مذهب المأمون العباسيّ

السؤال: ما هو حال المأمون العباسيّ؟ وهل هو شيعيّ إماميّ؟

: الشيخ مروان خليفات

الجواب:

عبد الله المأمون بن هارون (170هـ ـ 218هـ) الخليفة العباسيّ المعروف. وهو لم يكن شيعيّاً بالمعنى الاصطلاحيّ للكلمة، لأنّ الشيعيّ الإماميّ هو الذي يعتقد النصّ على أئمّة أهل البيت (ع) وعصمتهم، وينقطع إليهم ويأخذ معالم دينه منهم، ويتبرّأ من أعدائهم.

وسأعرض أوّلاً الأدلّة التي تُثبت بُعْدَهُ عن التشيّع، ثمّ أناقش الأمور التي احتجّ بها مَنْ قال بتشيّعه.

ـ روى الشيخ الكلينيّ والصدوق في حديث اللّوح قول الله عزّ وجلّ بحقّ الإمام الرّضا (ع) وقاتله: (... ويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدّة موسى عبدي وحبيبي وخيرتي في عليّ وليّي وناصريّ ومن أضع عليه أعباء النبوّة وأمتحنه بالاضطلاع بها، يقتله عفريت مستكبر، يُدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شرّ خلقي...) [الكافي، ج 1 ص 576، عيون أخبار الرضا (ع)، ج 1 ص48 ـ 50].

وُصِفَ المأمون بأنّه عفريتٌ مستكبرٌ، ولو كان شيعيّاً صالحاً، لَـمَا وصفه الله بذلك.

ـ ذكر ابن كثير أبياتاً شعريّة للمأمون تبيّن عقيدته في موالاة الخلفاء، وهي:

(أصبح ديني الذي أدين به * ولست منه الغداة معتذراً

حبّ عليّ بعد النبيّ ولا * أشتم صدّيقاً ولا عُمَرَاً

ثمّ ابن عفّان في الجنان مع ال‍ * أبرار ذاك القتيل مصطبراً

ألَا ولا أشتم الزبير ولا * طلحة إنْ قال قائل غدراً

وعائش الأمّ لست أشتمها * من يفتريها فنحن منه برا) [البداية والنهاية، ج 10 ص303].

لا تحتاج الأبيات إلى شرح، أمّا تفضيله عليّاً (ع)، فلا يعدّ دليلاً على كونه إماميّاً، فالمعتزلة البغداديّون يفضّلون عليّاً (ع) على جميع الصّحابة، لهذا قال ابن كثير: (وكان على مذهب الاعتزال لأنّه اجتمع بجماعة منهم بشر بن غياث المريسيّ، فخدعوه وأخذ عنهم هذا المذهب الباطل.) [البداية والنهاية، ج 10 ص 301].

قال الذهبيّ مبيّناً عقيدة المأمون: (وكان المأمون يبالغ في التشيّع، ولكن لم يتكلّم في الشيخين بسوء، بل كان يترضّى عنهما، ويعتقد إمامتهما) [تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج 15 ص 6].

يعني بمبالغته في التشيّع هو تفضيل عليّ (ع) على الصحابة، وكلامه في معاوية كما في: سير أعلام النبلاء، ج 10 ص 281].

ممّا يؤكّد عقيدة المأمون هذه ما قاله ابن طيفور (ت 280هـ) نقلاً عن التغلبيّ عن يحيى بن أكثم: (... فقال المأمون: فطائفة عابوا علينا ما نقول في تفضيل عليّ بن أبي طالب وظنّوا أنّه لا يجوز تفضيل عليّ إلّا لانتقاص غيره من السّلف، والله ما أستحلُّ أنْ أنتقص الحجّاج!! فكيف السّلف الطيّب!!) [كتاب بغداد ص 45].

