ما الفرقُ بين هذهِ الألفاظ (الزوجُ، الأهلُ، المرأة) الواردة في القرآنِ الكريم؟
السّلام عليكُم ورحمة الله وبركاتُه،
لا يخفى أنّ هذهِ الألفاظَ (الزوجُ، الأهلُ، المرأة) ذاتُ مفاهيمَ متنوّعةٍ ومعانٍ متباينة، فالزوجُ يطلقُ على كلِّ واحدٍ منَ القرينين، والأهلُ يُطلقُ على القرابةِ، والامرأةُ يطلقُ على الأنثى البالغة.. ويمكنُ استعمالها بإرادةِ قرينةِ الرجلِ وزوجِه، فيصحُّ أن يُعبّرَ عن زوجِ شخصٍ بأنّها زوجُه وأهله وامرأتُه، كما هوَ واضح.
وقد جاءَ الاستعمالُ القرآنيُّ متنوّعاً، فتارةً يعبّرَ بالمرأةِ كما في قولِه تعالى: {إِذ قَالَتِ امرَأَةُ عِمرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرتُ لَكَ مَا فِي بَطنِي مُحَرَّرًا}[آل عمران: 35]، وأخرى يعبّرُ بالزوجةِ كما في قولِه تعالى: {وَقُلنَا يَا آدَمُ اسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ الجَنَّةَ}[البقرة: 35]، وثالثةً يعبّرُ بالأهلِ كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهلِهِ امكُثُوا إِنِّي آنَستُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنهَا بِخَبَرٍ أَو جَذوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُم تَصطَلُونَ}[القصصُ: 29].
ولا شكّ أنّ هذا التنويعَ في الاستعمالِ القرآنيّ له أسبابُه الموضوعيّةُ التي قد ندركُ بعضَها مِن جهاٍت بلاغيّةٍ وأدبيّةٍ ونحوِها وقد نجهلُ أو نغفلُ عن بعضِها الآخر. ولا يخفى أنّ أكثر أسرارِ القرآنِ الكريم مجهولةٌ بالنسبةِ لنا؛ بسببِ قصورِ الأدواتِ العلميّةِ المُتاحةِ فعلاً، وكلّما شهدَت العلومُ تطوّراً وتبلوراً كلّما تفتّقَت معارفُ جديدةٌ مطويّةٌ في القرآن. ويشترطُ في فتقِ المعارفِ القرآنيّةِ أن يكونَ البحثُ مبنيّاً على أسسٍ علميّة، لا أن تكونَ مبنيّةً على استحساناتٍ واستذواقات ونحوِ ذلك ممّا لا ينضبط.
وقد شاعَت مقالةٌ تفرّقُ بينَ كلمتي (زوج) و(امرأة) في الاستعمالِ القرآنيّ؛ بأنّ كلمةَ زوج تستعمَلُ في حالةِ الوحدةِ والانسجامِ في العقيدةِ كما في قولِه تعالى: {وَقُلنَا يَا آدَمُ اسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ الجَنَّةَ}[البقرة: 35]، وكلمة امرأة تستعمل في حالة الاختلاف في العقيدة كما في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمرَأَةَ نُوحٍ وَامرَأَةَ لُوطٍ}[التحريم: 10].
ولكنَّ هذا واضحُ الخطأ؛ إذ جاءَ استعمالُ كلمةِ زوج في حالةِ عدمِ الانسجام في العقيدةِ كما جاءَ استعمالُ كلمةِ امرأةٍ في حالةِ الانسجامِ في العقيدة، يقولُ اللهُ تعالى: {وَامرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَت فَبَشَّرنَاهَا بِإِسحَقَ وَمِن وَرَاء إِسحَقَ يَعقُوبَ}[هود: 71]، ويقولُ تعالى: {إِذ قَالَتِ امرَأَةُ عِمرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرتُ لَكَ مَا فِي بَطنِي مُحَرَّرًا}[آل عمران: 35].
