هل يكرّس الإسلام ثقافة القطيع؟
السؤال: هل منهج الدين الإسلاميّ يكرّس ثقافة القطيع.. أيّ أنّ النصوص الدينيّة تعزّز سلوك التنفيذ من غير مناقشة أو تحليل أو نقد.. وسواء كان الشخص عالما أم متعلّما أم جاهلا، فعليه الطاعة العمياء سواء كان معتقدا بما يفعل معرفيّاً وعقلائيّاً أم غير معتقد؟
الجواب:
في بادئ الأمر لا بدّ أن نقف على معنى (ثقافة القطيع) لنرى هل ينطبق هذا المعنى على المنهج الإسلاميّ أو لا؟ إذْ إنّ (ثقافة القطيع) أو (سلوك القطيع) أو (عقليّة القطيع) مصطلح يشير إلى تحكّم المجتمع في سلوك أفراده، أو هو ظاهرة نفسيّة تجعل الأفراد في حالة من الاتّباع الأعمى للمجموع من دون مسوّغٍ منطقيّ أو تفكير نقديّ، إذْ يميل الأفراد إلى اتّباع الأغلبيّة أو القائد في المجموعة، سواء تعلّق ذلك بالأمور الاقتصاديّة أم الاجتماعيّة أم السياسية أم غير ذلك.
ومن ذلك يتّضح أنّ ثقافة القطيع نتاج خاصيّة موجودة عند البشر وهي خاصيّة (التوافق الاجتماعيّ)، أي أنّ الإنسان كفرد يجد نفسه مندفعاً غريزيّاً للتأقلم مع المجموع خوفاً من العزل والاستبعاد، وكلمّا كانت ثقافة المجتمع أكثر تأثيراً وهيمنة قلّت القدرة النقديّة والتفكيريّة عند الأفراد، إلى درجة تجد الأفراد يقومون بسلوكيّات مخالفة حتّى لقناعاتهم الشخصيّة أو متناقضة مع القواعد العامّة للتفكير المنطقيّ.
ومن أمثلة ثقافة القطيع اتّباع الموضة في اللّبس والأكل وجميع السلوكيّات الشائعة في المجتمع، فكلمّا تظهر موضة في المجتمع تجد الأكثريّة تنساق إليها من دون تفكير، وهكذا تشكّل ثقافة القطيع حالة ضاغطة على الأفراد في كلّ مناحي الحياة، وفي العادة تستغلّ الاتّجاهات السياسيّة أو الاقتصاديّة هذه الحالة لتصنع ثقافة عامّة من أجل فرض توجّهاتها أو تسويق منتجاتها.
وعليه فإنّ ثقافة القطيع لها علاقة بطبيعة المجتمعات ومدى هيمنة الرأي العامّ على الأفراد، ولا ربط لها بالمناهج الدينيّة أو العلمانيّة، فقد يكون المجتمع علمانيّاً ومع ذلك يسيطر على أفراده ثقافة القطيع، أو يكون المجتمع متديّناً ولكن أفراده أكثر تحرّراً واستقلاليّة، وبشكل عامّ ثقافة القطيع تمثّل هيمنة المجتمع على أفراده في أيّ مكان وفي أيّ زمان وعند جميع الشعوب.
وإذا رجعنا للنصوص الإسلاميّة نجدها تحذّر وبشكل مباشر من خضوع الفرد وانجراره وراء ثقافة القطيع بعكس ما تصوّر صاحب السؤال، فالكثير من النصوص القرآنيّة قدّمت معالجات جذريّة لمشكلات العقل الجمعيّ، وضرب القرآن الكثير من الأمثلة التي تدلّ على ضرورة تحرّر العقل من هيمنة المجموع، كما قدّم القرآن مجموعة من التوصيات التي تحصِّن الأفراد من محاولات العقل الجمعيّ السلبيّ في التأثير على الناس، ونذكر هنا بعض النماذج روماً للاختصار.
