خطبةُ السيّدةِ زينبَ (ع) في مجلسِ يزيد
ما هيَ الصيغةُ الصحيحةُ للخُطبةِ الزينبيّةِ في قصرِ يزيد اللعين ؟ مع ذكرِ المصادرِ وآراءِ المُحقّقينَ رجاءً؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : روى هذهِ الخُطبةَ ثلّةٌ مِن عُلماءِ الشيعةِ والسنّة، فرواها ابنُ طيفور ( ت 380 هـ ) في بلاغاتِ النساءِ، ص 21 ، وأبو سعدٍ الآبي ( ت 421 هـ ) في نثرِ الدرّ: 4 / 14 ، والطبرسي ( ت 548 هـ ) في الاحتجاجِ: 2 / 34 – 35 ، وابنُ حمدون ( 563 هـ ) في التذكرةِ الحمدونيّة: 6 / 262 – 263 ، والخوارزميّ ( ت 568 هـ ) في مقتلِ الحُسين (ع): 2 / 63 – 64 ، وابنُ نما الحلّي ( ت 645 هـ ) في مُثيرِ الأحزان، ص80 ، والسيّدُ ابنُ طاووس ( ت664 هـ ) في اللهوفِ، ص215 ، والسيّدُ محمّدٌ بنُ أبي طالب ( ت قرن 10 ) في تسليةِ المجالسِ وزينةِ المجالس: 2 : 387 – 388 . وبعدَ مُقابلةِ نصِّ الخطبةِ في هذهِ المصادرِ، تبيّنَ أنّ هناكَ ثلاثَة مصادرَ رئيسيّةً لهذهِ الخُطبة: المصدرُ الأوّلُ: بلاغاتُ النساءِ لابنِ طيفور، حيثُ نقلَ منه الآبي في نثرِ الدرِّ وابنِ حمدونَ في التذكرةِ الحمدونيّة. المصدرُ الثاني: مقتلُ الحُسينِ (ع) للخوارزمي، حيثُ نقلَ منهُ ابنُ طاووسَ في اللهوفِ، والسيّدُ محمّدٌ بنُ أبي طالب في تسليةِ المجالس، وابنُ نما في مُثيرِ الأحزانِ، وهذا الأخيرُ نقلَه باختصارٍ شديد، وأسقطَ نصفَ فقراتِ الخطبة. المصدرُ الثالث: الاحتجاجُ للطبرسي، فهوَ أبسطُ نقلاً منَ المصدرينِ السابقين. بعدَ ذلكَ نقول: بالمقارنةِ بينَ المصادرِ الثلاثِ نجدُ أنّ ما رواهُ الخوارزمي في مقتلِ الحُسين، أتمُّ وأكملُ مِن روايةِ ابنِ طيفور، وأسلمُ مِن روايةِ الطبرسي في الاحتجاج، وذلك: أوّلاً: إنّ ابنَ طيفور أسقطَ بعضَ الفقراتِ المُهمّة مِن هذهِ الخُطبة، أمثالَ: 1ـ وحينَ صفا لكَ مُلكُنا وسلطانُنا. 2ـ ولتردنَّ على رسولِ الله (ص) بما تحمّلتَ مِن سفكِ دماءِ ذُريّتِه، وانتهاكِ حُرمتِه في لُحمتِه وعترتِه، وليخاصمنّكَ حيثُ يجمعُ اللهُ تعالى شملَهم ويلمُّ شعثَهم، ويأخذُ لهم بحقّهم. 3ـ ألا فالعجبُ كلُّ العجبِ لقتلِ حزبِ اللهِ النجباءِ بحزبِ الشيطانِ الطلقاء. 4ـ ولئِن جرّت عليَّ الدواهي مُخاطبتَك. 5- فواللهِ لا تمحو ذكرَنا، ولا تميتُ وحيَنا، ولا تدركُ أمدَنا، ولا ترحضُ عنكَ عارُها، ولا تغيبُ منكَ شنارُها، فهل رأيُكَ إلّا فند، وأيّامُكَ إلّا عدد، وشملُكَ إلّا بدد، يومَ يُنادي المُنادي: ألا لعنةُ اللهِ على الظالمين. وهناكَ فقراتٌ أخرى أسقطَها ابنُ طيفورَ ليسَت بأهميّةِ هذه الفقرات. وأضافَ بعضَ الفقراتِ التي ليسَت بتلكَ الأهميّةِ ما عدا هذهِ الفقرة - فإنّها غيرُ موجودةٍ في بقيّةِ الرواياتِ - حيثُ تخاطبُ يزيدَ وتقولُ له بعدَ قولِها - فلئِن اتّخذتَنا مغنماً لتتخذنَّ مغرماً حينَ لا تجدُ إلّا ما قدّمَت يداكَ - : تستصرخُ يا ابنَ مرجانةَ ويُستصرخُ بك، وتتعاوى واتباعُك عندَ الميزان، وقد وجدتَ أفضلَ زادِ زودِك معاويةَ قتلِك ذريّةَ محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم فواللهِ ما اتقيتُ غيرَ اللهِ ولا شكوايَ إلّا إلى الله. ثانياً: وأمّا تقدّمُ نصِّ الخوارزمي على نصِّ صاحبِ الاحتجاجِ وذلكَ كما قالَ البعضُ: عندَ مُقارنةِ النَّصّينِ بحسبِ المُعطياتِ الأدبيّةِ والبلاغيّة، نلاحظُ علوَّ كعبِ بلاغةِ النصِّ في مقتلِ الخوارزمي، على النَّصِّ في احتجاجِ الشيخِ الطبرسي (رحمَه الله) ولعلَّ خيرَ دليلٍ على ذلكَ هوَ تلكَ الفقراتُ المُتكلّفةُ في السَّجعِ الركيكِ الذي يذكّرُنا بسجعِ العصرِ العباسيِّ الضعيف. فخُذ شاهداً على ذلكَ مِن نصِّ الاحتجاجِ: (فأصبَحنا لكَ في أسارٍ، نساقُ إليكَ سوقاً في قطار، وأنتَ علينا ذو اقتدار) إنَّ نظرةً فنيَّة فاحصةً، مع قليلٍ مِن حسٍّ أدبي – خصوصاً معَ المقارنةِ بمثلِ قولها – عليها السلام – (حينَ رأيتَ الدّنيا لكَ مستوسقةً، والأمورُ لديكَ مُتّسقةً، وحينَ صفا لكَ مُلكنا، وخلصَ لكَ سُلطاننا). تُنبيكَ أنَّ ماءَ الكلامينِ ليسَ واحداً، فشتّانَ بينَ العذبِ الفُرات، والملحِ الأجاج. ثمَّ تعالَ إلى موردٍ ثانٍ مِن مواردِ الضعفِ في نصِّ الشيخِ الطبرسي، فبعدَ أن ساقَ تعنيفَ السيّدةِ زينبَ (عليها السلام) ليزيد (عليهِ اللعنة) ذكرَ قولها (عليها السّلام) : (ويتصفّحُ وجوههنَّ القريبُ والبعيد، والغائبُ والشهيد، والشريفُ والوضيع، والدنيّ والرفيع). ذكرَت الفقرةُ أنَّ وجوههنَّ يتصفّحُها القريبُ والبعيد والشريفُ والوضيع، ولكِن كيفَ يتصفّحُها (الغائبُ) في القولِ المنسوبِ لها (عليها السلام): (والغائبُ والشهيد)؟ ومِن ذلكَ أيضاً: (مُنحنياً على ثنايا أبي عبدِ الله - وكاَن مُقبَّل رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله – ينكتُها بمخصرتِه، قد التمعَ السرورُ بوجهِه) هذه (كانَ وما بعدَها) مِن (وكانَ مُقبَّل رسولِ الله) - صلّى اللهُ عليهِ وآله – زائدةٌ، ولعلّها مِن إضافةِ الراوي أو النَّاسخِ للتوضيح.وتعبيرُ (التمعَ السرورُ بوجهِه) ظاهرُ الرِّكةِ والوضعِ، على أنَّ الصحيحَ (التمعَ السرورُ في وجهِه). وهذهِ العبارةُ لا معنى لها: (ولعمري لقد ناديتَهم لو شهدوك ! ووشيكاً تشهدُهم، ولن يشهدوك) أضِف إلى أغلاطٍ أخرى أعرَضنا عنها. وإليكَ نصُّ هذهِ المصادرِ الثلاثةِ الأساسيّة: قالَ ابنُ طيفورَ في بلاغاتِ النساء:قالَ لمّا كانَ مِن أمرِ أبي عبدِ اللهِ بنِ عليّ (عليهِ السلام) الذي كانَ وانصرفَ عمرُ بنُ سعدٍ لعنَه الله بالنسوةِ والبقيّةِ مِن آلِ محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم ووجههنَّ إلى ابنِ زياد لعنَه الله فوجههنَّ هذا إلى يزيد لعنَه الله وغضبَ عليه فلمّا مثلوا بينَ يديهِ أمرَ برأسِ الحُسينِ ( عليهِ السلام ) فأبرزَ في طستٍ فجعلَ ينكثُ ثناياهُ بقضيبٍ في يدِه وهوَ يقول: يا غرابَ البينِ أسمعتَ فقُل * إنّما تذكرُ شيئاً قد فعل ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزعَ الخزرجِ مِن وقعِ الأسل حينَ حكَت بقباِء بركها * واستحرَ القتلُ عبدَ الأشل لأهلّوا واستهلّوا فرحاً * ثمّ قالوا يا يزيدُ أن لا تشل فجزيناهُم ببدرٍ مثلها * وأقمنا ميلَ بدرٍ فاعتدل لستُ للشيخينِ إن لم أثأر * مِن بني أحمدَ ما كانَ فعل فقالت زينبُ بنتُ عليّ ( عليها السلام ) صدقَ اللهُ ورسولُه يا يزيدُ ثمّ كانَ عاقبةُ الذينَ أساؤوا السوءَ أن كذّبوا بآياتِ اللهِ وكانوا بها يستهزئونَ أظننتَ يا يزيدُ أنّه حينَ أخذَ علينا بأطرافِ الأرضِ وأكنافِ السماءِ فأصبحنا نُساقُ كما يساقُ الأسارى أنَّ بنا هواناً على اللهِ وبكَ عليهِ كرامة وإنَّ هذا لعظيمِ خطرك فشمختَ بأنفِك ونظرتَ في عطفيك جذلانَ فرحاً حينَ رأيتَ الدّنيا مستوسقةً لك والأمورُ مُتّسقةٌ عليك وقد أمهلتَ ونفستَ وهوَ قولُ اللهِ تباركَ وتعالى لا يحسبنَّ الذينَ كفروا أنَّ ما نُملي لهُم خيراً لأنفسِهم إنّما نُملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذابٌ مُهين أمنَ العدلِ يا ابنَ الطلقاءِ تخديرُك نساءكَ واماءك وسوقك بناتِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله وسلم قد هتكت ستورهن وأصلحت صوتهن مكتئباتٍ تخدى بهنَّ الأباعرُ ويحدو بهنَّ الأعادي مِن بلدٍ إلى بلدٍ لا يُراقبنَ ولا يؤوينَ يتشوفهنَّ القريبُ والبعيدُ ليسَ معهنَّ وليٌّ مِن رجالهنَّ وكيفَ يستبطأ في بغضتِنا مَن نظرَ إلينا بالشنقِ والشنآنِ والإحنِ والأضغانِ أتقولُ ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا غيرَ مُتأثّمٍ ولا مُستعظم وأنتَ تنكثُ ثنايا أبي عبدِ اللهِ بمخصرتِك ولم لا تكونُ كذلكَ وقد نكأتَ القرحةَ واستأصلتَ الشاقةَ بإهراقِك دماءَ ذُريّةِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم ونجومِ الأرضِ مِن آلِ عبدِ المُطّلبِ ولتردنَّ على اللهِ وشيكاً موردَهم ولتودنَّ أنّكَ عميتَ وبكمتَ وأنّكَ لم تقُل فاستهلّوا وأهلّوا فرحاً . اللهمَّ خُذ بحقّنا وانتقِم لنا ممَّن ظلمنا واللهِ ما فريتَ إلّا في جلدَك ولا حززتَ إلا في لحمِك وستُردُّ على رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم برغمِك وعترتُه ولحُمتُه في حظيرةِ القُدس يومَ يجمعُ اللهُ شملَهم ملمومينَ منَ الشعثِ وهوَ قولُ اللهِ تباركَ وتعالى ولا تحسبنَّ الذينَ قُتلوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربّهم يُرزقونَ وسيعلمُ مَن بوّأكَ ومكّنكَ مِن رقابِ المؤمنينَ إذا كانَ الحَكمُ اللهُ والخصمُ محمّدٌ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم وجوارحُك شاهدةٌ عليكَ فبئسَ للظالمينَ بدلاً أيُّكم شرٌّ مكاناً وأضعفُ جُنداً معَ أنّي واللهِ يا عدوَّ اللهِ وابنَ عدوِّه استصغرُ قدرَك واستعظمُ تقريعَك غيرَ أنَّ العيونَ عبرى والصدورَ حرّى وما يُجزي ذلكَ أو يُغني عنّا وقد قُتلَ الحسينُ ( عليهِ السلام ) وحزبُ الشيطانِ يقرّبُنا إلى حزبِ السّفهاء ليعطوهم أموالَ اللهِ على انتهاكِ محارمِ اللهِ فهذهِ الأيدي تنطفُ مِن دمائِنا وهذه الأفواهُ تتحلّبُ مِن لحومِنا وتلكَ الجُثثُ الزواكي يعتامُها عسلانُ الفلواتِ فلئِن اتّخذتنا مغنماً لتتخذنَّ مغرماً حينَ لا تجدُ إلّا ما قدّمَت يداكَ تستصرخُ يا ابنَ مرجانة ويُستصرخُ بكَ وتتعاوى واتباعُك عندَ الميزانِ وقد وجدتَ أفضلَ زادِ زودِك معاوية قتلَك ذريّةَ محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم فواللهِ ما اتقيتُ غيرَ اللهِ ولا شكوايَ إلّا إلى الله فكِد كيدَك واسعَ سعيَك وناصِب جهدَك فواللهِ لا يرحضُ عنكَ عارُ ما أتيتَ إلينا أبداً والحمدُ للهِ الذي ختمَ بالسعادةِ والمغفرةِ لساداتِ شبّانِ الجنانِ فأوجبَ لهم الجنّةَ أسالُ اللهَ أن يرفعَ لهُم الدرجاتِ وأن يوجبَ لهم المزيدَ مِن فضلِه فإنّه وليٌّ قدير. وقالَ الخوارزميُّ في مقتلِ الحُسين (ع):أخبرَنا الشيخُ الإمامُ مسعودٌ بنُ أحمد فيما كتبَ إليَّ مِن دهستان ، أخبرَنا شيخُ الإسلامِ أبو سعدٍ المُحسنُ بنُ محمّدٍ بنِ كرامةَ الجشمي ، أخبرَنا الشيخُ أبو حامد ، أخبرَنا أبو حفصٍ عمرٌ بنُ الجازي بنيسابور ، أخبرَنا أبو محمّدٍ الحسنُ بنُ محمّدٍ المؤدّبِ الساري ، حدّثنا أبو الحُسينِ محمّدٌ بنُ أحمد الحجري ، أخبرَنا أبو بكرٍ محمّدٌ بنُ دريد الأزدي ، حدّثنا المكّي ، عن الحرمازي ، عن شيخٍ مِن بني تميمٍ مِن أهلِ الكوفة قال : لمّا أُدخلَ رأسُ الحُسينِ وحرمُه على يزيدَ بنِ معاوية ، وكانَ رأسُ الحُسينِ بينَ يديه في طستٍ ، جعلَ ينكتُ ثناياهُ بمخصرةٍ في يدِه ويقولُ : (ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا) وذكرَ الأبياتَ إلى قولِه (مِن بني أحمدَ ما كانَ فعل) ، فقامَت زينبُ بنتُ عليٍّ وأمّها فاطمةُ بنتُ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) ، فقالت :الحمدُ للهِ ربّ العالمين ، والصلاةُ والسلامُ على سيّدِ المُرسلين ، صدقَ اللهُ تعالى إذ يقولُ : ( ثمّ كانَ عاقبةُ الذينَ أساؤوا السوء أن كذّبوا بآياتِ اللهِ وكانوا بها يستهزئون ) أظننتَ يا يزيدُ حيثُ أخذتَ علينا أقطارَ الأرضِ وآفاقَ السماء وأصبَحنا نُساقُ كما تساقُ الأسارى ، أنَّ بنا على اللهِ هواناً ، وبكَ عليهِ كرامة ؟ وإنّ ذلكَ لعِظمِ خطرِك عندَه ، فشمختَ بأنفِك ونظرتَ في عطفِك ، جذلانَ مسروراً حينَ رأيتَ الدنيا لكَ مُستوسقةً والأمورَ مُتّسقةً ، وحينَ صفا لكَ مُلكُنا وسُلطاننا ، فمهلاً مهلاً ! أنسيتَ قولَ اللهِ تعالى : ( ولا يحسبنّ الذينَ كفروا أنّما نُملي لهُم خيراً لأنفسِهم إنّما نُملي لهُم ليزدادوا إثماً ولهُم عذابٌ مُهين ) أمنَ العدلِ يابنَ الطلقاءِ تخديرُك حرائرَك وإماءك ، وسوقك بناتِ رسولِ اللهِ سبايا ، قد هتكتَ ستورهنَّ ، وأبديتَ وجوههنَّ ، يُحدى بهنَّ مِن بلدٍ إلى بلد ، ويستشرفهنَّ أهلُ المناهلِ والمناقل ، ويتصفّحُ وجوههنَّ القريبُ والبعيد ، والدنيُّ والشريف ، ليسَ معهنَّ مِن رجالهنَّ ولي ، ولا مِن حماتهنَّ حمي ، وكيفَ تُرجى المراقبةُ ممَّن لفظَ فوهَ أكبادِ السعداء ، ونبتَ لحمُه بدماءِ الشهداء ؟ وكيفَ لا يستبطأ في بغضِنا أهلَ البيتِ مَن نظرَ إلينا بالشنفِ والشنئآنِ والأحنِ والأضغان ؟ ثمّ يقولُ غيرَ مُتأثّمٍ ولا مُستعظم : لأهلّوا واستهلّوا فرحاً *** ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تُشل مُنحنياً على ثنايا أبي عبدِ الله تنكتُها بمخصرتِك ؟ وكيفَ لا تقولُ ذلكَ وقد نكأتَ القرحة ، واستأصلتَ الشأفةَ ، بإراقتِك دماءَ ذُريّةِ آلِ محمّد ، ونجومِ الأرضِ مِن آلِ عبدِ المُطّلب ؟ أتهتفُ بأشياخِك ؟ زعمتَ تناديهم ، فلتردنَّ وشيكاً موردَهم ، ولتودّنَّ أنّكَ شُللتَ وبُكمت ، ولم تكُن قلتَ ما قُلت ، اللّهمَّ خُذ بحقّنا ، وانتقِم ممّن ظلمنا ، واحلِل غضبَك بمَن سفكَ دماءَنا ، وقتلَ حُماتَنا ، فواللهِ ما فريتَ إلاّ جلدَك ، ولا جززتَ إلاّ لحمك ، ولتردنَّ على رسولِ اللهِ بما تحمّلتَ مِن سفكِ دماءِ ذُريّتِه ، وانتهاكِ حُرمتِه في لحُمتِه وعترتِه ، وليخاصمنّكَ حيثُ يجمعُ اللهُ تعالى شملَهم ، ويلمّ شعثَهم ، ويأخذُ لهُم بحقِّهم ( ولا تحسبنَّ الذينَ قُتلوا في سبيلِ الله أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربّهم يُرزقون ) فحسبُكَ باللهِ حاكماً ، وبمحمّدٍ خصماً ، وبجبرئيلَ ظهيراً ، وسيعلمُ مَن سوّلَ لكَ ومكّنَك مِن رقابِ المُسلمين ، أنَّ بئسَ للظالمينَ بدلاً ، وأيّكم شرٌّ مكاناً وأضعفُ جُنداً ، ولئِن جرّت عليَّ الدواهي مُخاطبتَك ، فإنّي لأستصغرُ قدرَك ، وأستعظمُ تقريعَك ، وأستكبرُ توبيخَك ، لكنَّ العيونَ عبرى ، والصدورَ حرّى ، ألا فالعجبُ كلُّ العجبِ لقتلِ حزبِ اللهِ النجباءِ ، بحزبِ الشيطانِ الطلقاء ، فتلكَ الأيدي تنطفُ مِن دمائِنا ، وتلكَ الأفواهُ تتحلّبُ مِن لحومِنا ، وتلكَ الجثثُ الطواهرُ الزواكي تنتابُها العواسلُ ، وتعفوها الذئابُ ، وتؤمّها الفراعلُ ، فلئِن اتّخذتنا مغنماً ، لتجدنّ وشيكاً مغرماً ، حينَ لا تجدُ إلاّ ما قدّمَت يداكَ ، وأنّ اللهَ ليسَ بظلّامٍ للعبيد ، فإلى اللهِ المُشتكى ، وعليهِ المُعوّل ، فكِد كيدَك ، واسعَ سعيَك ، وناصِب جهدَك ، فواللهِ لا تمحو ذكرَنا ، ولا تميتُ وحينا ، ولا تدركُ أمدَنا ، ولا ترحضُ عنكَ عارُها ، ولا تغيبُ منكَ شنارُها، فهل رأيُكَ إلاّ فند! وأيّامُك إلاّ عدد ! وشملُك إلاّ بدد ! يومَ يُنادي المُنادي : ألا لعنةُ اللهِ على الظالمين ، فالحمدُ للهِ الذي ختمَ لأوّلِنا بالسعادةِ والرحمة ، ولآخرِنا بالشهادةِ والمغفرة ، وأسألُ اللهَ أن يُكملَ لهم الثواب ، ويُوجب لهُم المزيدَ وحُسنَ المآب ، ويختمَ بنا الشرافة ، إنّه رحيمٌ ودود ، وحسبُنا اللهُ ونعمَ الوكيل ، نعمَ المولى ونعمَ النصير . وقالَ الطبرسيُّ في الاحتجاج: روى شيخٌ صدوقٌ مِن مشايخِ بني هاشمٍ وغيرُه منَ الناس : أنّه لمّا دخلَ عليٌّ ابنُ الحُسينِ عليه ِالسلام وحرمُه على يزيد ، وجيئَ برأسِ الحُسينِ عليهِ السلام ووضعَ بينَ يديه في طستٍ ، فجعلَ يضربُ ثناياهُ بمخصرةٍ كانَت في يدِه ، وهو يقولُ : لعبَت هاشمٌ بالمُلكِ فلا * خبرٌ جاءَ ولا وحيٌ نزل ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزعَ الخزرجِ مِن وقعِ الأسل لأهلّوا واستهلّوا فرحاً * ولقالوا يا يزيدُ لا تُشل فجزيناهُ ببدرٍ مثلاً * وأقمنا مثلَ بدرٍ فاعتدل لستُ مِن خندفٍ إن لم أنتقِم * مِن بني أحمد ما كانَ فعل قالوا : فلمّا رأت زينبُ ذلكَ فأهوت إلى حبيبِها فشقّت ، ثمّ نادَت بصوتٍ حزينٍ تقرّعُ القلوبَ ، يا حُسيناه ! يا حبيبَ رسولِ الله ! يا بنَ مكّةَ ومِنى ! يا بنَ فاطمةَ الزهراء سيّدةِ النساء ! يا بنَ محمّدٍ المُصطفى .قالَ : فأبكَت واللهِ كلَّ مَن كان ، ويزيدٌ ساكتٌ ، ثمَّ قامَت على قدميها ، وأشرفَت على المجلسِ ، وشرعَت في الخُطبة ، إظهاراً لكمالاتِ محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، وإعلاناً بأنّا نصبرُ لرضا الله ، لا لخوفٍ ولا دهشة ، فقامَت إليهِ زينبُ بنتُ عليّ وأمّها فاطمةُ بنتُ رسولِ الله وقالت : الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والصلاةُ على جدّي سيّدِ المُرسلين ، صدقَ اللهُ سبحانهكذلكَ يقولُ : ( ثمَّ كانَ عاقبةُ الذينَ أساؤوا السوءَ أن كذّبوا بآياتِ اللهِ وكانوا بها يستهزؤون ) أظننتَ يا يزيدُ حينَ أخذتَ علينا أقطارَ الأرضِ ، وضيّقتَ علينا آفاقَ السماء ، فأصبحنا لكَ في أسار ، نساقُ إليكَ سوقاً