمًا مَا سَمِعَ النَّاسُ بِمِثْلِهِ خَوْفًا عَلَى الإِمَامِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ))، وَأَضَافَ يَحْيَى: (وَقَامَتِ الدُّنْيَا عَلَى سَاقٍ; لِأَنَّهُ كَانَ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ مُلَازِمًا). [تَذْكِرَةُ الخَوَاصِّ، ج 2، ص 492].
وَعَنْ الخَطِيبِ البَغْدَادِيِّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ 463 ق): (أَشْخَصَهُ جَعْفَرٌ المُتَوَكِّلُ مِنْ مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِلَى بَغْدَادَ، ثُمَّ إِلَى سَامَرَّاءَ، فَقَدِمَهَا وَأَقَامَ بِهَا عِشْرِينَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَدُفِنَ بِهَا فِي أَيَّامِ المُعْتَزِّ العَبَّاسِيِّ). [تَارِيخُ بَغْدَادَ، ج 12، ص 56].
وَمِنْ مَوَاقِفِ المُتَوَكِّلِ مَعَ إِمَامِنَا الهَادِي (عَلَيْهِ السَّلَامُ) كَمَا يَنْقُلُ المَسْعُودِيُّ فِي كِتَابِهِ "مُرُوجِ الذَّهَبِ" ج 4، ص 11، قَالَ: نُمِّيَ إِلَى المُتَوَكِّلِ بِعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَنَّ فِي مَنْزِلِهِ كُتُبًا وَسِلَاحًا مِنْ شِيعَتِهِ مِنْ أَهْلِ قُمٍّ، وَأَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الوُثُوبِ بِالدَّوْلَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَمَاعَةً مِنْ الأَتْرَاكِ، فَهَاجَمُوا دَارَهُ لَيْلًا، فَلَمْ يَجِدُوا فِيهَا شَيْئًا، وَوَجَدُوهُ فِي بَيْتٍ مُغْلَقٍ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ مَدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الرَّمْلِ وَالحِصِيِّ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَتْلُو آيَاتٍ مِنْ القُرْآنِ. وَعَلَى هَذِهِ الحَالِ حُمِلَ إِلَى المُتَوَكِّلِ العَبَّاسِيِّ، وَأُدْخِلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ المُتَوَكِّلُ فِي مَجْلِسِ شَرَابٍ، وَبِيَدِهِ كَأْسُ الخَمْرِ، فَنَاوَلَ الإِمَامَ الهَادِيَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فَرَدَّ الإِمَامُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): "وَاللهِ مَا خَامَرَ لَحْمِي وَلَا دَمِي قَطُّ فَاعْفِنِي" فَأَعْفَاهُ. فَقَالَ لَهُ: "أَنْشِدْنِي شِعْرًا" فَقَالَ الإِمَامُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): "أَنَا قَلِيلُ الرِّوَايَةِ لِلشِّعْرِ" فَقَالَ: "لاَبُدَّ". فَأَنْشَدَهُ:
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ غُلْبُ الرِّجَالِ فَمَا أَغْنَتهُمُ القُللُ.
وَاسْتَنْزَلُوا بَعْدَ عِزٍّ عَنْ مَعَاقِلِهِمْ فَأُودِعُوا حُفَرًا، يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوا.
نَادَاهُمُ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ مَا قُبِرُوا أَيْنَ الأَسُرَّةُ وَالتِّيجَانُ وَالحُلَلُ؟
أَيْنَ الوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً مِنْ دُونِهَا تُضْرَبُ الأَسْتَارُ وَالكلَلُ.
فَأَفْصَحَ القَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُمْ تِلْكَ الوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُّودُ يَقْتَتِلُ.
