ما هوَ أوّلُ شيءٍ خلقَه اللهُ تعالى؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : إنّ الرواياتِ الواردةَ في بيانِ المخلوقِ الأوّلِ مُختلفةٌ، ففي بعضِها: (الماءُ)، وفي بعضِها: (النورُ)، وفي بعضِها: (القلمُ)، وفي بعضِها: (أنوارُ أهلِ البيتِ عليهم السلام)، وغيرُ ذلك.. ويستحسنُ استعراضُ جُملةٍ منها: الأوّلُ: الماء: روى الشيخُ الكُلينيّ بإسنادِه عن محمّدٍ بنِ عطيّة، قالَ: جاءَ رجلٌ إلى أبي جعفرٍ عليهِ السلام مِن أهلِ الشامِ مِن عُلمائِهم، فقالَ : يا أبا جعفرٍ جئتُ أسألكَ عن مسألةٍ قد أعيَت عليّ أن أجدَ أحداً يُفسّرُها، وقد سألتُ عنها ثلاثةَ أصنافٍ منَ الناس، فقالَ كلُّ صنفٍ منهم شيئاً غيرَ الذي قاَل الصنفُ الآخر، فقالَ لهُ أبو جعفرٍ عليهِ السلام: ما ذاك؟ قالَ: فإنّي أسألُك عن أوّلِ ما خلقَ الله مِن خلقِه، فإنَّ بعضَ مَن سألتُه قالَ: القدرُ، وقالَ بعضُهم: القلم، وقالَ بعضُهم: الروحُ، فقالَ أبو جعفرٍ عليهِ السلام: ما قالوا شيئاً، أخبرُك أنّ اللهَ تباركَ وتعالى كانَ ولا شيءَ غيرُه، وكانَ عزيزاً ولا أحدَ كانَ قبلَ عزِّه، وذلكَ قولهُ : (سُبحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافّات: 180]، وكانَ الخالقُ قبلَ المخلوق... وخلقَ الشيءَ الذي جميعُ الأشياءِ منه، وهوَ الماءُ الذي خلقَ الأشياءَ منه، فجعلَ نسبةَ كلِّ شيءٍ إلى الماء، ولم يجعَل للماءِ نسباً يضافُ إليه.. إلى آخرِ الرواية. (الكافي 8/ 94). ومثله روى الصّدوقُ بإسنادِه عن جابرٍ في (التوحيد ص66). وروى الصّدوقُ بإسنادِه عن عبدِ اللهِ بنِ سنان، عن أبي عبدِ اللهِ عليه السلام، قالَ: سألتُه عن أوّلِ ما خلقَ اللهُ عزّ وجلّ؟ قالَ: إنَّ أوّلَ ما خلقَ اللهُ عزَّ وجلَّ ما خلقَ منهُ كلَّ شيء، قلتُ: جُعلتُ فداكَ، وما هوَ؟ قالَ: الماء... إلى آخرِ الروايةِ. (عللُ الشرائع 1/ 83). الثاني: العقلُ: روى الشيخُ الكُلينيّ بإسنادِه عن سماعةَ بنِ مهران، عن أبي عبدِ اللهِ عليهِ السلام في حديثٍ، قالَ: إنّ اللهَ عزَّ وجلَّ خلقَ العقلَ، وهوَ أوّلُ خلقٍ منَ الروحانيّينَ، عن يمينِ العرشِ مِن نورِه.. إلى آخرِه. (الكافي 1/ 21). الثالثُ: القلم: روى الشيخُ القُمّيّ بإسنادِه عن أبي عبدِ اللهِ عليهِ السلام، قالَ: أوّلُ ما خلقَ اللهُ القلم، فقالَ له: اكتُب، فكتبَ ما كانَ وما هو كائنٌ إلى يومِ القيامة. (تفسيرُ القُمّي 2/ 198). الرابعُ: النور: روى الشيخُ الصدوقُ بإسنادِه عن الإمامِ الرّضا عليهِ السلام، عن آبائِه عليهم السلام، عن الحسينِ بنِ عليٍّ عليهِ السلام، قالَ: كانَ عليٌّ بنُ أبي طالب عليهِ السلام بالكوفةِ في الجامعِ إذ قامَ إليهِ رجلٌ مِن أهلِ الشامِ فقالَ: يا أميرَ المؤمنين إنّي أسألُك عن أشياء، فقالَ: سَل تفقّهاً ولا تسأل تعنّتاً، فأحدقَ الناسُ بأبصارِهم، فقالَ: أخبرني عن أوّلِ ما خلقَ اللهُ تباركَ وتعالى، فقال: خلقَ النور... إلى آخرِ الرواية. (عللُ الشرائع 2/ 593، عيونُ أخبارِ الرضا 1/ 218). الخامسُ: أنوارُ أهلِ البيتِ عليهم السلام: روى الشيخُ الكلينيّ بإسنادِه عن محمّدٍ بنِ سنان، قالَ: كنتُ عندَ أبي جعفرٍ الثاني عليهِ السلام، فأجريتُ اختلافَ الشيعةِ، فقالَ: يا محمّد، إنّ اللهَ تباركَ وتعالى لم يزَل مُتفرّداً بوحدانيّتِه، ثمّ خلقَ محمّداً وعليّاً وفاطمةَ، فمكثوا ألفَ دهرٍ، ثمّ خلقَ جميعَ الأشياءِ، فأشهدَهم خلقَها وأجرى طاعتَهم عليها.. إلى آخرِ الرواية. (الكافي 1/ 511). روى الشيخُ الصّدوقُ بإسنادِه عن الإمامِ الرضا عليهِ السلام، عن آبائِه عليهم السلام، قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله: ما خلقَ اللهُ خلقاً أفضلَ منّي ولا أكرمَ عليهِ منّي، قالَ عليٌّ عليهِ السلام: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ فأنتَ أفضلُ أم جبرئيل؟ فقالَ صلّى اللهُ عليهِ وآله: يا عليّ، إنّ اللهَ تباركَ وتعالى فضّلَ أنبياءَه المُرسلينَ على ملائكتِه المُقرّبينَ، وفضّلني على جميعِ النبيّينَ والمُرسلين، والفضلُ بعدي لكَ يا عليّ وللأئمّةِ مِن بعدك، وإنّ الملائكةَ لخُدّامنا وخدّامُ مُحبّينا، يا عليّ الذينَ يحملونَ العرشَ ومَن حولهُ يسبّحونَ بحمدِ ربّهم ويستغفرونَ للذينَ آمنوا بولايتنا، يا علي لولا نحنُ ما خلقَ اللهُ آدمَ عليهِ السلام ولا حوّاء ولا الجنّةَ ولا النارَ ولا السّماءَ ولا الأرض، فكيفَ لا نكونُ أفضلَ منَ الملائكة؟! وقد سبقناهُم إلى معرفةِ ربّنا وتسبيحِه وتهليلِه وتقديسِه، لأنّ أوّلَ ما خلقَ اللهُ عزّ وجلّ أرواحَنا فأنطقَها بتوحيدِه وتمجيدِه، ثمّ خلقَ الملائكةَ، فلمّا شاهدوا أرواحَنا نوراً واحداً استعظمَت أمرَنا فسبّحنا لتعلمَ الملائكةُ أنّا خلقٌ مخلوقون، وأنّه مُنزّهٌ عن صفاتِنا، فسبّحَت الملائكةُ بتسبيحِنا ونزّهَته عن صفاتِنا... إلى آخرِ الرواية. (عللُ الشرائع 1/ 5، عيونُ أخبارِ الرضا 1/ 237، كمالُ الدين ص255).أقولُ: وهاتِه الأخبارُ وإن كانَت ظاهرةً في الاختلافِ إلّا أنّ الصّحيحَ أنّ بعضَها محمولٌ على الأوليّةِ الحقيقيّةِ وبعضَها الآخرَ على الأوليّةِ الإضافيّة، فأوليّةُ نورِ النبيّ وأهلِ بيتِه عليهم السلام حقيقيّةٌ، وأوليّةُ غيرِه إضافيّةٌ بالنسبةِ لغيرِها. وقد ذكرَ العلّامةُ المجلسيّ: (وقد مرَّ في بعضِ الأخبار: أنّ أوّلَ ما خلقَ اللهُ النور، وفي بعضِها: نورُ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله، وفي بعضِها: نورُه معَ أنوارِ الأئمّةِ عليهم السلام، وفي بعضِ الأخبارِ العاميّةِ عن النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله: أوّلُ ما خلقَ اللهُ روحي.فيمكنُ أن يكونَ المرادُ بالجميعِ واحداً، ويكونُ خلقُ الأرواحِ قبلَ خلقِ الماءِ وسائرِ الأجسام، وتكونُ أوليّةُ الماءِ بالنسبةِ إلى العناصرِ والأفلاك، فإنَّ بعضَ الأخبارِ يدلُّ على تقدّمِ خلقِ الملائكةِ على خلقِ العناصرِ والأفلاكِ كما مرّ، ودلّت الأخبارُ الكثيرةُ على تقدّمِ خلقِ أرواحِهم وأنوارِهم عليهم السلام على كلِّ شيء. وروى الكُليني وغيرُه بأسانيدِهم الكثيرةِ عن أبي عبدِ اللهِ عليهِ السلام أنّه قال: إنّ اللهَ خلقَ العقلَ وهوَ أوّلُ خلقٍ منَ الروحانيّينَ عن يمينِ العرش مِن نورِه.. الخبر. وهذا لا يدلُّ على تقدّمِ العقلِ على جميعِ الموجودات، بل على خلقِ الروحانيّين، ويمكنُ أن يكونَ خلقُها مُتأخّراً عن خلقِ الماءِ والهواء. وأمّا خبر: أوّلُ ما خلقَ اللهُ العقل، فلم أجِده في طُرقِنا ، وإنّما هوَ في طرقِ العامّة، وعلى تقديرِه يمكنُ أن يُرادَ بهِ نفسُ الرسولِ صلّى اللهُ عليهِ وآله لأنّه أحدُ إطلاقاتِ العقل، على أنّه يمكنُ حملُ العقلِ على التقديرِ في بعضِ تلكَ الأخبار، كما هوَ أحدُ معانيه. وكذا حديثُ: أوّلُ ما خلقَ اللهُ القلم، يمكنُ حملهُ على الأوليّةِ الإضافيّةِ بالنسبةِ إلى جنسِه منَ الملائكة، أو بعضِ المخلوقات، كما يدلُّ عليهِ خبرُ عبدِ الرحيمِ القصير..). بحارُ الأنوار 54/ 309.
اترك تعليق