في قطار ، وأنتَ علينا ذو اقتدار أنَّ بنا منَ اللهِ هواناً وعليكَ منهُ كرامة وامتنانا ، وأنَّ ذلكَ لعِظمِ خطرِك ، وجلالةِ قدرِك ، فشمختَ بأنفِك ، ونظرتَ في عطفِك تضربُ أصدريكَ فرحاً وتنقضُ مذرويكَ مرحاً حينَ رأيتَ الدّنيا لكَ مُستوسقةً والأمورَ لديكَ مُتّسقةً وحينَ صفا لكَ مُلكنا ، وخلصَ لكَ سُلطانُنا ، فمهلاً مهلاً لا تطِش جهلاً أنسيتَ قولَ اللهِ عزَّ وجل : ( ولا تحسبنَّ الذينَ كفروا إنّما نُملي لهُم خيراً لأنفسِهم إنّما نُملي لهُم ليزدادوا إثماً ولهُم عذابٌ مُهين ) . أمنَ العدلِ يا بنَ الطلقاءِ ؟ ! تخديرُك حرائرَك وإماءك ، وسوقَك بناتِ رسولِ اللهِ سبايا ، قد هتكتَ ستورهنَّ ، وأبديتَ وجوههنَّ ، تحدوا بهنَّ الأعداءَ مِن بلدٍ إلى بلد ، وتستشرفهنَّ المناقلَ ويتبرزّنَ لأهلِ المناهلِ ويتصفّحُ وجوههنَّ القريبُ والبعيد ، والغائبُ والشهيد ، والشريفُ والوضيع ، والدنيُّ والرفيع ليسَ معهنَّ مِن رجالهنَّ وليّ ، ولا مِن حماتهنَّ حمي ، عتوّاً منكَ على اللهِ وجحوداً لرسولِ الله ، ودفعاً لِما جاءَ به مِن عندِ الله ، ولا غروَ منكَ ولا عجبَ مِن فعلِك ، وأنّى يُرتجى مُراقبةُ مَن لفظَ فوهُ أكبادَ الشهداءِ ونبتَ لحمُه بدماءِ السعداءِ ونصبَ الحربَ لسيّدِ الأنبياءِ ، وجمعَ الأحزابَ ، وشهرَ الحرابَ ، وهزَّ السيوفَ في وجهِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، أشدُّ العربِ جحوداً ، وأنكرُهم لهُ رسولاً ، وأظهرُهم لهُ عدواناً ، وأعتاهُم على الربِّ كُفراً وطُغياناً ، ألا إنّها نتيجةُ خِلالِ الكُفر ، وصبٌ يجرجرُ في الصدرِ لقتلى يومِ بدر ، فلا يستبطئُ في بغضِنا أهلَ البيتِ مَن كانَ نظرُه إلينا شنفاً وإحناً وأظغاناً ، يُظهرُ كفرَه برسولِ الله ، ويفصحُ ذلكَ بلسانِه ، وهوَ يقول : - فرحاً بقتلِ ولدِه وسبيّ ذريّته ، غيرَ متحوّبٍ ولا مُستعظم - . لأهلّوا واستهلّوا فرحاً ولقالوا يا يزيدُ لا تُشلّ مُنحنياً على ثنايا أبي عبدِ الله - وكانَ مُقبَّلَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله – ينكتُها بمخصرتِه ، قد التمعَ السرورُ بوجهِه ، لعمري لقد نكأتَ القرحةَ واستأصلتَ الشأفةَ ، بإراقتِك دمَ سيّدِ شبابِ أهلِ الجنّة ، وابنِ يعسوبِ دينِ العربِ ، وشمسِ آلِ عبدِ المُطّلب ، وهتفتَ بأشياخِك ، وتقرّبتَ بدمِه إلى الكفرةِ مِن أسلافِك ، ثمَّ صرختَ بندائِك ولعمري لقد ناديتَهم لو شهدوك ! ووشيكاً تشهدُهم ، ولن يشهدوك ولتودُّ يمينُك كما زعمتَ شلّت بكَ عَن مرفقِها وجُذَّت ، وأحببتَ أمّك لم تحمِلك وإيّاكَ لم تلِد ، أو حينَ تصيرُ إلى سخطِ اللهِ ومُخاصمُك رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله .
اترك تعليق