الحججُ الإلهيّونَ والاصطفاءُ الإلهي  

تقول الشيعة ان النبي محمد صلى الله عليه واله نبياً منذ الصغر، كذلك النبي عيسى عليه السلام كما صرح القرآن بذلك (آتاني الكتاب وجعلني نبيا)، السؤال: كيف صارا نبيين ولم يأتيا بأي عمل لكونهم ما زالوا صغاراً وغير مكلفين؟

: سيد حسن العلوي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

إنّ المقاماتِ الإلهيّةَ كالنبوّةِ والإمامةِ، ليسَت مقاماتٍ اكتسابيّةً مِن دارِ الدّنيا والمادّةِ والنشأةِ الأرضيّة، بل هيَ مقاماتٌ اصطفائيّةٌ وهبيةٌ اختياريّة، لها مناشئُ وارتباطٌ بعوالمَ سابقةٍ، وارتباطٌ بنفسِ هذا العالمِ أيضاً، يختارُ اللهُ تعالى لها خاصّةَ خلقِه، ممَّن يعلمُ بحالِهم قبلَ أن يخلقَهم بأنّهم سيكونونَ على طاعتِه وعبادتِه ومحبّتِه و.. و.. فاختارَهم أنبياءَ وحججاً على الخلق، وابتلاهُم وامتحنَهم في عوالمَ سابقةٍ، فنجحوا في تلكَ الامتحاناتِ، ثمَّ أنزلَهم إلى هذا العالمِ أنبياءَ وحججاً إلهيّين.  

قالَ تعالى مُخاطباً ملائكتَه: { إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفة } فقد اختارَ آدمَ خليفةً له قبلَ أن يخلقَه.  

ووردَ في دعاءِ النّدبة: اللهُمَّ لكَ الحَمدُ عَلى ما جَرى بِهِ قَضاؤُكَ في أولِيائِكَ، الذين استَخلَصتَهُم لِنَفسِكَ وَدِينِكَ، إذِ اختَرتَ لهُم جَزِيلَ ما عِندَكَ مِنَ النَّعِيمِ المُقِيمِ، الذي لا زَوالَ لهُ وَلا اضمِحلالَ، بَعدَ أن شَرَطتَ عليهِمُ الزُّهدَ في دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنيا الدَّنِيَّةِ، وزُخرُفِها وزِبرِجِها، فشَرَطُوا لكَ ذلكَ، وعَلِمتَ مِنهُمُ الوَفاءَ بِهِ، فقبِلتَهُم وقرَّبتَهُم، وقدَّمتَ لهُمُ الذِّكرَ العَلِيَّ، والثَّناءَ الجَلِيَّ، وأهبَطتَ عَلَيهِم مَلائِكتَكَ، وكرَّمتَهُم بِوَحيِكَ، وَرَفَدتَهُم بِعِلمِكَ، وَجَعَلتَهُمُ الذَّرِيعَةَ إليكَ، وَالوَسِيلَةَ إلى رِضوانِكَ. (الإقبالُ لابنِ طاووسٍ ج1 ص 504، بحارُ الأنوارِ ج99 ص104).  

فقد اختارَ اللهُ أنبياءَه وحُججَه على الخلقِ وخلقَهم قبلَ خلقِ هذا العالمِ المادّي، واشترطَ عليهم شروطاً، فقبلوا بتلكَ الشروط، وكانَ اللهُ عالماً بأنّهم سيفونَ بتلكَ الشروط، وامتحنَهم في عوالمَ مُتقدّمةٍ كعالمِ الذرِّ وما قبلها، ثمَّ أهبطَهم أنبياءَ وحُججاً إلهيّينَ في هذا العالمِ المادّي، وامتحنَهم أيضاً، فخرجوا مرفوعي الرأسِ في جميعِ تلكَ الامتحاناتِ، وكانَ أكثرُهم امتحاناً وابتلاءً النبيُّ وأهلُ بيتِه المعصومينَ (صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين).  

  

امتحاناتٌ متنوّعةٌ في عوالمَ سابقةٍ:  

الموقفُ الأوّلُ: امتحانُ عالمي الذرِّ والطينة: وهوَ امتحانٌ عامٌّ لجميعِ الخلِق بما فيهم الأنبياءُ وغيرُهم.  

