ما السبيل إلى نبذ الفرقة بين المسلمين سنة وشيعة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :وجود طوائف ومذاهب في الواقع الإسلامي أمرٌ يكاد أن يكون من مسلمات الوعي الديني، والادّعاء بأن واقع المسلمين واقع موحد ادّعاء فيه مجازفة تتجاوز أبسط البديهيات، ومن هنا فإن الضرورة العقلية تقتضي تسمية الأمور بمسمياتها، لفتح الباب أمام ممارسة نقدية تساهم في بناء الوعي الديني على أسس عقلانية.ولا يعني هذا أن الإسلام ليس ديناً واحداً، وإنما يعني أن وعيُنا به ليس واحداً؛ فهناك مساحة فاصلة بين الإسلام الموحد في واقع نصِّه، وبين الإسلام المتباين في واقع فهمه، ولا طريق لضبط التباين على مستوى الفهم سوى الاعتماد على المنهجية العلمية والضوابط العقلائية للفهم. فمن يرى التعدد في الفهم ضرورة تفرضها طبيعة الإنسان لا يتجاوز بذلك حقيقة الإسلام الواحد، بشرط ألا يقوم الفهم على العبث والاعتباط وإنما على المنهجية العلمية والقواعد المنطقية المتعارفة عند العقلاء، وبهذا يمكن قبول الاخر طالما يتحرك الاختلاف في إطار الاجتهاد العلمي في دائرة النصوص. أما من يرى الإسلام مطابقاً لفهمه أو فهم جماعته وفي نفس الوقت لا يعترف بأي فهم آخر سيحكم على المخالف بالكفر والضلال. ولخلق توازن بين وجهتي النظر لا بد من الاعتراف أولاً بأن الإسلام دين واحد، ويتضمن حقائق محددة أراد ايصالها للبشر، إلا أن الإنسان بتركيبته المعقدة جداً والمتأثرة بالبيئة، والتربية، والحالة النفسية، والمحيط السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، لا يقارب الأشياء بصرامة المنهج الموضوعي، وإنما يقاربها بما ينسجم مع ظرفه ونفسيته ومصلحته، فلا يرى الحقائق كما هي، وإنما يراها بالشكل الذي يحب هو أن يراه، ومن هنا لا أتصور ان هناك ديناً سماوياً لم يأمر اتباعه بتهذيب النفس، وتوخي الحق، ونبذ التعصب، وعدم اتباع الظن، وقد اكد القرآن على ذلك بقوله (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) ، فالبرهان هو الوحيد الذي يجب أن يسود، والمنطق السليم هو الذي يجب أن يحكم بين المختلفين في الفهم، أما القطعية والتكفير وكل مظاهر التعصب فليست من طبيعة الإسلام ولا من طبيعة العقلاء، والاختلافات التي تحدث في ظل المناهج العلمية اختلافات مقبولة طالما تتحرك جميعها في دائرة المناهج العلمية، ومن هنا فإن الاعتراف بالتباين ضرورة تفرضها الطبيعة الإنسانية كما أن الاعتراف بالحقائق المحددة ضرورة تفرضها طبيعة الرسالة الإلهية، والجامع بين الأمرين هو الفهم القائم على الضوابط العلمية. فقيم الدين واصوله ومرتكزاته التي تشكل البنية الأساسية للإسلام لا يجوز الاختلاف فيها؛ لكونها تشكل الإطار العام للهوية الإسلامية، أما ما يتعلق بالمتغيرات التي تلاحق الإنسان في حركته الزمانية فالاختلاف فيها ضرورة تفرضها طبيعة الحياة، ومن هنا ما زال باب الاجتهاد مفتوحاً امام كل من له أهلية لذلك.