هل وجود الله ضروري؟

السؤال: فكرة وجود الله كسبب لوجود العالم هل هو أمر ضروري منطقيا؟ - المقدمة الأولى: الشيء الضروري هو الشيء الذي لا يمكن تصور نقيضه. - المقدمة الثانية: لا يوجد تفسير واحد مقبول لسبب وجود العالم. - المقدمة الثالثة : فكرة وجود الله كسبب لوجود العالم يمكن تصور نقيضها. - إذا كان العالم له عدة تفسيرات لوجوده، وأن الشيء الضروري هو الشيء الذي لا يمكن تصور نقيضه، وفكرة وجود الله كسبب لوجود العالم يمكن تصور نقيضيها، فالاستنتاج الذي نصل إليه هو أن فكرة وجود الله كسبب لوجود العالم هو أمر غير ضروري.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

إنّ صاحب الإشكال وإنْ حاول أن يكون منطقيّاً في استدلاله، إلّا أنّه أخفق في بناء البرهان المنطقيّ، والسبب في ذلك: أنّه خلط بين مقدّمة صحيحة وبين مقدّمات أخرى: إمّا خاطئة في نفسها، وإمّا أنّها لا ترتبط بعلاقة منطقيّة مع المقدّمة الصحيحة.

وقبل الإشارة إلى ذلك، لابدّ من الوقوف على مفهوم (الضّرورة)، وبيان المراد منها منطقيّاً وفلسفيّاً، فنقول:

الضّرورة في الاصطلاح المنطقيّ: تعني استحالة انفكاك المحمول عن الموضوع، وترتكز هذه الضرورة على مبدأ عدم التناقض، فالقضيّة المنطقيّة هي التي يكون صدقها ضروريّاً ونقيضها كاذباً بالضرورة، وتجري هذه الضرورة على الأحكام والقضايا حصراً، أي يتمّ تحديد صدق القضايا أو كذبها بمدى اتّساق الموضوع والمحمول أو عدم اتّساقهما.

وهذه الضرورة غير الضرورة الطبيعيّة أو التجريبيّة، حيث تعود الضرورة التجريبيّة إلى مبدأ العلّة والمعلول، وبالتالي تعتمد تلك الضرورة على الملاحظة والتجربة والاستقراء، أي تكون مشروطة بسبب خارجيّ، فيقال مثلاً: التنفّس ضروريّ للحياة، والغذاء ضروريّ للنمو.

والضرورة في الاصطلاح الفلسفيّ: هي أنّ الضرورة تكون إيجابيّة وهي الوجود، وتكون سلبيّة وهي العدم؛ وذلك لأنّ الوجود إمّا أن يكون واجباً وضروريّاً، أي لا يكون بخلاف ما هو كائن ولا يمكن تصوّر نقيضه، وإمّا أن يكون الوجود ممكناً وجائزاً، وهو الذي لا يمتلك الوجود من نفسه وذاته، أي أنّه يحتاج في وجوده إلى علّة، والضرورة بهذا المعنى ناظرة إلى الوجود في نفسه دون النظر إلى أيّ شيء آخر.

وقد أشار الفلاسفة إلى هذا المعنى عندما قالوا: لا شكّ أنّ هنا وجوداً، وهذا الوجود إمّا أن يكون واجباً وإمّا أن يكون ممكناً، فإنْ كان واجباً فقد صحّ وجود الواجب وهو المطلوب، وإنْ كان وجوده ممكناً فإنّ الممكن لا يخرج إلى الوجود إلّا بوجود الواجب؛ لبطلان التسلسل، وفي كلا الفرضين وجود الواجب ضروريّاً.

والملاحظ من ذلك أنّ الضرورة نابعة من النظر إلى الوجود بما هو وجود، وليست ناظرة إلى أيّ اعتبار آخر، فالموجود بحسب المفهوم ينقسم إلى وجود واجب ووجود ممكن، والممكن لذاته لا يترجّح وجوده على عدمه، فلا بدّ له من مرجّح من خارج، وإلّا ترجّح بذاته فكان بذلك واجب الوجود بذاته، وهو خلاف افتراض كونه ممكناً، وكذا في جانب العدم فكان ممتنعاً وقد فرض ممكناً، وهذا خلف، فواجب الوجود لا بدّ من وجوده.

وبما أنّ الموجودات حاصلة فإنْ كان شيء منها واجباً فقد وقع الاعتراف بالواجب، وإنْ لم يكن منها شيء واجباً فلابدّ أن تنتهي في وجودها إلى موجود واجب الوجود بذاته؛ لبطلان التسلسل، وعليه فإنّ الله واجب الوجود، أي ضروريّ الوجود؛ وما دونه من الموجودات كلّها ممكنة الوجود.