ـ طعن المأمون برجال الإماميّة المشهورين:

فقد روى الخطيب البغداديّ بسنده: عن أبي سعيد علي بن الحسن القصريّ، قال: قال المأمون لحاجبه يوماً: اُنظر مَنْ بالباب من أصحاب الكلام؟ فخرج وعاد إليه فقال: بالباب أبو الهذيل العلّاف، وهو معتزليّ، وعبد الله بن إباض الإباضيّ، وهشام بن الكلبيّ الرافضيّ. فقال المأمون: ما بقي من أعلام أهل جهنّم أحد إلّا وقد حضر.) [تاريخ بغداد، ج 4 ص 139].

فلو كان المأمون إماميّاً لَـمَا حَكَمَ على هشام بن السائب الكلبيّ بأنّه من أهل النّار، والرجل من رجالات الشيعة المشهورين الموالين لأهل البيت (ع)، قال النجاشيّ في ترجمته: (النّاسب، العالم بالأيّام، المشهور بالفضل والعلم، وكان يختصّ بمذهبنا. وله الحديث المشهور قال: اعتللت علّة عظيمة نسيت علمي فجلست إلى جعفر بن محمّد عليه السلام فسقاني العلم في كأس، فعاد إليّ علمي. وكان أبو عبد الله عليه السلام يقرّبه ويدنيه ويبسطه.) [فهرست أسماء مصنفي الشيعة، ص 435].

ـ إنّ قاضي قضاة دولة المأمون هو يحيى بن أكثم، وهو سنيّ المذهب، وهذا يعني أنّ قضاة الدولة وقوانينها كانت وفق المذهب السنيّ، قال الذّهبيّ: (وكانت الوزراء لا تبرم شيئاً حتّى تُراجع يحيى.) [سير أعلام النبلاء، ج 12 ص 6].

فلو كان المأمون إماميّاً لما جعل يحيى في هذا المنصب، ولعيّن قاضياً شيعيّاً ولعَمّم الفقه الشيعيّ وعقائد الشيعة في البلاد.

ما استدلّ به على تشيّع المأمون العباسيّ:

رصد البعض عدّة أمورٍ تدلُّ بحسب رأيه على تشيّع المأمون، وهذه وقفة ومناقشة مع ما استدلوا به على ذلك:

الأمر الأوّل : تفضيله عليّاً (ع) على الشيخين:

إذْ قال الذهبيّ: (وفي سنة اثنتي عشرة: سار محمّد بن حميد الطوسيّ لمحاربة بابك، وأظهر المأمون تفضيل عليّ على الشيخين، وأنّ القرآن مخلوق.) [سير أعلام النبلاء، ج 10 ص 286].

والجواب عن ذلك: أنّ التفضيل لا يدلّ على اتّخاذه التشيّع عقيدة، فكثير من السلف كانوا يفضّلون علياً (ع) على الشيخين وهم ليسوا بشيعة، فبعض المعتزلة كانوا يفضّلون عليّاً (ع)، وهؤلاء كانوا في زمانهم خصوماً للإماميّة، وكذلك البتريّة قالوا بالتفضيل، وهم ليسوا بشيعة إماميّة.

الأمر الثاني: قوله بخلق القرآن:

وهو في نصّ الذهبيّ أعلاه، وقوله هذا مشهور عنه، امتحن به العلماء، وهو لا يدلّ على تشيّعه، وإنّما يدلُّ على أنّه معتزليٌّ، لأنّ المعتزلة تعتقد بذلك، فهو -إذنْ-معتزليّ كما قال ابن كثير عنه.

الأمر الثالث: جعله ولاية العهد للإمام الرضا (ع):

إذْ قال السيوطيّ: (وفي سنة إحدى ومائتين خلع أخاه المؤتمن من العهد وجعل وليّ العهد من بعده عليّ الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق...) [تاريخ الخلفاء، ص 333].

وجوابه: بأنّ هذا الفعل لا يدلّ على تشيّعه، إذْ لو كان شيعيّاً حقّاً، لاعتزل الخلافة وتركها للإمام الشرعيّ (ع)، فالشيعة تعتقد أنّ الإمام يختاره الله عزّ وجلّ، فكيف سمح المأمون لنفسه أنْ يعيّنه إنْ كان شيعيّاً؟! ولو كان موالياً لأهل البيت (ع) لما جعل الإمامَ (ع) وليّاً لعهده، فكيف يكون الإمام الرضا (ع) إمام زمان المأمون، والمأمون هو الخليفة والرضا (ع) نائبه؟!

