هل مسأله وجود الله من عدمه تعني للانسان شيء ؟
مسألة الله لا تهمني؛ إن كان غير موجود فلماذا النقاش والجدل، وإن كان موجودا وراض عما يجري في هذا العالم من ظلم ومآسي، فلا يستحق الإعتراف به. استغفر الله هل مسأله وجود الله من عدمه تعني للانسان شيء ؟؟
السلام عليكم ورحمة الله
يمثّلُ هذا الكلامُ قمّةَ السّذاجةِ الفكريّةِ والبساطةِ في مُقاربةِ الحقائقِ، ولا أظنّهُ يصدرُ مِن إنسانٍ يحترمُ أو يفقهُ أبجديّاتِ التّفكيرِ المنطقيّ، فالقولُ إن لَم يكُن اللهُ موجوداً فلماذا النّقاشُ والجدالُ حولَه، يُعبّرُ عَن سطحيّةٍ مُتناهيةٍ؛ لأنَّ عدمَ وجودِ اللهِ إذا كانَ مفروغاً منهُ لما كانَ هُناكَ نقاشٌ من الأساسِ فكيفَ يتساءلُ عَن سببِ وجودِه؟ فوجودُ نقاشٍ وجدالٍ يدلُّ على وجودِ بحثٍ جدّيٍّ بينَ المؤمنينَ والمُلحدينَ، وبالتّالي لا يمكنُ مصادرةُ النّقاشِ والجدالِ بمُجرّدِ افتراضِ عدمِ وجودِ اللهِ، وهذا خلفٌ واضحٌ كما يُسمّى في علمِ المنطقِ؛ لأنَّ إثباتَ النّقاشِ إثباتٌ لإمكانيّةِ الوجودِ، ونفيُ النّقاشِ نفيٌ للإمكانيّةِ، وبما أنّهُ أثبتَ وجودَ النّقاشِ لأنّهُ تساءلَ عن سببِ وجودِه، فيلزمُه حتماً إثباتُ إمكانيّةِ وجودِ اللهِ، ولا يسعُه نفيُها وإلّا وقعَ في خلافِ ما افترضَهُ، فكيفَ بعدَ ذلكَ يتساءلُ وبكُلِّ سذاجةٍ عنِ المُبرّرِ مِن وجودِ النّقاشِ والجدلِ؟ فاللّحظةُ التي لا يكونُ فيها اللهُ موجوداً هيَ ذاتُها اللّحظةُ التي ينعدمُ فيها النّقاشُ والجدلُ، ومِن هُنا لا يمكنُ التّضجّرُ مِن حالةِ النّقاشِ الدّائرِ حولَ وجودِ اللهِ لكونِه نتاجاً طبيعيّاً للاختلافِ بينَ المُؤمنِ والمُوحّدِ، وسوفَ يستمرُّ طالما هُناكَ نزاعٌ بينَهُما.
ثمَّ قولهُ إن كانَ موجوداً وهوَ راضٍ بما في العالمِ مِن ظُلمٍ فلا يستحقُّ الإعترافَ به، وهذا دليلٌ آخرُ على مُستوى التّفكيرِ الأخرقِ وترتيبِ النّتائجِ على غيرِ مُقدّماتِها، فإذا كانَ لازمُ عدمِ وجودِه هوَ عدمُ الإنشغالِ بهِ حواراً ونقاشاً كما افترضَ في أوّلِ الكلامِ، فيلزمُه مِن ذلكَ عندَما يفترضُ وجودَه أن يكونَ النّاتجُ هوَ إنشغالُ الإنسانِ بهِ بحثاً وحواراً وإلى غيرِ ذلك، أمّا الإنتقالُ إلى قضيّةٍ أُخرى لا علاقةَ لها بما إفترضَه في أوّلِ الكلامِ يدلُّ على أنّهُ في حاجةٍ للبحثِ عَن عقلِه قبلَ أن يبحثَ عنِ الله، وكذلكَ قولُه (لا يستحقُّ الإعترافَ به)، فيهِ جهلٌ بمعنى الإعترافِ وطبيعتِه، فالإعترافُ بوجودِ الحقائقِ الواقعيّةِ ليسَ أمراً إعتباريّاً خاضعاً للمزاجِ الشّخصيّ، وإنّما هوَ وصفٌ موضوعيٌّ لحقيقةِ الواقعيّةِ، فعندَما أقولُ الجبلُ موجودٌ فأنا اعترفتُ بوجودِه، وعندَما أقولُ ليسَ بموجودٍ فأنا لم أعترِف بوجودِه، فلا فرقَ بينَ القولِ أنَّ اللهَ موجودٌ والٱعترافِ بوجودِه، ومٍن هُنا نكتشفُ التّناقضَ في قولِه، فعندَما يقولُ إذا كانَ موجوداً فلا أعترفُ بوجودِه، كلامٌ ينفي أوّلُه آخرَه وأخرُه أوّلَه؛ لأنّ نفيَ الإعترافِ هوَ نفيٌ للقولِ بالوجودِ والعكسُ بالعكسِ، أمّا الإعترافُ كقبولٍ نفسيٍّ ناشئٍ منَ الرّغبةِ الشّخصيّةِ في التّصديقِ، لا يهمُّنا في مجالِ النّقاشِ الموضوعيّ لأنّنا لا يمكنُ أن نُلزمكَ بالحقيقةِ وأنتَ لها كاره.
