إن كانَ عليٌّ (ع) يعلمُ بأنَّ فاطمةَ (ع) سيُكسَرُ ضِلعُها، لماذا لم يُحاسِب عُمر على فِعلتهِ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
إن كانَ المرادُ ـ كما هوَ ظاهرُ السؤال ـ: لماذا لم يُعاقِب أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) الذينَ سيهجمونَ على دارِ السيّدةِ الزهراءِ (عليها السلام) قبلَ أن يرتكِبوا الجُرمَ، باعتبارِ أنّه يعلمُ بما سيفعلونَه؟
فجوابُه واضحٌ جدّاً؛ إذ الحسابُ والعقابُ يكونُ بعدَ ارتكابِ الفعلِ القبيحِ وبعدَ ارتكابِ الجُرمِ الشنيع؛ إذ يستحقُّ الإنسانُ العقوبةَ بارتكابِ الحرام، فالعقوبةُ تترتّبُ على مُمارسةِ الذنب، وما قبلَ الذنبِ لا عقوبة. كما أنَّ أميرَ المؤمنين (عليهِ السلام) لم يقتُل عبدَ الرحمانِ بنَ ملجم المراديّ معَ أنّه كانَ عالِماً بأنّه سيقتلهُ إذ أخبرَه النبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بذلك.
وإن كانَ المرادُ: لماذا لم يُعاقِب أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) الذينَ هجموا على الدارِ بعدَ ارتكابِهم الجُرم؟ فهذا السؤالُ كغيرِه منَ الأسئلة، نحو: لماذا لم يُحاسِب القومَ على غصبِهم أرضَ فدك؟ ولماذا لم يُحاسِب القومَ على غصبِهم الخلافة؟
والجوابُ عن ذلكَ واضحٌ لمَن اطّلعَ على كتبِ الحديثِ والتاريخ، وقرأ مُجرياتِ الأحداثِ ومُلابساتِها، فإنَّ القومَ حشدوا الأراذلَ والأوباشَ وكلَّ مَن في قلبِه أحقادٌ على أميرِ المؤمنين (عليهِ السلام) خصوصاً وبني هاشم عموماً، وجهّزوا العدّةَ والعتاد، واستلموا زمامَ السلطةِ، وأخذوا البيعةَ منَ المُسلمينَ خديعةً وقسراً، في حينِ كانَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) معَ نفرٍ يسير، وهُم سلمانُ والمقدادُ وأبو ذرٍّ والزبيرُ وعمّار، ولا يمكنُ ـ والحالُ هذه ـ معاقبةُ مَن بيدِه زمامُ السلطةِ والقوّة؛ إذ معاقبتُهم ومُحاسبتُهم لا تكونُ إلّا بإعلانِ الحربِ والانقلابِ معَ فئةٍ يسيرةٍ قليلة، وفي ذلكَ خطرٌ عظيمٌ على الإسلام.
وقد عهدَ النبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) ـ كما في أحاديثَ كثيرةٍ، عندَ الشيعةِ والسنّةِ ـ إلى أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) أنَّ الأمّةَ ستغدرُ به مِن بعدِه، وأنّه أوصاهُ بالصبرِ والتحمّلِ إن لم يجِد أعواناً وأنصاراً، وأوصاهُ أن لا يُلقي بنفسِه إلى التهلكة، وأنّه منهُ بمنزلة هارونَ مِن موسى إذ قالَ هارون: {إنَّ القومَ استضعفوني وكادوا يقتلونني}.
وعدمُ قيامِه بالسيفِ ضدَّ السلطةِ آنذاك ليسَ خوفاً ولا جُبناً ـ والعياذُ بالله ـ، بل امتثالاً للوصيّةِ المُحمّديّةِ بلزومِ الصبرِ والتحمّلِ عندَ عدمِ وجودِ الأنصارِ والأعوان، كما صرّحَ بنفسِه (بأبي هوَ وأمّي)، وذلكَ في جوابِه (عليهِ السلام) على سؤالِ الأشعثِ بنِ قيس (لعنَهُ الله) أنّه لماذا لم تضرِب بسيفِك وتقاتِل حينَما بُويعَ أبو بكرٍ وعُمر؟ فأجابَ (عليهِ السلام): « لم يمنَعني مِن ذلكَ الجبنُ ولا كراهيةُ لقاءِ ربّي، وأن لا أكونَ أعلمُ أنَّ ما عندَ اللهِ خيرٌ لي منَ الدّنيا والبقاءِ فيها، ولكن منعَني مِن ذلكَ أمرُ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وعهدُه إليَّ، أخبرَني رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بما الأمّةُ صانعةٌ بي بعدَه، فلم أكُ بما صنعوا - حينَ عاينتُه - بأعلمَ منّي ولا أشدَّ يقيناً مِنّي به قبلَ ذلك، بل أنا بقولِ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أشدُّ يقيناً منّي بما عاينتُ وشهِدت، فقلتُ: يا رسولَ الله؛ فما تعهدُ إليَّ إذا كانَ ذلك؟ قالَ: إن وجدتَ أعواناً فانبِذ إليهم وجاهِدهم، وإن لم تجِد أعواناً فاكفُف يدكَ واحقُن دمَك حتّى تجدَ على إقامةِ الدينِ وكتابِ اللهِ وسُنّتي أعواناً » [كتابُ سُليم ص214].