زِدْ على ذلك: أنّ المأمون نفسه هدّد الإمام الرضا (ع) بالقتل إن لم يقبل ولاية العهد، إذْ روى الشيخ الصّدوق بسند صحيح: (حدّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمدانيّ رضي الله عنه قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه، عن الريّان بن الصّلت، قال: دخلت على عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام فقلت له: يا بن رسول الله الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا؟

فقال (عليه السلام): قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خُيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم ! أمَا علموا أنّ يوسف عليه السلام كان نبيّاً ورسولاً دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز:﴿ قال اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم ﴾ ودفعتني الضّرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك...) [عيون أخبار الرضا (ع)، ج 2 ص 150 ـ 151].

وروى الشيخ الصّدوق محاورة المأمون للرضا (ع)، قال المأمون: (إنّي قد رأيت أنْ أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك. فقال له الرضا (عليه السلام): إنْ كانت الخلافة لك وجعلها الله لك، فلا يجوز أنْ تخلع لباساً ألبسك الله وتجعله لغيرك، وإنْ كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز لك أنْ تجعل لي ما ليس لك.

فقال له المأمون: يا بن رسول الله، لا بدّ لك من قبول هذا الأمر.

فقال: لستُ أفعل ذلك طائعاً أبداً، فما زال يجهد به أيّاماً حتّى يئس من قبوله. فقال له: فإنْ لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك، فكن وليّ عهدي لتكون لك الخلافة بعدي.

فقال الرضا (عليه السلام): والله لقد حدّثني أبي، عن آبائه، عن أمير المؤمنين، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنّي أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسمّ مظلوماً، تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأُدفن في أرض غربةٍ إلى جنب هارون الرّشيد، فبكى المأمون، ثمّ قال له: يا بن رسول الله، ومن الذي يقتلك، أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حيّ؟ فقال الرضا (عليه السلام): أمَا إنّي لو أشاء أنْ أقول مَنْ الذي يقتلني لقلت. فقال المأمون: يا بن رسول الله، إنّما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس: إنّك زاهد في الدنيا. فقال الرضا (عليه السلام): والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّ وجلّ، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإنّي لأعلم ما تريد. فقال المأمون: وما أُريد؟ قال: ليَ الأمان على الصدق؟

قال: لك الأمان. قال (ع): تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى لم يزهد في الدّنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألَا تروَن كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة. فغضب المأمون، ثمّ قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه، وقد أَمِنْتَ سطواتي، فبالله أُقسم لإنْ قبلت ولاية العهد وإلّا أجبرتك على ذلك، فإنْ فعلتَ وإلّا ضربتُ عنقك.

فقال الرضا (عليه السلام): قد نهاني الله عزّ وجلّ أنْ أُلقيَ بيدي إلى التّهلكة، فإنْ كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك، على أنّي لا أُوَلّي أحداً، ولا أعزل أحداً...) [عيون أخبار الرضا (ع)، ج2 ص 152].

ثُمَّ إنّ السبب في جعل المأمون الرضا (ع) وليّاً لعهده، ليمتصّ غضب العلويّين الذين ثاروا عليه في مناطق مختلفة. روى الشيخ الصّدوق بسند صحيح عن معمّر بن خلّاد قال: قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام): قال لي المأمون: يا أبا الحسن اُنظر بعض من تثق به تولّيه هذه البلدان التي قد فسدت علينا. فقلت له: تَفِي لي، وأَفِي لك، فانّي إنّما دخلت فيما دخلت على أنْ لا آمُر فيه ولا أنهى، ولا أعزل ولا أُوَلّي...) [عيون أخبار الرضا (ع)، ج2 ص 166].

