إمامة إبراهيم اصطلاحيّة لا لغويّة

السؤال: هل يصحّ أنْ يقال: أنَّ الإمامة التي نالها إبراهيم (عليه السلام) في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} النبوّة والرسالة، بمعنى: (إنّي جاعلك للناس نبيّا)؟

: السيد أبو اَلحسن علي الموسوي

الجواب:

لا يخفى على أهل العلم والمتتبّعين لكلمات المتكلّمين أنّ أصحابنا الإماميّة (أعلى الله برهانهم) استدلّوا بهذه الآية على إثبات إمامة الأئمّة الاثني عشر، وبطلان إمامة غيرهم، تارةً بأنّ الإمامة هبة إلهيّة كالنبوّة، مقدّرة بجعلٍ من الله تعالى، لا بسعي من العبد، فلا يحقّ للأمّة اختيار الإمام، وإنّما هو من شأن الله تعالى وحده.

وتارةً أخرى بأنّ الإمامة هي العهد الوارد في الآية، التي لا ينالها غير المعصوم من ذرّيّة إبراهيم (عليه السلام)، إذِ استدلّوا بها على إمامة أئمّة الهدى (عليهم السلام).

قال الشيخ الطبرسيّ: (واستدلّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ الإمام لا يكون إلّا معصوماً عن القبائح؛ لأنّ الله سبحانه نفى أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم، ومَن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إمّا لنفسه وإمّا لغيره) [مجمع البيان ج1 ص377].

فإذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ هذا البيان والتعليل لم تطب له نفوس المخالفين، فحاولوا تفسير الآية الكريمة بكون المعنى المراد من الإمامة المقصودة في هذه الآية هو المعنى اللّغوي، أيْ (القدوة)، فيُراد من إمامة إبراهيم (عليه السلام) هي النبوّة والرسالة، فلذا زعموا أنّها ليست دليلاً أو نصّاً في الإمامة الاصطلاحيّة.

واستشهدوا لذلك: بأنّ الله تعالى جعل النبوّة في ذريّة إبراهيم (عليه السلام)، ولم يجعل الإمامة الاصطلاحيّة؛ وذلك في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب} [العنكبوت: 27]، فلو كانت الإمامة الاصطلاحيّة هي المقصودة التي طلبها إبراهيم لذريّته لذكرها الله تعالى في هذه الآية.

والجواب عن ذلك بما يلي:

أنّ تفسيرهم للإمامة بالنبوّة يتعارض مع كون إبراهيم (عليه السلام) نبيّاً قبل أن يكون إماماً؛ لأنّ قصّة الإمامة - التي نالها إبراهيم (عليه السلام) - كانت في أواخر عهده، وذلك في سنّ الكهولة، وسألها لذرّيّته مع أنّه لم يرزق الذرّيّة إلّا في سنّ الكبر، في حين أنّ النبوّة أُعطيت له من قبل في حال فتوّته؛ إذْ يقول تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]، وعليه فلا معنى لأنْ يُقال له مرةً أخرى: إنّي جاعلك للناس نبيّاً، وقد دلّت على ذلك الأخبار عن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، فقد ورد: « إنّ اللّه تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، وإنّ اللّه تعالى اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً، وإنّ اللّه اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، وإنّ اللّه تعالى اتّخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً » [الكافي ج1 ص 175].

أضف إلى ذلك: أنّ لفظةَ {إِمَامًا} في الآية مفعولٌ ثانٍ لعامله الذي هو قوله: {جَاعِلُكَ}، وجاعل: اسم فاعل، واسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، وإنّما يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، وعليه فلا يمكن أن يكون الجعل متعلّقاً بالنبوّة التي كان قد تلبّس بها إبراهيم (عليه السلام) في الماضي، فهذا الجعل - أيْ جعله إماماً - حادثٌ جديد، فهو مقام مغاير للنبوّة.

قال الشيخ الطوسيّ: (فقد قال الله تعالى لنبيّه إبراهيم (عليه السلام) لمّا ابتلاه الله بكلمات فأتمّهنّ قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}، فوعده أن يجعله إماماً للأنام... جزاءً له على ذلك، فلو كانت النبوّة لا تنفصل من الإمامة لَمَا كان لقوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} معنىً؛ لأنّه من حيث كان نبيّاً وجب أن يكون إماماً على قول المخالف، كما لا يجوز أن يقول: إنّي جاعلك للناس نبيّاً وهو نبيّ) [ينظر: الرسائل العشر ص١١٣].

وأمّا الاستشهاد بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب}، فهو غير صحيح؛ لوجهين:

أحدهما: أنّ الآية الكريمة أرادت أنْ تبيّن أنّ النبوّة مجعولةٌ في ذرّية إبراهيم (عليه السلام)، وهي ساكتة عن موضوع الإمامة وعن موضوع الرسالة كما لا يخفى، فهي في مقام البيان من جهة استمراريّة النبوّة في ذريّة إبراهيم (عليه السلام)، وليست في مقام البيان من جهة نفي الإمامة والرسالة من ذريّته، وقد ذكر كثير من العلماء من الفريقين: أنّ الله تعالى لم يبعث نبيّاً بعد إبراهيم (ع) إلّا من نسله [ينظر: مجمع البيان ج8 ص21، تفسير السمعاني ج4 ص177، تفسير البغوي ج3 ص465، تفسير القرطبي ج13 ص340، تفسير ابن كثير ج2 ص183، وغيرها].

والآخر: أنّنا لـمّا أثبتنا أنّ الإمامة المجعولة من الله تعالى هي غير النبوّة المجعولة له، وأنّ إبراهيم (عليه السلام) نال الإمامة بعد أنْ كان نبيّاً، فحينئذٍ يكون قول إبراهيم (عليه السلام): {وَمِن ذُرِّيَّتِي} عقب جعله إماماً سؤالاً صريحاً لله تعالى عن ذرّيّته التي تأتي من بعده، ليعرف منه منِ الذي سينال مرتبة الإمامة كما حصل الأمر معه، وأنّ جواب الله تعالى له بـ{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} سيكون دليلاً واضحاً على أنّ العهد يراد به الإمامة وليس النبوّة، فتكون الآية دالّة على جعل الإمامة في ذريّة إبراهيم (عليه السلام)، في حين أنّ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب} دليلٌ على جعل النبوّة فيهم، وإذنْ: فمتعلّق الجعل في الآيتين مختلفٌ، فتدبّر!

وأمّـا ما ذهب إليه بعضُ المناوئين من طرح احتمال آخر حاصله: أنّ نبوّة إبراهيم كانت في درجة أدنى ثمّ صارت في درجة أعلى، فهو محضُ ادّعاء لا دليل عليه كما هو واضح.