الحقيقةُ المطلقة

يقولُ أحدُهم ليسَ هناكَ حقيقةٌ مطلقةٌ ما دامَ الإنسانُ مُستمرّاً بالبحثِ عن الحقيقةِ المُطلقةِ التي لم يجِدها لحدِّ الآن

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : طالما الإنسانُ مُستمرٌّ في بحثِه عن الحقيقةِ فهذا يدلُّ على إيمانِه بإمكانيّةِ الوصولِ إليها، وإلّا كيفَ يبحثُ عن أمرٍ يستحيلُ الوصولُ إليه؟ ويبدو أنَّ كلمةَ (الحقيقةِ المُطلقة) هي التي تتسبّبُ في تشويهِ الحقيقةِ حيثُ تجعلُ البعضَ يقفُ أمامَها موقفَ العاجزِ، فما دامَت الحقيقةُ مُطلقةً والعقلُ الإنسانيُّ محدوداً فكيفَ يتمكّنُ المحدودُ منَ الإحاطةِ بغيرِ المحدود؟ وعليهِ لا وجودَ لحقيقةٍ مُطلقةٍ وإنّما هيَ نسبيّةٌ دائماً.  إلّا أنَّ كلمةَ الإطلاقِ لا تعني اللّانهاية بحيثُ تصبحُ الحقيقةُ حالةً هُلاميّةً لا حدودَ تضبطُها ولا وصفَ موضوعيَّ يقيّدُها، وإنّما تعني المُطابقةَ التامّةَ بينَ المعنى وبينَ الموضوعِ الخارجي الذي يعبّرُ عنهُ المعنى، فاللحظةُ التي يصلُ فيها العلمُ إلى اليقينِ بحيثُ لا يقبلُ الشكَّ والتردّدَ يسمّى ذلكَ بالحقيقةِ المُطلقة، فقولنا مثلاً واحدٌ زائداً واحداً يساوي اثنان يمثّلُ حقيقةً مُطلقةً، وهكذا كلُّ البديهيّاتِ مثلَ استحالةِ اجتماعِ المُتناقِضَينِ وارتفاعِهما، أو أنَّ الجُزءَ أصغرُ منَ الكلّ، أو كلُّ سببٍ لابدَّ لهُ مِن مُسبّب، وغيرُ ذلكَ يعدُّ حقائقَ مُطلقةً، وعليهِ فإنَّ الحقيقةَ المُطلقةَ هيَ الحقيقةُ الصّادقةُ دائماً بحيثُ لا تتأثّرُ بالظروفِ، مثلَ قولِنا لا يوجدُ على الإطلاقِ دائرةٌ مربّعةٌ أو مربّعٌ دائري، بل الحقائقُ المُطلقةُ مُتحقّقةٌ بالفعلِ حتّى في غيرِ البديهيّات، وكثيرةٌ هيَ الأمثلةُ التي تؤكّدُ وصولَ الإنسانِ إلى الحقيقةِ المُطلقة، فما تشهدُه البشريّةُ مِن تقدّمٍ علميّ وتكنلوجيّ خيرُ دليلٍ على مثلِ هذا العلمِ، فقوانينُ الرياضيّاتِ والفيزياءِ والميكانيكا وغيرِها منَ القوانينِ التي قامَت عليها الصناعاتُ الحديثةُ تمثّلُ حقائقَ مُطلقةً، ولو لم تكُن كذلكَ لما تحرّكَت سيّارة ٌولا طارَت طائرةٌ وما عملَ أيُّ جهازٍ منَ الأجهزة، فكلُّ هذهِ الصناعاتِ قائمةٌ على مجموعةٍ مُعقّدةٍ جدّاً منَ القوانينِ التي يمثّلُ كلُّ واحدٍ منها حقيقةً مُطلقة، ولا يمكنُ إنكارُ مثلِ هذهِ الحقائقِ المُطلقة إلّا إذا تمَّ إنكارُ أصلِ المعرفةِ الإنسانيّةِ كما هوَ حالُ السفسطائيّينَ، وفي نفسِ الوقتِ هناكَ حقائقُ بطبعِها نسبيّة، أي لا تستقرُّ على معنىً واحدٍ وإنّما هيَ مُنفعلةٌ دائِماً بالسياقِ الذي توجدُ فيه، فتكونُ صادقةً في ظرفٍ مُعيّنٍ وخاطئةً في ظرفٍ آخر، فمثلاً لا يمكنُنا القولُ أنَّ الإقدامَ في المعاركِ هوَ شجاعةٌ دائماً لأنَّ ذلكَ قد يكونُ تهوّراً في بعضِ الظروف، والنسبيّةُ بهذا المعنى ليسَت وصفاً سلبيّاً للمعرفةِ بل على العكسِ تماماً، لكونِها هيَ التي تسمحُ للإنسانِ بالتفاعلِ الطبيعيّ معَ الحياةِ المُتجدّدةِ والمُتغيّرةِ باستمرار، فلو كانَت معرفةُ الإنسانِ جامدةً والحياةُ متغيّرةً لاستحالَ عليهِ العيشُ فيها، وفي نفسِ الوقتِ لو كانَت معارفهُ كلّها نسبيّةً لما تمكّنَ مِن بناءِ حجرٍ على حجر، وعليهِ فإنَّ طبيعةَ المعرفةِ الإنسانيّة قائمةٌ على وجودِ حقائقَ مُطلقةٍ وحقائقَ نسبيّة، ولا يمكنُ مُصادرةُ أيّ واحدةٍ منهما لحسابِ الأخرى. وهناكَ دعاوى جديدة تعملُ على نسفِ المعرفةِ الإنسانيّةِ والتشكيكِ فيها، حيثُ ترفضُ وجودَ أيّ مقاييسَ موضوعيّةٍ للمعرفةِ، فالكلُّ على حقٍّ وإن تباينَ وتناقض، وعليهِ فالمعارفُ متساويةٌ مِن جهةِ انتسابِها للحقيقةِ، فلا وجودَ لفكرةٍ أكثرَ صِدقاً منَ الفكرةِ الأخرى، وقد ظهرَ هذا المَنحى بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ في فلسفةِ ما بعدَ الحداثة، ومؤخّراً وجدَت هذهِ الفلسفةُ طريقها إلى الواقعِ الإسلامي، وعملَت بعضُ التوجّهاتِ على ترويجِ النسبيّةِ الدينيّة، وهذا الطرحُ لا يمكنُ قبولهُ لكونِه مُصادرةً مُطلقةً للموضوعيّةِ المعرفيّةِ وانتصاراً لتحكّمِ الذاتِ الإنسانيّة وميولِها الخاصّة في المعرفةِ، فمَهما كانَ للذاتِ حضورٌ إلّا أنَّ حضورَها ليسَ حتميّاً، وإنّما يمكنُ السيطرةُ عليها مِن خلالِ وضعِ الباحثِ ضمنَ إطارٍ منهجيّ يجعلهُ يتعاملُ مع الموضوعاتِ بشكلٍ مُحايد، ولا يتحمّلُ المقامُ التفصيلَ في الموضوعِ، فهناكَ بحوثٌ وكتبٌ مُتعدّدةٌ ناقشَت هذا الموضوعَ بشكلٍ مُفصّل.