هل هناك تناقض بين الآيتين 65 و66 من سورة الأنفال
السؤال: هل هناك تناقض في الآيتين الكريمتين: قول تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ)، ويقول في الآية الثانية: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) سورة الانفال اية65 و 66
الجواب:
اعلم أخي القارئ الكريم أنّ استحالة اجتماع النقيضين من المبادئ التي يرتكز عليها العقل في قبول الأفكار ورفضها، والكشف عن وجود تناقض في الأفكار يتوقّف على معرفة معنى التناقض وشروطه، ومن أهمّ تلك الشروط التي ترتبط بمقامنا هذا هو اتّساق السياق موضوعاً واتّحاده زماناً ومكاناً، فالعبارات التي تتهمّ بالتناقض هي العبارات التي تقدّم الشيء وعكسه في سياق واحد وضمن اتّساق مشترك في الزمان والمكان والموضوع، ولا تتهمّ العبارات بالتناقض إذا اختلفت موضوعاتها أو إذا اتّحدت موضوعاتها ولكن اختلفت في الزمان أو المكان أو اللّحاظ.
وبناءً على ذلك إذا نظرنا للآيات مورد السؤال نجد أنّ الآيتين 65 و66 من سورة الأنفال تتناولان مسألة واحدة وهي القتال في سبيل الله وكيفيّة توجيه المؤمنين في هذا الشأن، ففي الآية الأولى (65) أمر الله رسول تحريض المؤمنين على القتال وأنّهم إذا صبروا بمقدورهم مواجهة عشرة أضعاف عددهم، أي نسبة 1:10، وعليه تكون الآية نصّاً في إمكانية ذلك إذا تحقّق شرط الصبر عند المؤمنين (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)، ونفهم من الآية أنّها لم تكلّفهم بالقتال فحسب وإنّما كلّفتهم بالصبر الذي يتحمّل الواحد معه مواجهة عشرة من العداء.
وفي الآية الثانية (66)، خفّف الله عنهم هذا التكليف عندما علم أنّ نفوسهم لا تطيق هذا النوع من الصبر، وجعل النسبة في القتال بين المؤمن والكافر هي 1:2، أي أنّ كلّ مؤمن يُتوقّع منه أن يواجه شخصين من الأعداء (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا).
ولا يفوتنا أيضاً أن نشير إلى وجود اختلاف زمانيّ ومكانيّ، أي أنّ الآيات لا تتحدّث عن معركة واحدة وفي زمان ومكان واحد، فالآية الأولى تأتي في سياق تشجيع المؤمنين على القتال والصبر في بداية العمل الجهاديّ، إذْ كان المسلمون أقلّيّة وكانوا يتمتّعون بقوّة إيمانيّة عالية وبعزيمة قويّة تمكّنهم من مواجهة أعداد كبيرة من الأعداء، لذلك جاءت الآية لتحفّزهم على الصمود والثبات، مشيرةً إلى أنّ المؤمنين ببصائرهم ومعرفتهم للحقّ يمكنهم التغلّب على الكفّار الذين يفوقونهم بعشرة أضعاف؛ وذلك لأنّ الكفّار (قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ)، أي أنّهم يفتقرون إلى الفهم العميق والإيمان الراسخ.
وعندما ازداد عدد المسلمين وكثر جمعهم خفّف الله عنهم التكليف السابق، فقال: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ)، وهو ممّا يدلّ على انتقال من حالة إلى أخرى، فبعد مرور فترة من الزمن وبعد تجارب متعدّدة في القتال، علم الله أنّ في المؤمنين ضعفاً - قد يكون بسبب اعتدادهم بعددهم وقوّتهم - فخفّف الله عنهم عبء مواجهة عشرة أضعاف من الأعداء، وجعل النسبة 1:2، أيْ أنّ كلّ مؤمن يُتوقّع منه الآن أن يقاتل رجلين فقط من الأعداء، ولا يعني هذا ضعفاً في الإيمان بقدر ما هو اعتراف بأنّ القدرات البشريّة لها حدود، وتتأثّر بالظروف المختلفة، وأنّ الشريعة الإسلاميّة تراعي هذه الحدود والظروف.
وفي المحصلة الآيتان تعكسان حكمة الله تعالى في توجيه المؤمنين حسب قدراتهم الواقعيّة، فعبّرت الآية الأولى عن مرحلة من القوّة والعزيمة العالية، وعبّرت الآية الثانية عن مرحلة أخرى أثّرت فيها الظروف على قدرات المؤمنين فخفّف الله عنهم، وهذا التدرج في التشريع يعبّر عن رعاية الله لخلقه وتوجيههم بما يناسب حالتهم، وهو ممّا يؤكّد عدم وجود تناقض بل انسجام وتكامل بين الآيتين.
اترك تعليق