وفي الحقيقةِ هذهِ المقالةُ مُستلّةٌ مِن كلامِ الدكتورةِ عائشة بنتِ الشاطئ؛ إذ أنّها ـ حسبَ اطّلاعنا ـ أوّلُ مَن فرّقَ بينَ كلمتي (زوج) و(امرأة)، وقد ردّ على كلامِها الدكتورُ فضل حسن واستنبطَ فرقاً آخر، يستحسنُ استعراضُهما والتعليقُ عليهما:
الكلامُ الأوّل:
قالت الدكتورة بنتُ الشاطئ في كتابِها [الإعجازُ البيانيُّ للقرآنِ الكريم ص229]: « كلمةُ زوج تأتي حيثُ تكونُ الزوجيّةُ هيَ مناطُ الموقفِ حكمةً وآية، أو تشريعاً وحكماً.. فإذا تعطّلَت آيتُها منَ السكنِ والمودّةِ والرحمة، بخيانةٍ أو تباينٍ في العقيدةِ فامرأةٌ لا زوج ».
وهذا المقدارُ منَ الكلامِ واضحُ الفسادِ بما تقدّم، وقد حكاهُ عنها الدكتور فضل حسن في كتابِه [لمساتٌ ولطائفُ منَ الإعجازِ البياني ص107] وقالَ: « وما جاءَ في آياتِ اللهِ تباركَ وتعالى لا يشهدُ لهذا الذي قالته »، ثمّ قال: « أمّا قولُ الكاتبةِ بأنّ المرأةَ تُستعملُ حينما تتعطّلُ آيتُها منَ السكنِ والرحمةِ والمودّةِ بخيانةٍ أو تباينِ عقيدة، فشيءٌ نعجبُ منه، فلئِن جازَ في امرأةِ نوحٍ وامرأةِ لوط، فإنّه لا يجوزُ في غيرِهما، قالَ تعالى يحدّثنا عَن إبراهيم (عليهِ السّلام): {وَامرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَت}[هود: 71]، وعن زكريّا: {وَكَانَتِ امرَأَتِي عَاقِرًا}[مريم: 8] ».
والإنصافُ أنّ الدكتورة بنتَ الشاطئ لم تغفَل عن هاتينِ الآيتين، ولهذا قالت بعدَ كلامِها المُتقدّم: « وحكمةُ الزوجيّةِ في الإنسانِ وسائرِ الكائناتِ الحيّة مِن حيوانٍ ونبات هي اتّصالُ الحياةِ بالتوالدِ، وفي هذا السياقِ يكونُ المقامُ لكلمةِ زوج.. فإذا تعطّلَت حكمةُ الزوجيّةِ في البشرِ بعُقمٍ أو ترمّلٍ فامرأةٌ لا زوج، كالآياتِ في امرأةِ إبراهيمَ وامرأةِ عمران.. ».
أقولُ: وكلامُ الدكتورةِ واضحٌ في أنّ كلمةَ المرأةِ تُطلقُ في حالِ تعطّلِ آيةِ الزوجيّةِ بخيانةٍ أو تباينٍ في العقيدة، وفي حالِ تعطّلِ حكمةِ الزوجيّة بالعُقمِ أو الترمّل، وأنَّ كلمةَ الزوجِ تُطلقُ في حالِ عدمِ تعطّلِ آيةِ الزوجيّةِ ولا حكمتِها.