روى الكُليني بسندٍ صحيحٍ إلى الحسنِ بنِ محبوب، عن صالحٍ بنِ سهلٍ عن أبي عبدِ الله (عليهِ السّلام) أنّ بعضَ قُريشٍ قالَ لرسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): بأيّ شيءٍ سبقتَ الأنبياءَ وأنتَ بُعثتَ آخرَهم وخاتمَهم؟   

فقالَ: إنّي كنتُ أوّلَ مَن آمنَ بربّي، وأوّلَ مَن أجابَ حيثُ أخذَ اللهُ ميثاقَ النبيّينَ وأشهدَهم على أنفسِهم ألستُ بربّكم؟ فكنتُ أنا أوّلَ نبيٍّ قالَ: بلى، فسبقتُهم بالإقرارِ باللهِ عزَّ وجل. (الكافي للكليني: 2 / 10).  

وروى الكُليني بسندٍ صحيحٍ عن زرارةَ أنَّ رجلاً سألَ أبا جعفرٍ (عليهِ السّلام) عن قولِ اللهِ عزَّ وجل: { وإذ أخذَ ربُّكَ مِن بني آدمَ من ظهورِهم ذرّيتَهم وأشهدَهم على أنفسِهم ألستُ بربّكم قالوا بلى } إلى آخرِ الآية. فقالَ وأبوهُ يسمعُ (عليهما السّلام): حدّثني أبي: أنّ اللهَ عزَّ وجلَّ قبضَ قبضةً مِن ترابِ التربةِ التي خلقَ منها آدمَ (عليهِ السّلام) فصبَّ عليها الماءَ العذبَ الفراتَ ثمَّ تركها أربعينَ صباحاً، ثمَّ صبَّ عليها الماءَ المالحَ الأجاجَ، فتركَها أربعينَ صباحاً، فلمّا اختمرَت الطينةُ أخذَها فعركَها عركاً شديداً، فخرجوا كالذرِّ مِن يمينِه وشمالِه، وأمرَهم جميعاً أن يقعوا في النارِ، فدخلَ أصحابُ اليمينِ، فصارَت عليهم برداً وسلاماً، وأبى أصحابُ الشمالِ أن يدخلوها. (الكافي للكُليني: 2 / 7 رقم 2).  

وفي روايةٍ: فيروونَ أنَّ رسولَ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أوّلُ مَن دخلَ تلكَ النارَ، فلذلكَ قوله عزَّ وجل: { قُل إن كانَ للرّحمنِ ولدٌ فأنا أوّلُ العابدين. }. (نفسُ المصدر).  

وفي روايةٍ أخرى: فكانَ أوّلُ مَن دخلَها محمّدٌ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) ثمَّ اتّبعَه أولو العزمِ منَ الرّسلِ وأوصياؤهم وأتباعُهم. (الكافي للكُليني: 2 / 11).  

وهذانِ امتحانانِ عظيمانِ، أوّلهما: امتحانُ الإجابةِ لنداءِ اللهِ عندَما سألَ الخلقَ أجمعين: { ألستُ بربّكم } فالأوائلُ إجابةً هُم الأوائلُ هُنا، بمعنى: أنّهم الحُججُ الإلهيّونَ والصدّيقونَ ورجالُ اللهِ في هذهِ الدّنيا. وأمّا المُتأخّرونَ فكلٌّ حسبَ مقامِه.  

وثانيهما: امتحانُ الدخولِ في النار، حيثُ دخلَها مَن دخلها، وتوقّفَ مَن توقف.  

  

الموقفُ الثاني: امتحانُ عالمِ الأنوار:   

وهو امتحانٌ خاصٌّ بمحمّدٍ وآلِ محمّد (صلواتُ اللهِ عليهم) حيثُ لا أحدَ منَ الخلقِ سواهم، وذلكَ عندَما خلقَهم دعاهُم، فأطاعوه.  

روى الطبريُّ والجوهريّ كلٌّ منهُما بسندِه إلى سليمانَ الأعمشِ، عَن محمّدٍ بنِ خلفَ الطاطري، عن زاذان، عَن سلمانَ (رضيَ اللهُ عنه)، قالَ: قالَ لي رسولُ اللهِ (صلّى

اللهُ عليهِ وآله): إنَّ اللهَ (تباركَ وتعالى) لم يبعَث نبيّاً ولا رسولاً إلّا جعلَ لهُ إثني عشرَ نقيباً.  

فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، لقد عرفتُ هذا مِن أهلِ الكتابين.  

فقالَ: يا سلمانُ: هل علمتَ مَن نُقبائي ومَن الإثني عشرَ الذينَ اختارَهم اللهُ للأمّةِ مِن بعدي؟  

فقلتُ: اللهُ ورسولهُ أعلم.

