ما هوَ السبيلُ لمعالجةِ حالةِ التخلّفِ التي تعاني منها الأمّةُ وهل ذلكَ بسببِ بعضِ القراءاتِ المشوّهةِ للإسلام؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
التقدّمُ والنهوضُ لهُ علاقةٌ بالوعي الذي تحملهُ المُجتمعاتُ، فالمجتمعُ الذي يحملُ وعياً تقدّميّاً وثقافةً حيّةً ومُتطلّعةً نحوَ المُستقبلِ سوفَ ينعكسُ ذلكَ على واقعِه السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصادي، وبذلكَ يمكنُنا القولُ أنَّ التخلّفَ هوَ تخلّفُ الإنسانِ وليسَ شيئاً آخر.
والمعالجاتُ للمُشكلاتِ الحضاريّةِ يجبُ أن تكونَ مُعالجاتٍ معرفيّة، وقيميّة، وثقافيّة، ممّا ينعكسُ بدورهِ على السّلوكِ الحضاريّ للمُجتمع، وبما أنَّ الإسلامَ هوَ الذي يُمثّلُ البناءَ المعرفيَّ والقيميّ والثقافيّ والسّلوكيّ، وبما أنَّ الواقعَ الحضاريَّ للأمّةِ مُتخلّفٌ، فلابدَّ أن تكونَ الإشكاليّةُ في الارتباطِ المشوّهِ للمُسلمينَ بالإسلامِ على المُستوى المعرفي والقيميّ والثقافي.
وإذا أردنا أن نُلخّصَ عواملَ التخلّفِ في سببٍ مركزيّ، يمكنُ القولُ أنَّ الانحرافَ الذي حدثَ في المسارِ التاريخيّ للإسلامِ بعدَ انتقالِ النبيّ هوَ السّببُ في كلِّ ذلك، حيثُ ابتُليَت الأمّةُ بأنظمةٍ سياسيّةٍ عملَت على إفراغِ الإسلامِ مِن مُحتواهُ القيميّ والحضاري، فعملَت على جعلِه مُجرّدَ طقوسٍ وشعائرَ لا علاقةَ لها بالقيمِ الكُبرى والغاياتِ السّاميةِ التي أرادَها الإسلامُ للإنسان، فمنَ الطبيعيّ أن لا تستقرَّ السّلطةُ للأنظمةِ الغاشمةِ في جوِّ معرفةٍ إسلاميّةٍ مُتطلّعةٍ للحريّةِ والعدالةِ والمُساواة، ولذا عملَت على جعلِ الإسلامِ رسالةً للحياةِ بعدَ الموت ومِن أجلِ عالمٍ غيرِ عالمِ الدنيا، ومِن هُنا تمَّ تلخيصُ الإسلامِ في بعضِ السلوكيّاتِ العباديّة، وتمَّ تحجيمُ العبادةِ في شكلٍ طقوسيٍّ لا علاقةَ له بدورِ العبادةِ في صناعةِ حياةٍ فاضلةٍ للإنسان، وهكذا تمَّ تهميشُ الإنسانِ في الخطابِ الإسلاميّ الرسمي وتمَّ استبعادُه كقيمةٍ لها دورٌ حضاريٌّ يجبُ أن يؤدّيه، وتركّز الاهتمامُ بدلاً عن ذلكَ بالمظاهرِ الطقوسيّةِ التي يجني مكاسبَها في عالمِ الآخرةِ وليسَ في عالمِ الدّنيا.