فطبيعة البشر تقتضي التعايش مع التباين على مستوى الفهم، ويظل هذا الامر طبيعياً إذا تم حصره في إطار الفهم والاجتهاد، إلا أن الخطورة تكمن في تحوليها من باب التباين الطبيعي للفهم، إلى دائرة أخرى تحركها عوامل غير معرفية، فتصبح سبباً للقطعية والهجران بين المسلمين، فيكفر بعضهم بعضاً ويستبيح بعضهم دماء البعض الاخر. وهنا يمكننا أن نجزم بأن الطائفية حالة نفسية لا يربطها بالإسلام أي رابط، كما يمكننا القول إن القطع بالحقيقة بالنحو الذي يغلق باب البحث والتحقيق هو فعل النفس وليس للعقل دخل فيه. وإذا كان هناك مشروع جدي لتوحيد المسلمين، فلا بد أن يبدأ هذا المشروع أولاً بتكريس ثقافة التعددية، والاعتراف بالآخر مهما كان مخالفاً، والتسالم ثانياً على أن الوحدة لا تعني بالضرورة التطابق الكامل في الأفكار، لأن هذا الأمر من الصعوبة بمكان، وإنما تعني التوافق على مشتركات تمثل صبغتنا وهويتنا، وفي نفس الوقت فتح الباب واسعاً أمام عقليات الأمة للإبداع ضمن ضوابط الاجتهاد. ويبدو أن الطائفية التي اتخذت طريقها إلى تفكيك البنية الاجتماعية للأمّة، كانت نتاجاً طبيعياً للفهم الذي حوّل الإسلام إلى قشور، بعيداً عن الروح والمحتوى، فعندما يكون للإنسان خياراً معرفياً واحداً ويبني شخصيته على هذا الرأي لابد أن يكون شديد التعصب له؛ لأنه سوف يرى الرأي المخالف له رأياً مهدداً لكيانه، والإنسان بطبعه يستأسد في الدفاع عن ذاته، في حين أن الحقيقة أعمق من هذا التصور المحدود، كما أن فهم الدين في إطار القيم، وخاصة القيم الكبرى التي تؤسس للتعاون والتكامل البشري، كفيل بتذويب هذه الروح الطائفية، فإذا كان الدين، بكل عقائده وأحكامه وأدبياته وتعاليمه، يحقق قيماً إيجابية، فهذا كافٍ للحكم على أن الطائفية ليست من الإسلام، لأنها قيمة سلبية تقف عائقاً أمام تقدم الإنسان وتكامله، بل تؤسس لتقويض البناء الإنساني. ونحن هنا لا نؤسس للنسبية ولا نتنكر على وجود حقائق تمثل مراد الله، وإنما نتحدث على مستوى فهم الإنسان لهذه الحقائق، فالحقائق شيء وفهمي لها شيء آخر، فمهما بلغت الحقيقة من الوضوح فلا ترتقي إلى درجة أن تكون جزءاً من الإنسان، بالتالي لا يحق لي أن أحاكم الآخرين على مستوى فهمي. ويختلف الأمر في ما يتعلق بالتنافس العلمي والفكري، لكون التنافس يقوم بالأساس على الاعتراف بكون الحقيقة شيئاً أوسع مما اعرف، وهذا الشعور بحد ذاته لا يدع مجالاً لتسرب الطائفية إلى روح الإنسان، لأنه كلما تعلم وازداد علماً كلما أكتشف أنه بعيد عن الكمال، فالتوحيد- مثلاً- له معانٍ لا تنفد، فكلما تأمل الإنسان وتدبر يجد نفسه بعيداً عن الإحاطة بعلم التوحيد، أما الذي يعتقد أن التوحيد هو توحيد ربوبية وتوحيد ألوهية، ويمكن شرحه في عشرات الصفحات التي يمكن حفظها عن ظهر قلب، فإن فهمه هذا يتحول إلى معيار يحاكم به الآخر بعد أن يعتقد أنه امتلك الحقيقة وأصبح معبراً عنها، وهذا ما وقعت فيه بعض المدارس السلفية مما جعلها رائدة الفكر الطائفي. والخلاصة: إن إسلام كل واحد منا لا يعني أنه يطابق تماماً ما أراده الله في كتابه؛ لأن ذلك لا يتحقق إلا عند المعصوم، وعليه لا يوجد مبرر لأن يكون المسلم متعصباً لفهمه طالما لا يمتلك زمام الحقيقة، ولا يتناقض ذلك مع شعور كل إنسان أو جماعة بأنها على الحق بناءً على ما تمتلك من معطيات وبراهين، فالمهم أن لا يتحول هذا الشعور إلى معيار لمحاكمة المخالفين، فالطائفية ليست مجرد الشعور بالحق وإنما الطائفية هي أن يتحول هذا الشعور لوسيلة لمصادرة شعور الاخرين، وعليه فإن الدليل والبرهان هي المساحة التي تجمع بين جميع المتخالفين، قال تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
اترك تعليق