فقالَ: يا سلمانُ، خلقني اللهُ مِن صفوةِ نورِه، ودعاني فأطعتُه، وخلقَ مِن نوري عليّاً، ودعاهُ فأطاعَه، وخلقَ مِن نورِ عليٍّ فاطمة، ودعاها فأطاعَته، وخلقَ منّي ومِن عليٍّ وفاطمةَ: الحسن، ودعاهُ فأطاعَه، وخلقَ منّي ومِن عليٍّ وفاطمة: الحُسين ، فدعاهُ فأطاعه.  

ثمَّ سمّانا بخمسةِ أسماء مِن أسمائِه، فاللهُ المحمودُ وأنا مُحمّد، واللهُ العليُّ وهذا علي، واللهُ الفاطرُ وهذهِ فاطمة، واللهُ ذو الإحسانِ وهذا الحسنُ، واللهُ المُحسنُ وهذا الحُسين.  

ثمَّ خلقَ منّا ومِن نورِ الحُسين، تسعةَ أئمّةٍ، فدعاهُم فأطاعوه، قبلَ أن يخلقَ سماءً مبنيّةً، وأرضاً مدحيّة، ولا ملكاً ولا بشراً، وكنّا نوراً نُسبّحُ اللهَ، ونسمعُ لهُ ونُطيع... (دلائلُ الإمامةِ لابنِ جريرٍ الطبري، ص448، مقتضبُ الأثرِ لابنِ عيّاشَ الجوهري، ص40، الهدايةُ الكُبرى للخصيبي، ص635).  

  

ووردَ في زيارةِ السيّدةِ الزهراءِ (عليها السّلام) عن الإمامِ الجوادِ (عليهِ السّلام): يا مُمتحنةُ امتحنَكِ اللهُ الذي خلقَكِ قبلَ أن يخلقكَ فوجدَك لِما امتحنكِ صابرة. (تهذيبُ الأحكامِ للطوسي: 6 / 10).  

وهل هوَ امتحانُ عالمِ الأنوار؟ أم عالمِ الذرِّ؟ أم عالمِ الطينةِ؟ أم جميعِها؟   

أم هوَ امتحانٌ قبلَ هذهِ الامتحاناتِ، وهوَ امتحانٌ في علمِ الله؟  

قالَ الشيخُ مُحمّد السند: فإنّ الامتحانَ في رُتبةِ العلمِ الرّبوبيّ والاصطفاءِ والاختيارِ والانتجابِ في أفقِ العلمِ الإلهيّ قبلَ خلقِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وقبلَ خلقِ الزهراءِ (عليها السّلام)، يدلُّ على وقوعِ العلمِ الإلهي على خصوصيّةٍ في تلكَ الذواتِ المُطهّرةِ التي حباها اللهُ بختمِ النبوّةِ والحُجّيّةِ على الخلق.  

ونظيرُ ذلكَ ما يصنعُه الزارعُ، فإنّه يرجعُ في انتخابِ البذرِ والزرعِ إلى علمِه بخصائصِ البذورِ وأنواعِ ثمارِها وصالحِها مِن طالحِها، ثمّ يختارُ أَنفسَها جودةً وطيبة، ويُسمّى هذا بالامتحانِ في مقامِ العلمِ قبلَ الإيجادِ والوجودِ الخارجي. (الإمامةُ الإلهيّةُ لمُحمّد السند: 2 – 3 / 199).  

  

الخلاصةُ: إنّ اللهَ قبلَ أن يخلقَ الخلقَ كانَ يعلمُ أنّ بعضَ خلقِه سيكونونَ في ذروةِ المعرفةِ والطاعةِ والعبادةِ لهُ تعالى، فخلقَهم وجعلَهم أنبياءَ وأئمّةً وحُججاً إلهيّينَ، ثمَّ امتحنَهم في عوالمَ سابقةٍ على هذا العالمِ، فنجحوا في الامتحاناتِ بأعلى الدرجاتِ، ثمَّ أنزلهم إلى الأرضِ وجعلهم أنبياءَ وحُججاً إلهيّينَ، وأمرَ الخلقَ بطاعتِهم واتّباعِهم، وأيضاً زجَّهم في الامتحاناتِ والابتلاءاتِ، الواحدةَ تلوَ الأخرى، وهُم في جميعِ ذلكَ يخرجونَ مَرفوعي الرأسِ مُنتصبي القامة.  

هذا حديثُ الاختيارِ والاصطفاءِ الإلهيّ باختصار.  

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.