ولكِن يلاحظُ عليه: أنَّ القرآنَ الكريمَ استعملَ كلمةَ الزوجِ في حالِ تعطّلِ آيةِ الزوجيّةِ وحكمتِها أيضاً، كما في قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنكُم وَيَذَرُونَ أَزوَاجًا}[البقرة: 234]، فإنّ كلمةَ الزوجِ استُعملَت في المرأةِ الأرملةِ والمفروضُ أن حكمةَ الزوجيّةِ قد تعطّلَت بالترمّلِ، وقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبتَغِي مَرضَاةَ أَزوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إلى قولِه: {وَإِذ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعضِ أَزوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَت بِهِ وَأَظهَرَهُ اللَّهُ عَلَيهِ عَرَّفَ بَعضَهُ وَأَعرَضَ عَن بَعضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَت مَن أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ * إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَولَاهُ وَجِبرِيلُ وَصَالِحُ المُؤمِنِينَ وَالمَلَائِكَةُ بَعدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}[التحريم: 1ـ4]، فإنّ هاتينِ المرأتينِ لم يُرزَق النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) منهما بولدٍ، كما أنّ عقيدتَهما مُباينةٌ للعقيدةِ الحقّة، وبهذا قد تعطّلَت آيةُ الزوجيّةِ وحكمتُها معاً، وكذا في قولِه تعالى: {النَّبِيُّ أَولَى بِالمُؤمِنِينَ مِن أَنفُسِهِم وَأَزوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم}[الأحزاب: 6] حيثُ تعطّلَت آيةُ الزوجيّةِ وحكمتُها في بعضِ نساءِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، إلى غيرِ ذلكَ منَ الآياتِ الكريمة.
الكلامُ الثاني:
قالَ الدكتور فضل حسن في كتابِه [لمساتٌ ولطائفُ من الإعجازِ البياني ص108]: « وبعدَ الوقوفِ مع الآياتِ الكريمةِ وتدبّرِها نستنتجُ أنَّ هناكَ فرقينِ بينَ هاتينِ الكلمتين: الأوّلُ: أنَّ امرأة تُطلقُ على الأنثى منَ الناسِ حتّى لو لم تكُن ذاتَ بعل.. أمّا زوج فلا تكونُ إلّا حينَما يكونُ رباطُ الزوجيّةِ قائماً، فكلُّ زوجٍ امرأة، وليسَ كلُّ امرأةٍ زوجاً. الثاني: تطلقُ كلمةُ زوج حينَما يُناط أمرٌ بينَ الزوجين، أي حينَما تكونُ قضيّةٌ مُشتركة: { اسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ}، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِأَزوَاجِكَ}، {وأَصلَحنَا لَهُ زَوجَهُ}، {وَإِن فَاتَكُم شَيءٌ مِن أَزوَاجِكُم} ».
ويُلاحظُ على الفرقِ الأوّل: أنّه تفريقٌ مفهوميٌّ راجعٌ لمدلولِ الكلمتينِ بحدّ ذاتِهما، بينَما الكلامُ في الفرقِ الدلاليّ في استعمالِ كلمةِ (امرأة) مضافةً للرجلِ بحيثُ تفيدُ معنى الزوجيّة، وحينئذٍ يكونُ الكلامُ في الفارقِ بينَ (زوجةِ فلان) وبينَ (امرأةِ فلان)، وبهذا يظهرُ أنَّ تفريقَه الأوّلَ خارجٌ عن محلِّ الكلام.
ويلاحظُ على الفرقِ الثاني: أنّه مشوّشٌ وغيرُ واضح؛ إذ ما طبيعةُ ذاكَ الأمرِ المناطِ بينَ الزوجين؟ ومَن الذي أناطه؟ فهل يُفهمُ أنّه لم يكُن هناكَ أمرٌ مناطٌ بينَ النبيّ إبراهيم (عليهِ السّلام) وزوجتِه في قولِه تعالى: {وَامرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَت}، وبينَ النبيّ زكريّا (عليهِ السّلام) وزوجتِه ولهذا جاء: {وَكَانَتِ امرَأَتِي عَاقِرًا}؟!
الحاصلُ: إنَّ محاولاتِ الباحثينَ لمعرفةِ الفرقِ الدلاليّ بينَ كلمتي (المرأةِ) و(الزوجِ) في الاستعمالِ القُرآنيّ لا بأسَ بها في حدِّ ذاتِها، إلّا أنّها غيرُ تامّةٍ ولا وافية؛ لورودِ النقضِ عليها بآياتٍ أخرى كما تقدّم.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق