يتدرج ديننا بالاسلام ثم الايمان ثم اليقين ..سؤالي كيف ازيد يقيني ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
قبلَ الإجابةِ المُباشرةِ لابدَّ مِن بيانٍ مُقتضبٍ لمعنى اليقين؛ لأنَّ ذلكَ يساعدُ في كيفيّةِ تحقيقِ اليقينِ وزيادتِه، يقولُ الرّاغبُ الأصفهانيّ في مُفرداتِه أنَّ اليقينَ صفةٌ للعلمِ فوقَ المعرفةِ والدّراية، يقالُ علمٌ يقين، ولا يقالُ معرفةٌ يقينة، وهوَ سكونُ الفهمِ معَ ثباتِ الحُكم (مفرداتُ ألفاظِ القرآن، ص 892)، وعليهِ فإنَّ اليقينَ هوَ طردُ الشكِّ والرّيبةِ وملامسةُ الواقعِ والاطمئنانُ إليه، قالَ تعالى: (فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَم تُحِط بِهِ وَجِئتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) فاليقينُ في الآيةِ مُتعلّقٌ بالنبأ، وقد تحقّقَ هذا اليقينُ كنتيجةٍ طبيعيّة للإحاطةِ والعلم، ممّا يؤكّدُ أنَّ اليقينَ درجةٌ عاليةٌ مِن درجاتِ العلم تستوجبُ الوقوفَ على الشيءِ والإحاطةَ به، وقد وردَت لفظةُ اليقينِ ثلاثاً وعشرينَ مرّةً وبصيغٍ مُختلفةٍ في القرآنِ الكريم، مُضافاً لِما جاءَ في الرّواياتِ الشريفة، الأمرُ الذي يكشفُ عن أهميّةِ اليقينِ في ما يتعلّقُ بالحقائقِ التي جاءَ بها الوحي، ولا يمنعُ ذلكَ مِن ضرورةِ اليقينِ في كلِّ أمورِ الحياةِ بالقدرِ المُمكنِ والمُستطاع، إلّا أنَّ قيمةَ اليقين بالمُتيقّن؛ أي كلما ارتفعَ شأنُ الحقيقةِ كلّما ارتفعَ شأنُ اليقين بها، ومِن هُنا يتعاظمُ شأنُ اليقينِ في ما يتعلّقُ بالحقائقِ الكُبرى التي تقفُ خلفَ فلسفةِ الوجودِ والحياة، والإسلامُ بوصفِه المُعبّرَ عَن تلكَ الحقائقِ والمُبيّنَ لها يشتملُ على أرفعِ درجاتِ اليقين، ويبدو أنَّ مُشكلةَ الإنسانِ ليسَت في تحقيقِ اليقينِ بالقضايا الحسّيّةِ التي يمكنُه الوقوفُ عليها بشكلٍ مُباشر، وإنّما مشكلتُه في تحقيقِ اليقينِ بالحقائقِ الغيبيّة الخارجةِ عَن إطارِ الحسِّ والمُعاينة، وللوصولِ لليقينِ في هذه القضايا يحتاجُ الإنسانُ إلى درجةٍ مِن شفافيّةِ الرّوحِ تمكّنُه مِن رؤيةِ الحقائقِ الغيبيّةِ كما يرى الحقائقَ الحسّيّة؛ وذلكَ لأنَّ أصولَ تلكَ الحقائقِ موجودةٌ في فطرةِ الإنسانِ ومغروسةٌ في وجدانِه، وتعلّقُ الإنسانِ بالدّنيا وركونه للأهواءِ والشهواتِ يحجبُ تلكَ الحقائقَ ويجعلها بعيدةً عَن يقينِ الإنسان، ومِن هُنا لم يكُن الخطابُ القرآنيُّ ناظراً إلى تأسيسِ معارفَ غيرِ موجودةٍ في واقعِ الفطرةِ وإنّما جاءَ بلسانِ التذكيرِ للعلمِ والمعرفة التي حُجبَت بالغفلةِ، فكانَ لسانُ خطابِه (فَذَكِّر بِالقُرآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) ق45، والتذكيرُ هُنا هوَ التذكيرُ بأحكامِ العقولِ الفطريّة، فيكونُ القرآنُ إثارةً للعقولِ وتنبيهاً لواقعِ تلكَ الأحكام التي احتجبَت بدواعي الهوى والغفلة، ومِن هُنا نفهمُ السياقَ المعرفيَّ للآياتِ التي تتحدّثُ عنِ التزكيةِ ومُخالفةِ الهوى بوصفِها ضمانةَ الوصولِ للتقييمِ الموضوعي للواقع. قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَىٰ أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ ۚ إِن يَكُن غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللَّهُ أَولَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَىٰ أَن تَعدِلُوا ۚ وَإِن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا) (135 النّساء). تكشفُ هذهِ الآيةُ عن الدّورِ السّلبي للهوى في التشخيصِ الموضوعي والحيادي للواقع، فإقامةُ القسطِ والعدل قد يتعارضُ معَ مصالحِنا الشخصيّة أو قد يكونُ على غيرِ صالحِ مَن نحبُّ مثلَ الوالدينِ أو الأقربين أو الأغنياء، ولذا تأمرُنا الآيةُ بعدمِ اتّباعِ الهوى، ولا يتحقّقُ ذلك إلّا بالإيمانِ والتقوى والتسليمِ والتواضعِ والتزكية، وغيرِها منَ القيمِ الأخلاقية، لأنَّ القرآنَ ليسَ هُدىً لكلِّ الناس؛ وإنّما هُدىً للمُتّقين منهم، قالَ تعالى: {ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيبَ فِيهِ هُدًى لِّلمُتَّقِينَ} البقرة2. كما أنَّ معارفَ القرآنِ لا تأتي إلّا بعدَ التزكية، قالَ تعالى: {يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } آل عمران164، وبذلكَ يتّضحُ أنَّ الهوى هوَ عدوّ اليقينِ بحيثُ لا يجتمعُ الهوى واليقينُ في قلبٍ واحد.