الأمر الرابع: ردّه فدكاً:

(كتب المأمون إلى عامله قثم بن جعفر: أن يردّ فدكاً إلى أولاد فاطمة (عليها السلام)، فدفعها إلى محمّد بن الحسن بن زيد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، و محمّد بن عبد الله بن زيد بن الحسين بن زيد) [شرح المقاصد للتفتازاني، ج2 ص 292].

وجواب ذلك: بأنّ فعله هذا -إنْ صحّ-فليس دليلاً على تشيّعه، إذْ لو كان شيعيّاً موالياً لأهل البيت (ع) لأرجع فدكاً إلى الإمام الرضا (ع) أو إلى ابنه الإمام الجواد (ع)، ولعلّه أرجع فدكاً لبعض العلويّين حتّى يأمن جانبهم، ولا يخرجوا عليه كما فعل غيرهم.

الأمر الخامس: الإحسان إلى آل أبي طالب:

وهذا الأمر لا يعدّ دليلاً على تشيّع الرّجل، فربّما فعل ذلك ليأمن جانب العلويين، ولا ينضمّوا إلى ثوّار الزيديّة الذين خرجوا عليه في بلاد عديدة وحاربوه. إذْ روى الخطيب البغداديّ بسنده عن الحسين بن فهم يقول: سمعت يحيى بن أكثم يقول: ما أَحسن أحدٌ إلى آل أبي طالب من خلفاء بني العبّاس ما أحسن إليهم الواثق، ما مات وفيهم فقير.) [تاريخ بغداد، ج 14 ص 19].

فلاحظ أنّ يحيى المقرّب من المأمون يقرّ أنّ الواثق العباسيّ أكثر الخلفاء إحساناً إلى آل أبي طالب، ولم يقلْ أحدٌ: إنّ فعله هذا دليل على تشيّعه.

الأمر السادس: إباحته المتعة:

إذْ قال الذهبيّ: (قيل: إنّ المأمون لتشيّعه أمر بالنّداء بإباحة المتعة - متعة النساء فدخل عليه يحيى بن أكثم، فذكر له حديث عليّ بتحريمها، فلمّا علم بصحّة الحديث، رجع إلى الحقّ، وأمر بالنّداء بتحريمها) [سير أعلام النبلاء، ج1 ص 283].

فالجواب عن ذلك: بأنّ إباحة المتعة مشهورٌ عن جماعة من السّلف من الصحابة والتّابعين كما ذكر ابن حزم، فإنّه قال: (وقد ثبت على تحليلها بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جماعة من السّلف منهم من الصحابة: أسماء بنت أبي بكر، وجابر بن عبد الله، وابن مسعود، وابن عباس، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن حريث، وأبو سعيد الخدريّ، وسلمة ومعبد ابنا أميّة بن خلف... ومن التابعين: طاووس وعطاء وسعيد بن جبير وسائر فقهاء مكّة أعزّها الله) [المحلّى، ج5 ص 133].

وعليه: فلا يعدّ هذا دليلاً على تشيّع المأمون، بل هو دليل على تسنّنه، لمخالفته فقه أهل البيت (ع)، ولأخذه الفتوى والرواية من مرجعيّة سنيّة، إذْ إنّ بعض المعاصرين أجازوا هذا الزّواج، ومنهم شيخ الأزهر في زمانه أحمد الباقوريّ. راجع: وركبت السفينة، ص345].

ومع ذلك فلم يكن شيخ الأزهر شيعيّاً بذهابه إلى حليّة هذا الزواج، ومعاوية ممّن أباح هذا الزواج كما في نقل ابن حزم، وهو عدوٌّ لأهل البيت (ع) ولشيعتهم.

فنخلص بعد كلّ هذا إلى أنّ المأمون بعيدٌ عن التشيّع، بل إنّه قام بقتل الإمام الرضا (ع) وهو إمام الشيعة، والمأمون من المعتزلة، تلك الفرقة التي خرجت من رحم التسنّن، ودانت بمذاهبهم الفقهيّة من الحنفيّة والشافعيّة، وبقيَت موالية للسلف والخلفاء، تدافع عنهم وتردّ على عقائد الشيعة الإماميّة.