ما هيَ النظريّاتُ الباطلةُ في نشأةِ الأديان؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : لم تكُن الأديانُ حالةً طارئةً في تاريخِ الإنسانِ وإنّما وُجدَت بوجودِه، فالإنسانُ بطبعِه وفطرتِه كائنٌ مُتديّن، وقد أكّدَت بحوثُ التاريخِ ودراساتُ الانثروبولوجيا ملازمةَ الأديانِ لكلِّ الحضاراتِ الإنسانيّة، يقولُ المؤرّخ وكاتبُ السيرِ والناقدُ اليونانيّ الكبير بلوتارك الخيروني (46 – 120م) الذي كانَ له أثرٌ في كثيرٍ منَ الفلاسفةِ والأدباءِ مِن بينِهم شكسبير: (لقد وُجِدَت في التاريخِ مُدنٌ بلا حصون، ومدنٌ بلا قصور، ومدنٌ بلا مدارس، ولكِن لم تُوجد أبدًا مدنٌ بلا معابد" (القرضاوي، وجودُ الله، ص 22). ويقرُّ بذلكَ أيضاً الفيلسوفُ الفرنسيّ الكبيرُ هنري برجسون، والحاصلُ على جائزةِ نوبل للآداب سنةَ 1927 في كتابِه (أصلا الأخلاقِ والدين): "لقد وُجدَت وتوجدُ جماعاتٌ إنسانيّة من دونِ علومٍ، وفنونٍ، وفلسفاتٍ، ولكنَّه لم توجَد قطُّ جماعةٌ بغيرِ ديانة" (الدينُ بحوثٌ مُمهّدةٌ لدراسةِ تاريخِ الأديان، الدكتور محمّد عبد الله دراز ص 83) فاضطرارُ الإنسانِ إلى معرفةِ مَن أوجدَه مِن جهة، وحاجتُه إلى الكمالِ مِن جهةٍ أخرى، وتطلّعُه إلى مصيرِ الحياةِ ومُستقبلها المجهولِ من جهةٍ ثالثة، يحتّمُ عليه التطلّعَ إلى الغيبِ والبحثَ خارجَ حدودِ المادّة، وهذا النوعُ منَ الوعيّ المُتسامي عن المادّة والمترفّع عن الحسّ، يمثّلُ جانبَ الإشراقِ في الإنسان، يقولُ بارتيلمي سانت هيلير: هذا اللغزُ العظيمُ الذي يستحدثُ عقولنا: ما العالمُ؟ ما الإنسانُ؟ مِن أينَ جاء؟ من صنعَهما؟ مَن يدبّرُهما؟ ما هدفُهما؟ كيفَ بدءا؟ كيفَ ينتهيان؟ ما الحياةُ؟ ما الموتُ؟ ما القانونُ الذي يجبُ أن يقودَ عقولنا في أثناءِ عبورِنا في هذهِ الدنيا؟ أيُّ مستقبلٍ ينتظرُنا بعدَ هذه الحياة؟ هل يوجدُ شيءٌ بعدَ هذهِ الحياةِ العابرة؟ وما علاقتُنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلةُ لا توجدُ أمّةٌ، ولا شعبٌ، ولا مجتمعٌ، إلّا وضعَ لها حلولاً جيّدةً أو رديئةً، مقبولةً أو سخيفةً، ثابتةً أو متحوّلة. وبما أنَّ فطرةَ الإنسانِ والإحساسَ بضرورةِ وجودِ إلهٍ لا يكونُ كافياً للتعرّفِ على الدينِ الصحيح، فكانَ لابدَّ مِن بعثِ الأنبياءِ لتعريفِ الناسِ بدينِ الحق، وبذلكَ تكونُ فلسفةُ الرسالاتِ وبعثُ الأنبياءِ تعبيراً أصيلاً لِما يتطلّعُ الإنسانُ لمعرفتِه، وعليهِ هناكَ فرقٌ بينَ التديّنِ كحالةٍ فطريّةٍ وبينَ إدراكِ الإنسانِ إلى دينِ الحق، فنشوءُ الأديانِ لهُ علاقةٌ بتلكَ الطبيعةِ المتأصّلةِ في الإنسان، فلو لم يكُن التديّنُ حالةً أصيلةً وضرورةً فطريًّة لما وجدنا هناكَ ديناً في المُجتمعاتِ الإنسانيّة. فالحقيقةُ التي لا يرتابُ فيها مُنصفٌ تؤكّدُ بأنَّ واقعَ الإنسانِ وتاريخَه المتطاولَ لم يخلُ منَ الأديان، وهذا خلافُ الإلحادِ الذي يعدُّ مساراً مُعاكساً لتاريخِ الإنسانِ وفطرتِه المُتديّنة، ومِن هُنا لم يجِد الإلحادُ طريقاً لتبريرِ موقفِه إلّا بتقديمِ تفسيراتٍ مشوّهةٍ لنشوءِ الأديان، ولذا سعى إلى التقليلِ مِن أهميّةِ الأديانِ بالقولِ بأنّها وجدَت لتسدَّ الفراغَ الذي أحدثَه جهلُ الإنسانِ بظواهرِ الوجود، ولو صحَّ هذا الزعمُ لتخلّى الإنسانُ عن الأديانِ في عصرِ العلومِ والمعارفِ وهذا ما لم يحصُل، فالأديانُ وفقَ هذه النظرةِ لابدَّ أن تكونَ حالةً طارئةً سريعاً ما يتخلّى عنها الإنسانُ كلّما ازدادَ علمُه، وهذا ما يكذّبُه الواقعُ فالإنسانيّة ظلّت متمسّكةً بأديانِها وهيَ في قمّةِ تقدّمِها العلمي، يقولُ الدكتور ماكس نوردوه عن أصالةِ الشعورِ الديني: (هذا الإحساسُ أصيلٌ يجدُه الإنسانُ غيرُ المُتمدّنِ كما يجدُه أعلى الناسِ تفكيراً وأعظمُهم حدساً، وستبقى الدياناتُ ما بقيَت الإنسانيّة، وستتطوّرُ بتطوّرِها، وستتجاوبُ دائماً مع درجةِ الثقافةِ العقليّةِ التي تبلغُها الجماعة) (عبدُ اللهِ دراز ص 87) ويقولُ أرنست رينان في تاريخِ الأديانِ "إنَّ منَ المُمكنِ أن يضمحلَّ كلُّ شيءٍ نحبُّه، وأن تبطلَ حريَّةُ استعمالِ العقلِ والعلمِ والصناعة، ولكن يستحيلُ أن يَنمحي التديُّن، بل سيبقى حُجَّةً ناطقةً على بطلانِ المذهبِ المادِّي، الذي يريدُ أن يحصرَ الفكرَ الإنسانيّ في المضايقِ الدنيئةِ للحياةِ الأرضيَّة" (عبدُ الله دراز ص 83). ويقولُ الفيلسوفُ ريتشارد سوينبرن في مقامِ توضيحِ ما يقومُ به الدينُ تكميلاً للعلم: (عندَما أتحدّثُ عن الإله، فإنّني لا أطرحُ إلهاً ليسدَّ الثغراتِ التي لم يُجب عنها العلمُ حتّى الآن، فأنا لا أنكرُ قُدرةَ العلمِ على استكمالِ التفسير. ولكنّني أطرحُ الوجودَ الإلهيّ لأفسّرَ لماذا صارَ العالمُ قادراً على التفسير؟) (عمرو الشريف، خرافةُ الإلحاد، ص 70)فحبسُ العقلِ في حدودِ الحسِّ جريمةٌ في حقِّ العقلِ وفي حقّ الإنسان، فقيمةُ العقلِ في إدراكِ عُمقِ الحياةِ لا في معرفةِ ظاهرِها، وقيمةُ الإنسانِ بأن يعيشَ في ذلكَ العُمقِ لا في ظاهرِ السطح، والغيبُ ليسَ شيئاً آخرَ غيرَ عُمقِ الحقيقةِ ولبِّ المعنى. يقولُ مُعجم (لاروس) للقرنِ العشرين: إنّ الغريزةَ الدينيّة: مُشتركةٌ بينَ كلِّ الأجناسِ البشريّة، حتّى أشدّها همجيّةً، وأقربِها إلى الحياةِ الحيوانيّة.. وإنّ الاهتمامَ بالمعنى الإلهيّ وبما فوقَ الطبيعةِ هو إحدى النزعاتِ العالميّةِ الخالدةِ للإنسانيّة. ويقولُ: إنّ هذهِ الغريزةَ الدينيّةَ لا تختفي، بل لا تضعفُ ولا تذبل، إلّا في فتراتِ الإسرافِ في الحضارةِ وعندَ عددٍ قليلٍ جدّاً منَ الأفراد. ويقولُ: شاشاوان: مهما يكُن تقدّمنا العجيبُ في العصرِ الحاضر...علميّاً، وصناعيّاً، واقتصاديّاً، واجتماعيّاً، ومهما يكُن اندفاعُنا في هذهِ الحركةِ العظيمةِ للحياةِ العمليّة، وللجّهادِ والتنافسِ في سبيلِ معيشتِنا ومعيشةِ ذوينا، فإنَّ عقلنا في أوقاتِ السكونِ والهدوء – عظاماً كنّا أو متواضعينَ، خياراً كنّا أو أشراراً _ يعودُ إلى التأمّلِ في هذهِ المسائلِ الأزليّة: لما وكيفَ كانَ وجودُنا ووجودُ هذا العالم؟ وإلى التفكيرِ في العللِ الأولى أو الثانية، وفي حقوقِنا وواجباتنا؟) (عبدُ اللهِ دراز ص 83) وفي المُحصّلةِ لا يمكنُ قبولُ تفسيرِ نشوءِ الأديانِ بجهلِ المُجتمعاتِ بالأسبابِ الطبيعيّةِ للظواهرِ، بل الدينُ ظاهرةٌ أصيلةٌ وُجدَت بوجودِ الإنسانِ وسوفَ تستمرُّ بوجودِه، ففطرةُ الإنسانِ وتطلّعُه الدائمُ للغيبِ يمثّلُ البُنيةَ التحتيّةَ لكلِّ الأديان، وظاهرةُ الأنبياءِ والرسلِ هيَ التي تلبّي للإنسانِ هذا التطلّع، ومِن دونِها لا يبقى الإنسانُ بلا دينٍ وإنّما سوفَ يضطرُّ لصُنعِ دينٍ لنفسِه.
اترك تعليق