الفرقُ بينَ الحقيقةِ والخيال
ما الفرقُ بينَ الحقيقةِ والخيال؟ وهل هناكَ بينَهم صلةٌ؟ ما هو الاضطرابُ العقليّ والهلوسة؟ وهل لهُ تأثيرٌ بجعلِ الأشياءِ حقيقةً؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
هناكَ تقابلٌ وتناقضٌ بينَ الحقيقةِ والخيال، ويعودُ ذلكَ إلى أنَّ الحقيقةَ هيَ تعبيرٌ عمّا هوَ واقعٌ ومتأصّلٌ في الخارجِ بينَما الخيالُ تعبيرٌ عن العدمِ واللّاواقع، ومعَ أنَّ المسافةَ الفاصلةَ بينَ الحقيقةِ والخيالِ غيرُ محدودةٍ إلّا أنّها قد تتقلّصُ إلى درجةٍ يصعبُ التمييزُ بينَهما، والسببُ في ذلكَ أنَّ التناقضَ بينَ الحقيقةِ والخيالِ يكونُ واضحاً في مرحلةِ الثبوتِ، إلّا أنّهُ أكثرُ غموضاً في مرحلةِ الإثبات، فالمعرفةُ الإنسانيّةُ لا تنشئُ الحقيقةَ ولا تصنعُ الواقعَ وإنّما فقط تدركُها، وفي مرحلةِ الإدراكِ يحدثُ الاختلافُ والخلطُ بينَ الحقيقةِ والخيال، فالإنسانُ في إدراكِه المعرفيّ لا يكونُ مجرّداً ومحايداً بالمُطلقِ وإنّما تتدخّلُ الذاتُ للعبثِ في الواقعِ وتغييرِه بالشكلِ الذي يناسبُها، وهنا لا تعدُّ الحقيقة مُعبّرةً عنِ الواقعِ كما هوَ وإنّما تصبحُ الحقيقة هيَ المُعبّرةَ عمّا يريدُه العارفُ منَ الواقعِ، حيثُ لا يرى الواقعَ كما هوَ وإنّما يراهُ كما يحبُّ هوَ أن يراه، وعندَما يسترسلُ الإنسانُ مع هذهِ الذاتِ سوفَ يرسمُ لنفسِه عالماً موازياً لعالمِ الحقيقةِ والواقع، ويظهرُ ذلكَ بشكلٍ جليٍّ على مستوى المعارفِ الإنسانيّة المُتعلّقةِ بالواقعِ الاجتماعيّ والسياسي والاقتصاديّ وغيرِ ذلك، حيثُ يلعبُ الميلُ الذاتي والحبُّ والبغضُ الشخصيّ دوراً فعّالاً في رسمِ الواقع، ولذا فمِن أهمِّ المسؤوليّاتِ التي يتحمّلها الإنسانُ هيَ المسؤوليّةُ المعرفيّة، والامتحانُ الأكبرُ الذي يواجهُ الإنسانَ هو كيفَ يتجرّدُ للحقيقةِ بما هيَ حتّى لو كانَت خلافَ مصالحِه ورغباتِه، وعليهِ لا يخلو إنسانٌ مِن مقدارٍ منَ الخيالِ لعدمِ خلوّه منَ الأنانيّاتِ والذاتيّات، إلّا أنَّ دورَ الإنسانِ هوَ المقاومةُ وعدمُ الاستسلام، ومِن هُنا أمرَنا القرآنُ بتزكيةِ النّفسِ وتطهيرِها منَ الهوى والمصالحِ والرّغبات، وبذلكَ يتحصّنُ الإنسانُ منَ الظنونِ التي هيَ إدراكُ الواقعِ على غيرِ حقيقتِه، وعليهِ فإنَّ الأفكارَ الصادرةَ منَ النّفسِ والتمنيّاتِ تسمّى في المُصطلحِ القُرآنيّ بالظنون، ومهما بلغَت النفسُ منَ الدقّةِ في تحديدِ ما يخدمُ هواها لا يصبحُ علماً وحقّاً؛ لأنّهُ مجرّدُ اندفاعٍ نفسيّ تحرّكُه الأهواءُ والتمنّيات، قالَ تعالى: (..إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهوَى الأَنفُسُ ۖ وَلَقَد جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَىٰ (23) أَم لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ) (24 النجم). وقد ربطَت هذهِ الآيةُ بينَ الظنِّ وما تهوى الأنفسُ، حيثُ يبدو أنَّ الواوَ هُنا تفسيريّة، أي أنَّ الظنَّ هو ما تهوى الأنفسُ وليسَ شيئاً آخرَ غيرَ هوى النفس، ثمَّ تأتي الآية الثالثةُ لتربطَ كلَّ ذلكَ بالتمنّي (أَم لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ)، فالخيالُ أو الظنُّ بالمُصطلحِ القرآنيّ يلاحقُ الجميعَ وعلى المؤمنِ مواجهةُ ذلكَ بتربيةِ النّفسِ وتزكيتِها.
ومنَ المفيد الإشارةُ إلى أنَّ الإنسانَ بإمكانِه أن يصنعَ لنفسِه عالماً مُتخيّلاً إلّا أنّهُ يظلُّ واعياً لكونِه ليسَ حقيقةً وواقعاً، مثلما يحدث للإنسانِ في أحلامِ اليقظة، أو مثلَ الشاعرِ الذي يستخدمُ خياله لرسمِ صورةٍ مثاليّة عنِ الواقع، وقد يتعمّدُ البعضُ الانفصالَ عن الواقعِ واستبداله بواقعٍ افتراضيّ متخيّلٍ مثلما يفعله مُدمنو المُخدّرات، فإنّهم يهربونَ منَ الواقعِ مِن خلالِ صُنعِ واقعٍ آخر بديلٍ يرسمونَه بالشكلِ الذي يحبّونَه، أمّا حالاتُ المرضِ مثل الجنونِ وانفصامِ الشخصيّةِ وبعضِ حالاتِ الهلوسةِ فإنّها تحجبُ الإنسانَ بشكلٍ غيرِ إراديّ عن المُحيطِ والواقع، ويحدثُ ذلكَ بدرجاتٍ مختلفةٍ ومُتباينة، فمثلاً الجنونُ قد يكونُ دائماً بينَما الهلوسةُ - وهيَ إحساسٌ بمحسوسٍ غيرِ موجود - قد تكونُ عرضاً عابراً سواءٌ كانَ بعاملٍ نفسيّ أو مادي مثلَ تناولِ بعضِ الحبوب، ومنَ المؤكّدِ أنَّ المريضَ في حالِ استغراقِه في عالمِ الخيالِ لا يلتفتُ إلى كونِه خيالاً وإنّما يتعاملُ معه على أنّهُ حقيقةٌ وواقع.
اترك تعليق