وجاءَ في [كتابِ سُليم ص387] أنّه لمّا هجموا على الدارِ « وثبَ عليٌّ بنُ أبي طالب (عليهِ السلام)، فأخذَ بتلابيبِ عُمر، ثمَّ هزَّه فصرعَه، ووجأ أنفَه ورقبتَه، وهمَّ بقتلِه، فذكرَ قولَ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وما أوصى به منَ الصبرِ والطاعة، فقالَ: يا ابنَ صهاك، والذي أكرمَ مُحمّداً (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بالنبوّة، لولا كتابٌ منَ اللهِ سبقَ وعهدٌ عهدَه إليَّ رسولُ الله لعلمتَ أنّكَ لا تدخلُ بيتي »، فالأمرُ منوطٌ بامتثالِ الوصيّةِ النبويّةِ وهوَ لزومُ الصبرِ والتحمّلِ، وهذا النصُّ واضحٌ أنَّ الإمامَ (عليهِ السلام) لم يقِف ساكناً، بل أخذَ بتلابيبِ زعيمِ العصابةِ وصرعَه وكانَ سيقتلهُ لولا وصيّةُ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بالصبرِ معَ قلّةِ الأنصار، هذا مِن جهة.
ومِن جهةٍ أخرى، فلم يقِف أميرُ المؤمنينَ والسيّدةُ الزهراءُ (عليهما السلام) ساكنينَ إزاءَ ما فعلَته تلكَ العصابة ـ مِن غصبِ الخلافة، وغصبِ فدَك وغيرِها ـ، فراحوا يحشدونَ الأنصار، ويطلبونَ النُّصرةَ منَ الصحابةِ لإحقاقِ الحقِّ وإزهاقِ الباطل، ولكن ما استجابَ سوى فئةٍ يسيرةٍ لا يتجاوزُ عددُهم أصابعَ اليد، فقد روى سلمانُ المُحمّدي (رضيَ اللهُ عنه) ـ كما في [كتابِ سُليم ص146]: « فلمّا كانَ الليلُ حملَ عليٌّ فاطمةَ على حمارٍ وأخذَ بيدي ابنيهِ الحسنِ والحُسين (عليهم السلام)، فلم يدَع أحداً مِن أصحابِ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلم) إلّا أتاهُ في منزلِه، فناشدَهم الله حقَّه ودعاهُم إلى نُصرَته، فما استجابَ مِنهم رجلٌ غيرُنا الأربعة (سلمانُ وأبو ذرٍّ والمقدادُ والزبير)، فإنّا حلَقنا رؤوسَنا، وبذَلنا لهُ نُصرتَنا، وكانَ الزبيرُ أشدّنا بصيرةً في نُصرتِه ».
وذكرَ ابنُ أبي الحديدِ المُعتزليّ في [شرحِ نهجِ البلاغة ج11 ص14]: « إنَّ عليّاً عليهِ السلام لمّا استنجدَ بالمُسلمينَ عَقيبَ يومِ السقيفةِ وما جرى فيه، وكانَ يحمِلُ فاطمةَ عليها السلام ليلاً على حمارٍ، وابناها بينَ يدي الحِمار وهوَ عليهِ السلام يسوقُه، فيَطرُقُ بيوتَ الأنصارِ وغيرِهم، ويسألُهم النُّصرةَ والمَعُونة، أجابَه أربعونَ رجلاً، فبايعَهم على الموتِ، وأمرَهم أن يُصبِحوا بُكرةً مُحلّقي رُؤوسِهم ومعَهم سلاحُهم، فأصبحَ لم يُوافِهِ عليهِ السلام مِنهم إلّا أربعة: الزبيرُ، والمِقدادُ، وأبو ذرٍّ، وسلمان. ثمَّ أتاهَم منَ الليلِ فناشدَهم، فقالوا: نُصبّحُكَ غُدوةً، فما جاءَه مِنهم إلّا الأربعة، وكذلكَ في الليلةِ الثالثة، و كانَ الزبيرُ أشدَّهم له نُصرةً، وأنفذَهم في طاعتِه بصيرةً، حلقَ رأسَه وجاءَه مِراراً وفي عُنقِه سيفُه، وكذلكَ الثلاثةُ الباقون، إلّا أنَّ الزبيرَ هوَ كانَ الرأسَ فيهم ».
وقد قالَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) لأبي بكرٍ وعُمر: « أما واللهِ، لو أنَّ أولئكَ الأربعينَ رجلاً الذينَ بايعوني وفوا لي؛ لجاهدتُكم في الله » [كتابُ سُليم ص275].
نعم، خرجَ الغاصبونَ منَ الدنيا ولم يُحاسبوا ـ بعد ـ على سوءِ أفعالِهم وقبيحِ أعمالهم، ولكن سيأتي اليومُ الموعودُ حيثُ تتحقّقُ العدالةُ الإلهيّةُ ويتمُّ القصاصُ مِنهم، حتّى تثلجَ صدورُ آلِ الرسولِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وتثلجَ صدورُ المؤمنينَ، ذلكَ وعدُ اللهِ تعالى، ولن يُخلِفَ اللهُ وعدَه.
اترك تعليق