أوّلاً: تحرير الإسلام للعقل البشريّ من تأثير المجموع، إذْ حثَّ القرآن الكريم الإنسان على التحرّر من قيود العقل الجمعيّ التي تعيق تفكيره الفرديّ، وقد أكّد ذلك بشكل صريح في كثير من الآيات التي تنهى عن تقليد الآباء كقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا)، وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ)، فهذه الآيات وغيرها كشفت عن المنهجيّة الخاطئة التي اعتمد عليها هؤلاء، وهي التقليد الأعمى للأسلاف واتّباعهم من دون وعي وإدراك، إذْ يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ في هذه الآية: "كان كفرهم وعبادتهم الأصنام ينبع من نوع آخر من الوثنيّة، هو التسليم الأعمى للعادات الخرافيّة التي كان عليها أسلافهم، معتبرين ممارسات أجدادهم لها دليلاً قاطعاً على صحّتها، ويردُّ القرآن بصراحة على ذلك بقوله: (أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون)، أيْ لو كان أجدادكم الذين تستندون إليهم في العقيدة والعمل من العلماء والمهتدين لكان اتّباعكم لهم اتّباع جاهل لعالم، لكنّكم تعلمون أنّهم، لا يعلمون أكثر منكم، ولعلّهم أكثر تخلّفاً منكم، ومن هنا فإنّ تقليدكم إيّاهم تقليد جاهل لجهّال" (تفسير الأمثل ج 4 ص 170).
وعليه فإنّ حركة تحرّر العقل من أعظم ما قدّمه القرآن للبشريّة، فالقرآن لا يهدف إلى تحرير الجسد من الأسر المادّي فقط، وإنّما يهدف إلى تحرير العقل من جميع القيود التي تمنعه من التفكير الحرّ، ومن هنا كان الأمر بالعقل والتفكّر من أهمّ مقاصد القرآن الكريم، يقول تعالى في سورة سبأ واصفاً وسائل النجاة من ثقافة القطيع: (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ * قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ).
في هذه الآيات، يُصوّر القرآن سلوك المجموع الناتج من تأثير العقل الجمعيّ الفاسد، الذي قادهم إلى تكذيب الرسل، ولذلك كانت النصيحة مختصرة في أمر واحد: (أن يقوموا لله مثنى وفرادى ثمّ يتفكّروا) فالسـرُّ في هذا التوجيه هو تحريرهم من ثقافة القطيع، وفتح الطريق أمام العقل بتحطيم القيود التي يصنعها العقل الجمعيّ الفاسد، وبذلك وحده يمكنهم إدراك أن صاحبهم ليس به جنون بل هو نذير مبين، أيْ أنّهم لن يتمكّنوا من إدراك تلك الحقيقة وهم تحت تأثير ثقافة القطيع، ولذا دعاهم للتفكير فرادى أو في مجموعات ضيّقة، وبذلك يتّسع الأفق أمام التفكير الفردي وتتجلّى عبقريّة التحرّر، وعليه فالآية دعوة صريحة إلى التحرّر من قيود المجموع والانطلاق نحو رحابة التفكير الحّر بصورة فرديّة، والذي يؤكّد ذلك أنّ القرآن أعطى كلّ الحريّة للعقل ليقوم بوظائفه الفكريّة دون إملاء أو قيود، وترك له الحريّة في اختيار الطريق الذي يصل به إلى الدين الحقّ، قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).
ثانياً: تحذير القرآن من العقل الجمعيّ وثقافة القطيع.
إذْ لم يُذكرْ العقل الجمعيّ نصّاً في القرآن، لكن وردت معانيه بأشكال مختلفة، منها لفظ "الملأ" الذي يصف الجماعة المؤثّرة والمسيطرة على الرأي العامّ، يقول تعالى: (قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، ويقول: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، ويقول: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ)، وقد تكرّر ذكر الملأ في القرآن 12 مرّة ومعظمها في سياق قصص بني إسرائيل وفرعون، وهو ممّا يبرز خطر العقل الجمعيّ في تضليل الناس.