قَدْ طَالَمَا أَكَلُوا دَهْرًا وَمَا شَرِبُوا فَأَصْبَحُوا بَعْدَ طُولِ الأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا
وَطَالَمَا عَمَّرُوا دُورًا لِتَحْصِنَهُمْ فَفَارَقُوا الدُّورَ وَالأَهْلِينَ وَانْتَقَلُوا
وَطَالَمَا كَنَزُوا الأَمْوَالَ وَادَّخَرُوا فَخَلَّفُوهَا عَلَى الأَعْدَاءِ وَارْتَحَلُوا
أَضْحَتْ مَنَازِلُهُمْ قَفْرًا مُعَطَّلَةً وَسَاكِنُوهَا إِلَى الأَجْدَاثِ قَدْ رَحَلُوا
جَلَالَتُهُ وَمَنْزِلَتُهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ:
قَالَ فِي حَقِّهِ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِهِ "العِبَرِ : " ((وَفِيهَا - أَيْ سَنَةَ 254 هِجْرِيَّة - تُوَفِّي أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الجَوَادِ مُحَمَّدِ بْنِ الرِّضَا عَلِيِّ بْنِ الكَاظِمِ مُوسَى... العَلَوِيُّ الْحُسَيْنِيُّ المَعْرُوفُ بِالهَادِي، تُوُفِّيَ بِسَامَرَّاءَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ فَقِيهًا إِمَامًا مُتَعَبِّدًا)) انْتَهَى [العِبَرُ فِي أَخْبَارِ مَنْ غَبَرَ 1: 228].
وَعَنْ اليَافِعيِّ فِي "مِرْآةِ الجِنَانِ": ((فِيهَا [سَنَةَ 254] تُوُفِّيَ العَسْكَرِيُّ أَبُو الحَسَنِ الهَادِي بْنُ مُحَمَّدٍ الجَوَادِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا بْنِ مُوسَى الكَاظِمِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، العَلَوِيُّ الْحُسَيْنِيُّ، عَاشَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَكَانَ مُتَعَبِّدًا فَقِيهًا إِمَامًا... وَكَانَ قَدْ سُعِيَ بِهِ إِلَى المُتَوَكِّلِ ...)). انْتَهَى [مِرْآةُ الجِنَانِ وَعِبْرَةُ اليَقْظَانِ 2: 119].
وَجَاءَ عَنْ ابْنِ العِمَادِ الحَنْبَلِيِّ فِي "شَذَرَاتِ الذَّهَبِ" وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ وَفِيَّاتِ سَنَةَ (254 ه): ((وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الجَوَادِ مُحَمَّدِ بْنِ الرِّضَا عَلِيِّ بْنِ الكَاظِمِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، العَلَوِيُّ الْحُسَيْنِيُّ المَعْرُوفُ بِالهَادِي، كَانَ فَقِيهًا إِمَامًا مُتَعَبِّدًا...)) (85). [ شَذَرَاتُ الذَّهَبِ 2: 272].
وَعَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ المَالِكِيِّ فِي "الفُصُولِ المُهِمَّةِ": ((قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: فَضْلُ أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الهَادِي قَدْ ضَرَبَ عَلَى الحُرَّةِ بَابَهُ، وَمَدَّ عَلَى نُجُومِ السَّمَاءِ أَطْنَابَهُ، فَمَا تُعَدُّ مَنْقَبَةٌ إِلَّا وَإِلَيْهِ نِحْلَتُهَا، وَلَا تُذْكَرُ كَرِيمَةٌ إِلَّا وَلَهُ فَضِيلَتُهَا، وَلَا تُورَدُ مَحْمَدَةٌ إِلَّا وَلَهُ تَفَضُّلُهَا وَجُمْلَتُهَا... فَكَانَتْ نَفْسُهُ مُهَذَّبَةً، وَأَخْلَاقُهُ مُسْتَعْذَبَةً، وَسِيرَتُهُ عَادِلَةً، وَخِلَالُهُ فَاضِلَةً)). انْتَهَى [الفُصُولُ المُهِمَّةُ: 270].
هَذَا، وَقَدْ قُبِضَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مَسْمُومًا بِسُرَّ مَنْ رَأَى فِي يَوْمِ الإِثْنَيْنِ المُصَادِفِ الثَّالِثِ مِنْ رَجَبَ سَنَةَ 254 ه، كَمَا يَنُصُّ عَلَى ذَلِكَ جَمْعٌ مِنْ الأَعْلَامِ. [الأَنْوَارُ البَهِيَّةُ - الشَّيْخُ عَبَّاسٌ الْقُمِّيُّ -: 297].
عَظَّمَ اللهُ أُجُورَكُمْ بِشَهَادَةِ إِمَامِنَا الهَادِي (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَلَا حَرَمَنَا اللهُ مِنْ شَفَاعَتِهِ وَشَفَاعَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ الأَطْهَارِ.
وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.
اترك تعليق