وبعد اتّضاح ذلك نعود إلى ما كتبه صاحب الإشكال.

فقوله في المقدّمة الأولى: (الشيء الضروري هو الشيء الذي لا يمكن تصور نقيضه) صحيح، فالضروري هو الذي لا يمكن تصوّر نقيضه، إلّا أنّ هذه المقدّمة لا تخدم صاحب الإشكال، وإنّما تثبت عكس ما سعى إليه، وذلك لأنّ هناك وجوداً في الواقع، وبالتالي لا يمكن تصوّر نقيضه، أي لا يمكن أن يكون موجوداً ومعدوماً في نفس الوقت، وبما أنّ الموجودات موجودة فإنّ وجودها إمّا أن يكون واجباً وإمّا أن يكون ممكناً، وفي كلا الفرضين يكون وجود الواجب ضرورة كما بينّا سابقاً.

وأمّا المقدّمة الثانية: (لا يوجد تفسير واحد مقبول لسبب وجود العالم)، فهي مقدّمة غير صحيحة في نفسها، وإنْ صحّت فإنّها أيضاً لا تخدم صاحب الإشكال فيما يسعى إليه، فعدم صحّتها في نفسها يعود إلى أنّ (التفسير الواحد) الذي يشير إليه قد يقصد به تفسيراً واحداً كما هو في عين الواقع ونفس الأمر، وقد يقصد به تفسيراً واحداً بالنسبة لِما يحمله البشر من تصوّرات.

وبعبارة أخرى: تفسير واحد في مرحلة الثبوت والتحقّق، وتفسير واحد في مرحلة الإثبات والاستدلال:

فإنْ كان يقصد الأوّل فهو باطل بالضرورة؛ لأنّ وجود العالم حقيقة ماثلة ولا بدّ لوجوده من تفسير واحد في عين الواقع، أي: أنّ الكون بما أنّه موجود فلا بدّ أن يكون وجوده مردّداً بين أن يكون واجباً بنفسه أو أن يكون واجباً بغيره، وفي كلا الخيارين وجود الواجب ضرورة، فإمّا أن يكون الكون كلّه واجباً ولا قائل بذلك، وإمّا أن يكون الكون ممكناً وحينها لا بدّ له من واجب.

وإنْ كان يقصد الثاني فهو صحيح، فالبشر يتباينون عادةً في تفسيراتهم لكلّ شيء، وليس الأمر موقوفاً على تفسير وجود العالم، وفي مثل هذه الحالة من التباين في الآراء فإنّ موقف العقلاء يقوم على الترجيح بينها بحسب ما ترتكز عليه هذه الآراء من تبريرات منطقيّة، ومن هنا تجد علماء الكلام والفلسفة استبعدوا جميع التفسيرات التي تنسب وجود الكون للصدفة، أو إلى كون الطبيعة هي التي أوجدت نفسها أو غير ذلك من التصوّرات الباطلة.

أمّا في حال قبلنا المقدّمة الثانية وافترضنا صحّتها، فنقول: هذه المقدّمة لا تؤدّي إلى نفي كون وجود الواجب ضرورياً، بل تثبته، إذ مجرّد وجود تفسيرات متعدّدة يدلّ على أنّ الجميع متسالم على أنّ الكون لابدّ له من علّة واجبة أوجدته، وبمعنى آخر: كلّ مَنْ يتساءل عن تفسير وجود الكون لا بدّ أن يكون قد افترض مسبقاً وجود شيء كان سبباً في وجود الكون، وذلك الشيء لا بدّ أن يكون وجوده من نفسه حتّى لا يكون وجوده أيضاً بحاجة إلى تفسير، وعلى ذلك يصبح كلّ مَن قدّم تفسيراً لوجود الكون لا يعود إلى واجب الوجود يكون تفسيره خاطئاً ومستبعداً من عداد التفسيرات، وبذلك يثبت أيضاً أنّ وجود الواجب ضرورة لتفسير وجود الكون.

المقدمة الثالثة وهي: (فكرة وجود الله كسبب لوجود العالم يمكن تصور نقيضها)، فقد اتّضح ممّا تقدّم: أنّ وجود واجب للوجود هو سبب في وجود الممكنات أمر ضروريّ لا يمكن تصور نقيضه، ويبدو أنّ صاحب المقدّمة خلط بين ضرورة وجود الموجود وبين أسماء الموجود وصفاته، والضرورة في هذه المرحلة لا تحتاج إلى أكثر من إثبات واجب للوجود أوجد الكون، أمّا صفات ذلك الواجب وأسماؤه الحسنى فإنّه يأتي في مرحلة متأخّرة بعد إثبات وجوده.