كما أشار القرآن إلى أنّ الأكثريّة ليست معياراً للحقّ والحقيقة، بل أكّدت آيات القرآن على أنّ الأكثريّة هم الذين لا يعلمون كقوله تعالى: (ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)، أو أنّهم لا يعقلون (قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون )، أو أنّهم كافرون، (فأبى أكثر الناس إلّا كفورا)، أو أنّهم مشـركون (كان أكثرهم مشركين) أو أنّهم لا يشكرون (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) كلّ ذلك يوضّح خطورة تأثير التجمّعات الكبيرة على ضلال الأفراد ومنعهم من التفكير السليم .
ثالثاً: نماذج التحرّر من أسر العقل الجمعيّ في القرآن الكريم، إذْ ضرب القرآن الكثير من الأمثلة التي أشاد فيها بتمرّد العقل الفرديّ على العقل الجمعيّ، ومن ذلك قصّة أهل الكهف التي ذكرها القرآن كنموذج لانتصار العقل الفرديّ على العقل الجمعيّ، فهؤلاء الفتية الذين آمنوا بالله وزادهم الله هدى، تفرّدوا بعقولهم واعتزلوا قومهم الذين اتّخذوا آلهة من دون الله انسياقاً مع ثقافة القطيع التي كانت حاكمة، وقد وقف هؤلاء الفتية في وجه تلك الثقافة الضالّة وطالبوا قومهم بدليل وسلطان بيّن على ما يعتقدون، قال تعالى: (هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، أيْ أنّ قومهم لم يقدّموا دليلاً واضحاً وصحيحاً على ما ذهبوا إليه، وكلّ ما كانوا عليه هو الخضوع والتسليم للثقافة الغالبة في مجتمعهم، وعندما كان منطق قومهم الوحيد هو الظلم والاعتداء اضطرّ الفتية للاعتزال واللّجوء إلى الكهف ليبسط لهم ربّهم من رحمته ويهيّئ لهم من أمرهم مرفقًا، قال تعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُـرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا)، هكذا قدّم القرآن نموذجاً لتمرّد العقل من تأثير ثقافة القطيع وخلّد ذكر هؤلاء الفتية إلى يوم القيامة.
وكذلك الحال مع سحرة فرعون الذين سايروا ثقافة القطيع لفترة من الزمن؛ بل قد يكونوا من المساهمين الأساسين فيها، ولكن بعد تحرّرهم من سيطرة تلك الثقافة أعلنوا رفضهم لها وتحمّلوا في ذلك ما تحمّلوا، وقد مجدّهم القرآن وأشاد بهم ومدح صمودهم وتحدّيهم، قال تعالى: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضـِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، فهؤلاء السحرة، الذين عاشوا سنين تحت تأثير العقل الجمعيّ، عندما رأوا الآيات ورجعوا إلى عقولهم آمنوا بالحقّ وكفروا بما كان عليه فرعون وقومه، فقال لهم فرعون: (آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكم)، عادّاً خروجهم عن العقل الجمعيّ من دون إذنه جريمة تستوجب العقاب الشديد، ولذا هدّدهم قائلاً: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ)، فعندما يستنير العقل ويدرك الحقيقة يصبح أقوى من كلّ تهديد أو ترغيب فقالوا له: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضـِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، وهكذا خلّد القرآن هذه الملحمة ليرثي قاعدة محوريّة وهي أنّ الحقّ أحقّ أن يتّبع.
وفي الختام، يتّضح لنا أنّ الإسلام قد أرسى قواعد راسخة تدعو إلى تحرّر العقل من الاتّباع الأعمى من دون نظرٍ وتفحّص، وقد صرّحت أحاديث المعصومين بذلك، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: "لا تكونوا إمّعة، تقولون: إنْ أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا" وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال لرجل من أصحابه: "لا تكوننّ إمّعة، تقول: أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس" وفي الشعر المنسوب للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول:
إذا المشكلات تصدّين لي * كشفت حقائقها بالنظر...
ولست بإمّعة في الرجال * أُسائل هذا وذا ما الخبر؟
ولكنّي مدرّب الأصغرين * أبيّن مع ما مضى ما غبر
(ميزان الحكمة ج3 ص 2620). والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق