النبيُّ الأعظمُ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وعلمُ الغيب
لو كانَ النبيُّ (ص) يعلمُ الغيبَ، فلماذا اعتمدَ على بعضِ الصحابةِ في كتابةِ الوحي، والذينَ سيؤولُ أمرُهم إلى الانحرافِ لاحقاً، كعبدِ اللهِ بنِ سعدٍ بنِ أبي سرح، والذي ارتدَّ عن الإسلام ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أوّلاً: إنّ كتابةَ ابنِ أبي سرحٍ الوحيَ لرسولِ الله (ص) لا يضرُّ بعلمِ النبيّ (ص) بالغيبِ، وإلّا فهل يمكنُ أن نوجّهَ هذا السؤالَ بالنسبةِ إلى اللهِ تعالى؟! فمِمّا لا شكَّ فيه أنّ اللهَ تعالى كانَ يعلمُ بمصيرِ عبدِ اللهِ بنِ سعد بنِ أبي سرح، فكيفَ سمحَ لنبيّه (ص) أن يكتبَ لهُ الوحي؟! فسماحُ اللهِ له لا ينفي علمَ اللهِ بالغيب، وبمصائرِ الأمور. فهناكَ حكمةٌ ومصلحةٌ، سواءٌ علِمنا بها أم لَم نعلم. ثانياً: إنّ الذينَ كانوا يكتبونَ ويقرؤونَ في ذلكَ الزمانِ قليلونَ جدّاً، وابنُ أبي سرحٍ كانَ يكتبُ ويقرأ، وصاحبَ خطٍّ جميل، ولذا استعانَ بهِ النبيُّ (ص) لوجودِ هذهِ الميّزةِ فيه، كما أنّه (ص) استعانَ بغيرِه، ما دامَ أنّهم على ظاهرِ الإسلام، ومِن أصحابِه وأتباعِه وأعوانِه وأنصارِه بحسبِ الظاهر. ثالثاً: إنّ مِن بينِ العلومِ الغيبيّةِ المُستقبليّةِ التي يمتلكُها النبيُّ (ص) ممّا هوَ مُرتبطٌ بالحوادثِ المُستقبليّة ما هوَ قابلٌ للبداءِ، بحيثُ يمكنُ التغييرُ فيه، قالَ تعالى: { يَمحُو اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتابِ } [الرعد: ٣٩] ومعَ أنّ النبيَّ (ص) كانَ يعلمُ بمصيرِ هذا الرجلِ، ولكنَّ مصيرَه لم يكُن حتميّاً، بل كانَ فيهِ قابليّةُ التغييرِ والتبديل، ولذا كانَ النبيُّ (ص) يتألّفُه باستكتابِ الوحي، لعلّه يثبتُ على الإسلامِ، هذا مِن جهة. ومِن جهةٍ أخرى: استكتابُه أبلغُ في إقامةِ الحُجّةِ، فالنبيُّ (ص) قرّبَه وأدناه، ولم يُبعّده ويقصيه، كي لا يتوهّمَ أنَّ النبيَّ (ص) سببٌ في ضلالِه وارتدادِه، فتكونُ الحُجّةُ عليهِ تامّةً كاملةً، لأنَّ مُقتضياتِ الهدايةِ تقوى بتقريبِ النبيّ (ص) له، ومُقتضياتُ الضلالِ تضعُف، ورغمَ ذلكَ ارتدَّ عن الإسلام، وضلَّ عن طريقِ الهداية. رابعاً: إنّ علمَ الغيبِ علمٌ مُفاضٌ منَ اللهِ على نبيّه، والنبيُّ (ص) مأمورٌ بالسيِر طبقَ الموازينِ الظاهريّة، وليسَ طبقَ ما يعلمُه مِن طريقِ الغيب، إلّا إذا أمرَه اللهُ بالسيرِ طبقَ الموازينِ الغيبيّة في حادثةِ مُعيّنة، رويَ بسندٍ صحيحٍ عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام) قالَ : قالَ رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) : إنّما أقضي بينَكم بالبيّناتِ والأيمانِ وبعضُكم ألحنُ بحُجّتِه مِن بعضٍ فأيّما رجلٌ قطعتُ لهُ مِن مالِ أخيهِ شيئاً فإنّما قطعتُ له بهِ قطعةً منَ النار. (الكافي: 7 / 414، تهذيبُ الأحكام: 6 / 228). فالنبيُّ (ص) مُكلّفٌ بالعملِ طبقَ الموازينِ الظاهريّة، إلّا إذا تدخّلَ الوحيُ وأمرَه بالعملِ طبقَ الميزانِ الواقعي. وبما أنّ عبدَ اللهِ بنَ أبي سرحٍ كانَ مُسلماً ويعرفُ الكتابةَ والقراءة، وخطُّه جميلٌ، ولذا استكتبَه النبيُّ (ص) كغيرِه منَ الصحابةِ الذينَ استكتبَهم لأنّهم يعرفونَ الكتابة. ونفسُ الكلامِ يقالُ في أميرِ المؤمنينَ (ع) حيثُ ثبتَ في رواياتِ الفريقينِ أنّه كانَ يعلمُ بساعةِ مصيرِه، ومعَ ذلكَ خرجَ إلى الصّلاةِ، فعلمُ أميرُ المؤمنينَ (ع) كانَ مِن طريقِ الغيب، حيثُ أخبرَه رسولُ الله (ص) بتفاصيلِ ذلك، ولكنّه كانَ مأموراً بالعملِ على حسبِ ظاهرِ الحال، وبما أنّ الموازينَ الظاهريّةَ لم تكُن تشيرُ إلى أيّ شيءٍ سلبيّ، إذ عمليّةُ التدبيرِ لاغتيالِه كانَت في غايةِ السريّةِ والكتمان. خامِساً: إنّ هذهِ الحادثةَ تُعطينا درساً أنّ كتابةَ الوحي للنبيّ (ص) لا تعصمُ صاحبَه، ولا تعدّلُه، فضلاً عن أن يكونَ مُجرّدَ صاحبٍ. فالصُّحبةُ لا تعصمُ عن الارتدادِ، فضلاً عن العصمةِ عن الضّلال. سادِساً: أمّا ما يرتبطُ بعلمِ النبيّ (ص) الغيبَ فنقول: لقد نصَّ القرآنُ الكريم على أنّ اللهَ تعالى قد فتحَ نافذةَ الغيبِ على بعضِ عبادِه، قالَ تعالى: { عالِمُ الغَيبِ فَلا يُظهِرُ عَلى غَيبِهِ أَحَدًا إِلّا مَنِ ارتَضى مِن رَسولٍ فَإِنَّهُ يَسلُكُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ رَصَدًا لِيَعلَمَ أَن قَد أَبلَغوا رِسالاتِ رَبِّهِم وَأَحاطَ بِما لَدَيهِم وَأَحصى كُلَّ شَيءٍ عَدَدًا } [الجن: ٢٦-٢٨] فهذهِ الآيةُ تنصُّ على أنَّ اللهَ تعالى لا يُطلِعُ على غيبِه إلّا الصّفوةَ مِن عبادِه، الذينَ يرتضيهم ويختارُهم لذلك، فبعضُ العبادِ مُطّلعونَ على علمِ الغيب. وقالَ تعالى: { وَعِندَهُ مَفاتِحُ الغَيبِ لا يَعلَمُها إِلّا هُوَ وَيَعلَمُ ما فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَما تَسقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلّا يَعلَمُها وَلا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأَرضِ وَلا رَطبٍ وَلا يابِسٍ إِلّا في كِتابٍ مُبينٍ } [الأنعام: ٥٩]وبحسبِ نصِّ هذهِ الآيةِ وبقيّةِ الآياتِ المُرتبطةِ بالكتابِ المُبين، أنّ الكتابَ المُبيّنَ محتوٍ على علمِ كلِّ شيء، كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، علمُها موجودٌ في الكتابِ المُبين. { وَما مِن دابَّةٍ فِي الأَرضِ وَلا طائِرٍ يَطيرُ بِجَناحَيهِ إِلّا أُمَمٌ أَمثالُكُم ما فَرَّطنا فِي الكِتابِ مِن شَيءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِم يُحشَرونَ } [الأنعام: ٣٨] وبحسبِ نصِّ هذهِ الآيةِ أنّ اللهَ تعالى لم يُفرِّط بعلمِ شيءٍ، فكلُّ شيءٍ في الكونِ موجودٌ علمُه في هذا الكتاب.وقالَ تعالى: { وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبيانًا لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرى لِلمُسلِمينَ﴾ [النحل: ٨٩] فالقرآنُ الكريمُ تبيانٌ لكلِّ شيء. علمُ هذا الكتابِ موجودٌ عندَ رسولِ اللهِ وأهلِ بيتِه عليهم جميعاً سلامُ الله، قالَ تعالى: {انَّهُ لَقُرآنٌ كَريمٌ في كِتابٍ مَكنونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرونَ﴾ [الواقعة: ٧٧-٧٩] القرآنُ في شيءٍ اسمُه الكتاب، وهوَ أوسعُ وأشملُ منَ القرآن، وهذا الكتابُ مكنونٌ مصونٌ، لا يصلُ إليهِ ولا يمسُّه إلّا المطهّرون، والمطهّرونَ هُم النبيُّ وأهلُ بيتِه، قالَ تعالى: { إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهيرًا } [الأحزاب: ٣٣] إذن: النبيُّ الأعظمُ وأهلُ بيتِه الأطهار، هُم الذينَ أقدرَهم اللهُ على الوصولِ إلى الكتابِ المكنونِ المستورِ المخفي عن عامّةِ البشر، وهذا الكتابُ مِن خصائصِه – كما تقدّم – أنّ فيهِ علمَ كلِّ شيء. وقالَ تعالى: { وَيَقولُ الَّذينَ كَفَروا لَستَ مُرسَلًا قُل كَفى بِاللَّهِ شَهيدًا بَيني وَبَينَكُم وَمَن عِندَهُ عِلمُ الكِتابِ } [الرعد: ٤٣] وقد وردَ في الرواياتِ المُستفيضةِ أو المتواترةِ أنّ الذي عندَه علمُ الكتابِ أميرُ المؤمنينَ وتجري في الأئمّةِ مِن ولدِه، فهُم الذينَ أطلعَهم اللهُ على علمِ جميعِ ما في الكتابِ، فيكونُ النبيّ (ص) عالِماً بجميعِ الكتابِ بطريقِ أولى.
اترك تعليق