قالَ تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِمًا بِالقِسطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (18آل عمران). فإنَّ شهادةَ أولي العلمِ جاءَت في سياقِ شهادةِ اللهِ والملائكة، وبالتّالي تلكَ الدّرجةُ التي نالها أولو العلمِ تُمثّلُ القيمةَ الأساسيّة للعلم، وهيَ خروجُ الإنسانِ مِن ظلماتِ الجهل إلى نورِ العلم، قالَ تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَولِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصحَابُ النَّارِ ۖ هُم فِيهَا خَالِدُونَ) (257 البقرة). فالإيمانُ باللهِ هوَ الذي يخرجُ
الإنسانَ مِن ظلماتِ الجهل إلى نورِ الحقيقة، أمّا الذينَ كفروا (أَولِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ).
وفي المقابلِ نجدُ أنَّ العلمَ يكونُ سبباً للإيمانِ بالله قالَ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَعلَمُ مَا يَدعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيءٍ ۚ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (42) وَتِلكَ الأَمثَالُ نَضرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ) (43 العنكبوت). فـ(العالمونَ) هُم الذينَ يعرفونَ اللهَ بنصِّ هذهِ الآية. ويبدو أنَّ العلاقةَ بينَ العلمِ وبينَ الإيمانِ باللهِ ترتكزُ على محوريّةِ معرفةِ الله، وبالتّالي أصلُ معرفةِ اللهِ مِن فعلِه تعالى، وتلكَ هيَ فطرةُ اللهِ التي فطرَ النّاسَ عليها، وعندَ ذلكَ ينحصرُ تكليفُ الإنسانِ في الإقرارِ والتّصديقِ بهذهِ الفطرة، أمّا مَن كفرَ وعملَ على تغطيةِ هذهِ الفطرة وحجبَها بالغفلةِ والشهواتِ سيكونُ منَ الجاهلين، قالَ تعالى: (قَالَ إِنَّمَا العِلمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرسِلتُ بِهِ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُم قَومًا تَجهَلُونَ) (23 الأحقاف). فجهلُهم نابعٌ مِن عدمِ معرفتِهم باللهِ وذلكَ لأنّهم لا يستمعونَ لنداءِ الفطرة.
وفي الخلاصةِ، إنَّ اليقينَ ليسَ مُجرّدَ ادّعاءِ المعرفةِ وإنّما هوَ العلمُ الكاشفُ عنِ الحقيقةِ والواقع، ولا يحصلُ اليقينُ بحقائقِ الدّين إلّا بمُجاهدةِ النفسِ وتربيتِها وترويضِها على الإخلاصِ والتواضع للحق، يقولُ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السّلام): (يُستَدَلُّ على اليقينِ بِقِصَرِ الأمَلِ وإخلاصِ العَمَلِ) ممّا يؤكّدُ أنَّ اليقينَ لا يتحقّقُ لمَن كانَ أمله طويلاً وعمله من دونِ إخلاص، ويقولُ الإمامُ الصّادق (عليهِ السّلام): (الرِّضا بِمَكروهِ القَضاءِ مِن أعلى دَرَجاتِ اليَقينِ) وهذهِ درجةٌ عاليةٌ منَ التّسليم والإطمئنان لقضاءِ اللهِ وهذا لا يتحقّقُ لجاحدٍ أو مُنكر، كما أنَّ اليقينَ يورثُ الإنسانَ مجموعةَ القيمِ السّاميةِ والأخلاقِ الفاضلة، فعن الإمامِ عليٍّ (عليهِ السّلام): (الصبرُ ثمرةُ اليقين) وعنهُ أيضاً: (اليَقينُ يُثمِرُ الزُّهدَ)، نسألُ اللهَ أن يُعيننا على أنفسِنا ويوفّقنا لتحصيلِ اليقين.
اترك تعليق