وبعدَ أن تبيّنَ مدى التّناقضِ الذي وقعَ فيهِ هذا المُلحدُ، لابُدَّ مِن تقديمِ رؤيةٍ فيما يخصُّ موضوعَ المظالمِ والخيرِ والشّرّ في الحياةِ، منَ الواضحِ أنَّ البحثَ عنِ الخيرِ والشّرِّ يعدُّ بحثاً في فلسفةِ الأخلاقِ، وهيَ الفلسفةُ المسؤولةُ عنِ البناءِ القيميّ الذي يتحرّكُ في إطارِه الإنسانُ، الأمرُ الذي يجعلُ الإلحادَ في وضعٍ حرجٍ عندَما يُطالبُ بتقديمِ تصوّرِه الخاصّ للأخلاقِ؛ وذلكَ لكونِه فلسفةً مادّيّةً قشريّةً لا تعترفُ بوجودِ قيمٍ أخلاقيّةٍ منَ الأساسِ، فالحقُّ، والخيرُ، والعدلُ، والإحسانُ، والرّحمةُ... وغيرُها منَ القيمِ ليسَت صفاتٍ موجودةً في المادّةِ، بَل غيرُ موجودةٍ حتّى في الإنسانِ بوصفِه مادّةً تُحرّكُه أعصابٌ غيرُ واعيةٍ، فمعَ تحكّمِ هذهِ النّظرةِ المادّيّةِ كيفَ يمكنُ أن نُوجدَ تفسيراً مُختبريّاً وتشريحيّاً لهذهِ القيمِ الأخلاقيّةِ عندَ الإنسانِ؟
فمنَ المُستحيلِ ثبوتاً وإثباتاً أن يكونَ هُناكَ قيمٌ أخلاقيّةٌ تتّصفُ بالإطلاقِ دونَ الإيمانِ بوجودِ إلهٍ يكونُ مصدراً لهذا الإطلاقِ، وهذا ما تنبّهَ إليهِ الكثيرُ مِن فلاسفةِ الإلحادِ، وقَد أدركَ الفيلسوفُ الوجوديّ المُلحدُ (جون بول سارتر)، مبلغَ الإحراجِ الفكريّ في مسألةِ أصلِ التّمييزِ الأخلاقيّ بينَ الخيرِ والشّرّ، ولذلكَ قال: "يجدُ الوجوديّ حرجًا بالغًا في ألّا يكونَ اللهُ موجودًا، لأنّهُ بعدمِ وجودِه تنعدمُ كلُّ إمكانيّةٍ للعثورِ على قيمٍ في عالمٍ واضحٍ. لا يمكنُ أن يكونَ هُناكَ خيرٌ بدهيّ لأنّهُ لا يوجدُ وعيٌ لانهائيٌّ وكاملٌ منَ المُمكنِ التّفكيرُ فيه. لم يُكتَب في أيّ مكانٍ أنَّ الخيرَ موجودٌ، ولا أنّ على المرءِ أن يكونَ صادقًا أو ألّا يكذب".
ومِن هُنا نجدُ أنّ ريتشارد دوكنز يتّسقُ معَ إلحادِه ويلتزمُ بمآلاتِه، فيرفضُ صبغَ الوجودِ ككُلٍّ بأيّ صفةٍ قيميّةٍ على الإطلاقِ، فيقولُ مُقرّاً بمُشكلةِ النّسبيّةِ الأخلاقيّةِ: "في هذا العالمِ لا يوجدُ شرٌّ ولا يوجدُ خيرٌ، لا يوجدُ سوى لامبالاةٍ عمياءَ وعديمةِ الرّحمة". ويقولُ أيضاً: إنّه منَ العسيرِ جدًا الدّفاعُ عنِ الأخلاقِ المُطلقةِ على أُسسٍ غيرِ دينيّة" .
وقد أشادَ داروين نفسُه بالدّورِ الفعّالِ للإيمانِ بالمعبودِ حيثُ يقولُ: "وبالنّسبةِ للأعراقِ الأكثرِ تمدّناً، فإنَّ الإيمانَ الرّاسخَ بالوجودِ الخاصِّ بمعبودٍ، مُطّلعٍ على كلِّ شيءٍ قَد كانَ لهُ تأثيرٌ فعّالٌ، على التّقدّمِ الخاصّ بالأخلاق" .
ومِن هُنا إستنكارُ المُلحدِ على وجودِ مظالمَ إستنكارٌ غيرُ مفهومٍ ولا يمكنُ تبريرُه، ومِن ظرائفِ هذا البابِ ما نشرَهُ الفيلسوفُ (ويليام لين كريغ) في موقعِه الإلكترونيّ، في بابِ أسئلةِ القُرّاءِ، تحتَ عنوانِ: (لقَد دمّرتَ حياتي، بروفسور كريغ!)، وخلاصةُ الأمرُ أنّ صاحبَ السّؤالِ طالبُ فلسفةٍ في إحدى الجامعاتِ الأمريكيّةِ، وقد أُشربَ قلبُه الإلحادَ حتّى إنَّ جُلَّ أبحاثِه الجامعيّةِ كانَت عنِ الإلحاد. وكانَ أن قرأ مقالًا لـ(كريغ) تحتَ عنوانِ: (عبثيّةِ الحياةِ مِن غيرِ الله)، فاهتزَّ لهُ وجدانُه، ولم ينَم يومينِ مُتتاليينِ، غيرَ أنّه اجتهدَ لأشهرٍ لإعدادِ ردٍّ عليهِ، وشعرَ بالسّعادةِ والرّاحةِ لمّا انتهى مِن كتابةِ إعتراضِه النّقديّ المُطوّلِ. كانَت خُلاصةُ فكرةِ (كريغ) هيَ أنَّ العقيدةَ الإلحاديّةَ المُفرّغةَ منَ الإيمانِ باللهِ لا بُدَّ أن تؤولُ بالمُلحدِ إلى العدميّةِ، بالمعنى الواسعِ للعدميّةِ حيثُ لا قيمةَ لشيءٍ في ذاتِه. شعرَ هذا الشّابُّ أنّهُ لا بُدَّ منَ التّسليمِ لِما قرّرهُ (كريغ)؛ ولذلكَ حاولَ بعدَ كتابتِه للرّدِّ أن يعيشَ مُتناسقًا معَ الإلحادِ كمبدأٍ عقديّ لأنَّ مُخالفةَ ذلكَ تعني أنَّ فعلَهُ غيرُ مُتناسقٍ مع فكرِه النّظريّ، ولكنّه لما وضعَ رجلَه في عالَمِ (العدميّةِ) صرخَ: (إنَّ العدميّةَ لا يمكنُ َأن تُعاش). لقد أُصيبَ بالتّأزّمِ النّفسيّ، وانكفأ على نفسِه في عُزلةٍ تامّة؛ إذ أدركَ أنَّ الإيمانَ باللهِ هوَ الشّيءُ الوحيدُ الذي بإمكانِه أن يجعلَ للوجودِ معنى وأن يفكَّ الألغازَ التي تُطاردُه بأشباحِها، لتُصبحَ الحياةُ بذلكَ قابلةً لأن يُعايشَها الإنسانُ. وختمَ الشّابُّ رسالتَه بقولِه إنّهُ (مُلحدٌ يكرهُ الإلحادَ”!)
وفي المُحصّلةِ أنَّ الأمرَ الذي يجبُ حسمُه هوَ أنَّ المُلحدَ لا يمكنُه الإعتراضُ على أخلاقيّةِ الوجودِ إلّا إذا اعترفَ أوّلاً بوجودِ الله؛ لأنَّ الكلامَ عن الأخلاقِ يبدأُ بعدَ الكلامِ عن وجودِ الله.
ولكَي نفهمَ العدالةَ لابُدَّ أن نفهمَ معنى الحياةِ الدّنيا، لأنَّ معنى العدالةِ يتحدّدُ وِفقاً لمعنى الحياةِ، فلو أوجدَ اللهُ الحياةَ بوصفِها الجنّةَ الأبديّةَ للإنسانِ، ثمَّ وعدَه ألًا يصيبَه فيها مكروهٌ، كما وعدَ آدمَ بقولِه: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظمَأُ فِيهَا وَلَا تَضحَىٰ) (119 طه). حينَها نفهمُ العدالةَ بالشّكلِ الذي يتناقضُ معَ وجودِ الشّرورِ والمظالمِ. أمّا إذا كانَت الحياةُ وُجدَت أساساً كدارٍ للإبتلاءِ والإمتحانِ، ومِن ثمَّ الإنسانُ يختارُ بعملِه الجنّةَ التي يريدُ أن يكونَ فيها، كما قالَ تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لَا يُفتَنُونَ) (2 العنكبوت). حينَها لا نفهمُ العدالةَ إلّا في إطارِ الفتنِ والمصاعبِ التي تُؤهّلُ الإنسانَ لدخولِ الجنّةِ، وعندَها تصبحُ الشّرورُ مجموعةً منَ الإختباراتِ والإمتحاناتِ التي تتدرّجُ بالإنسانِ في مراتبِ الكمالِ.
اترك تعليق