ولذا نجدُ أنَّ حقيقةَ الانتماءِ للإسلامِ ضمنَ الوعي الرسميّ للدّين، لا تتجاوزُ النظرةَ القشريّةَ للأحكامِ والتشريعات، فتحوّلَ الإسلامُ عندَ بعضِ التيّاراتِ إلى ممارساتٍ ظاهريّةٍ تقفُ عندَ حدودِ الشعيرةِ دونَ أن تتعدّاها إلى المضمونِ والجوهر، فالصّلاةُ، والزكاةُ، والصّومُ، والحجُّ، وغيرُها منَ العباداتِ، لا تعدو كونَها واجباتٍ يثابُ عليها الإنسانُ يومَ القيامة - ضمنَ هذا الوعي السطحي -، أمّا على مُستوى الحياةِ الدّنيا، فلا تشكّلُ قيمةً ملموسةً لها علاقةٌ بالسلوكِ الحضاريّ للإنسان، وقد ساعدَ على ذلكَ إهمالُ الفقهِ التقليدي للبحثِ في حكمِ الأحكامِ وقيمِ التشريعاتِ، وهوَ البُعدُ الذي يمكنُ أن يفتحَ البابَ أمامَ فهمٍ جديدٍ للفقهِ يستوعبُ حاجاتِ الإنسانِ وطموحاته، وبالتالي فإنَّ الخطابَ الإسلاميّ المتوارثَ في الجُملة، قد عملَ على تفريغِ الدينِ مِن مُحتواه المُتمثّلِ في القيم.
وفي المُحصّلة؛ ما لم ينجَح فيه الخطابُ الإسلاميّ إلّا نادراً هوَ تصويرُ مفهومٍ حيويٍّ للدّين، وقد ساعدَ الاصطفافُ والتمذهبُ الداخليّ على الابتعادِ بالإسلامِ عن غاياتِه الضروريّة، وما حصلَ مِن انحرافٍ في مسيرةِ الإسلامِ السياسيّة ساعدَ على إفراغِه مِن مُحتواهُ القيمي، حتّى أصبحَ الإسلامُ تصوّراتٍ نظريّةً عقائديّة تفنّنَت كتبُ الكلامِ في تصويرِها وشرحِها والدفاعِ عنها، أو منظومةً منَ الأحكامِ العباديّة نُظمَت وبوّبَت ورُتّبت لكِن لا بالشكلِ الذي يجعلها ضرورةً حياتيّة، وإنّما قُدّمَت بالشكلِ الذي يكونُ ثمنُ الالتزامِ بها في دارٍ غيرِ دارِ الدّنيا، والأمرُ الوحيدُ الذي أصبحَ له حضورٌ منَ الدينِ في الحياةِ هوَ بعضُ التوصياتِ الأخلاقيّة. أمّا الكلامُ عن فلسفةِ الإسلامِ وأهدافِه في الحياةِ ورؤيتِه الحضاريّة إن لم يكُن معدوماً فهوَ رؤيةٌ محدودةٌ قاصرة، بحيثُ لو سألنا عن الهدفِ منَ الإسلامِ لكانَت (الجنّة) هيَ جوابُ الجميعِ دونَ أيّ اكتراثٍ لحياةِ الإنسانِ في الدنيا.
وعليهِ؛ ما يحتاجُه خطابُنا الإسلاميُّ المُعاصر هوَ تقديمُ فهمٍ مُتكاملٍ للدّين يكونُ تقدّمُ الإنسانِ أحدَ عناصرِه الضروريّة، الأمرُ الذي يقودُنا إلى تفكيكِ كلِّ التصوّراتِ التقليديّة التي تمنعُ الإنسانَ منَ التقدّمِ أو التي لا تحقّقُ دفعاً كافياً نحوَ النهوضِ الحضاريّ للإنسان، ودراسةُ كلِّ ذلكَ برؤيةٍ قرآنيّةٍ بعيداً عن الاسقاطاتِ السلبيّةِ لتجربةِ المُسلمينَ، وما يجبُ التأكيدُ عليه هوَ أهميّةُ الإنسانِ في أيّ خطابٍ مُقترح، ومقاربةُ الحقائقِ الدينيّةِ بالشكلِ الذي تُعزّزُ محوريّةَ الإنسان، قالَ تعالى: (وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ مِمَّن خَلَقنَا تَفضِيلًا) فإذا أضاعَ
الإنسانُ كرامتَه فإنّهُ حتماً سيُضيعُ معها حياتَه ورزقَه وتميّزَه وبالتالي حضارتَه.
وفي المُحصّلةِ إنَّ الفهمَ المشوّهَ للإسلامِ وعزلَه عن واقعِ الحياةِ، أو الفهم الذي لا يُحمّلُ الإنسانَ مسؤوليّةَ النهوضِ هوَ المسؤولُ عن هذا الواقعِ المُتخلّف.
اترك تعليق