أينَ الحُرّيّةُ في الاسلام؟
يضمن الإسلام لنا حرية التفكير فيقول (أنزلنا إليك الكتاب لتبين للناس مانُزل إليهم ولعلهم يتفكرون) وينفي الاجبار بقوله (لااكراه في الدين) لكنه يعاقبك بالنار إذا فكرت بعقلك واخترت نتيجه أخرى غيره (فإما الذين شقو ففي النار لهم فيها زفير وشهيق) فاين الحريه كيف لنا أن نجيب على مثل هذه التساؤلات التي قد يطرحها البعض
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : يبتني هذا الإشكالُ على تفسيرٍ غيرِ واقعيّ للحرّيّة، ولكي تتمَّ الإجابةُ لابدَّ مِن بيانِ مفهومِ الحُرّيّةِ ولو بشكلٍ عام، فهناكَ تفسيرانِ للحُرّيّةِ، التفسيرُ الأوّلُ: هوَ التفسيرُ الذي يتصوّرُ الحُرّيّةَ على أنّها مُطلَقُ القُدرةِ على الاختيار، فالإنسانُ الحُرُّ هوَ الإنسانُ القادرُ على اختيارِ ما يحبُّ ويرغبُ مِن دونِ وجودِ أيّ سلطةٍ خارجيّةٍ أو داخليّةٍ تمنعُه مِن ذلك، أي أنَّ العاملَ الوحيدَ الذي يتحكّمُ في اختياراتِ الإنسانِ هوَ فقط الرغبةُ والميلُ الشخصيُّ، فمثلاً إذا أرادَ الرجلُ أن يتحوّلَ إلى أنثى أو أرادَت الأنثى أن تتحوّلَ إلى رجلٍ فلهُما الحقُّ في ذلكَ ولا يجوزُ منعُهما بأيّ سلطةٍ دينيّةٍ أو أخلاقيّةٍ أو اجتماعيّة؛ لأنَّ ذلكَ مِن حرّيّتِهما الشخصيّةِ والحُرّيّةُ تعني أن يختارَ الإنسانُ ما يحبُّ ويرغبُ فيه، وهذا ما تروّجُ لهُ الليبراليّةُ حيثُ جعلَت الحُرّيّةَ الشخصيّةَ حرّيّةً مُطلقةً طالما لا تصادرُ هذه الحُريّة حُريّةَ الاخرين، وبذلكَ لا يجوزُ للدّينِ أو العقلِ أو القيمِ الأخلاقيّةِ أو الأعرافِ الاجتماعيّةِ أن تتدخّلَ في تحديدِ ما يجبُ فعلهُ وما يجبُ تركهُ، أي أنّها حريّةٌ لا تعترفُ بأيّ معاييرَ للسلوكِ الإنسانيّ ما عدا الرّغبةِ الشخصيّةِ فقط. والذينَ أسّسوا لهذا المفهومِ نظروا للحريّةِ بوصفِها مفهوماً مُجرّداً، ولم ينظروا لها بوصفِها حقيقةً لها علاقةٌ بالإنسان، فالحُرّيّةُ كمفهومٍ مُجرّدٍ تعني أن تتساوى جميعُ الخياراتِ في ذاتِ المرتبة، وهيَ بالتالي لا تعترفُ بوجودِ مُرجّحاتٍ موضوعيّةٍ تفرضُ على الإنسانِ خياراً دونَ الخياراتِ الأخرى، وبمعنىً آخر فإنَّ الحُرّيّةَ في مفهومِها المُجرّدِ حُرّيّةٌ لا معياريّة؛ لأنَّ المفهومَ المُجرّدَ للحُرّيّةِ لا يستقيمُ معَ وجودِ معيارٍ يلزمُ بفعلٍ دونَ الفعلِ الآخر. وهذا خلافُ النظرِ للحُرّيّةِ ضمنَ الفلسفةِ الكُليّةِ للإنسان، فالحُريّةُ ضمنَ هذا التصوّرِ تعني ضرورةَ أن يكونَ هناكَ خيارٌ أولى منَ الخيارِ الآخر، وحينَها يتعيّنُ على الإنسانِ اختيارُ الخيارِ الراجحِ دونَ المرجوح، أي أنّه ليسَ حُرّاً في فعلِ ما يحبُّ ويشتهي، فإنسانيّةُ الإنسانِ تلزمُه بترجيحِ خياراتٍ على خياراتٍ أخرى، فمثلاً إذا نظَرنا للحُرّيّةِ في علاقةِ الأبِ بطفلِه، فتارةً نتصوّرُها على أنّها حُريّةٌ مُطلقة، وعندَها لا يحقُّ للأبِ ممارسةُ أيّ سُلطةٍ إلزاميّةٍ تمنعُ الطفلَ ممّا يرغبُ فيه، بل يكونُ حُرّاً في فعلِ ما يشاءُ وأكلِ ما يشتهي حتّى لو أدّى ذلكَ إلى ضرَرِه، وتارةً ننظرُ للحُريّةِ ضمنَ إطارِ رؤيةٍ كُليّةٍ للإنسان، وحينَها يجبُ أن تخدمَ الحُرّيّةُ الغاياتِ الكُبرى للإنسان، ومِن هُنا لا يجوزُ أن ينظُرَ الأبُ لطفلِه بوصفِه مُجرّدَ موجودٍ لهُ رغبةٌ، وإنّما يجبُ النظرُ إليهِ بوصفِه موجوداً له هدفٌ كُلّيٌّ يجبُ أن يُحقّقَه، وبالتالي هناكَ جوانبُ أخرى يجبُ رؤيتُها في الطفلِ غير رغبتِه الشخصيّة، وعندَها لا تكونُ الضوابطُ التي تكبحُ رغبةَ الطفلِ مُتعارضةً معَ حُرّيتِه، وإنّما يظلُّ الطفلُ حُرّاً في إطارِ وجودِه كإنسانٍ لهُ غاياتٌ، وفي هذهِ الحالةِ تُفهَمُ الحُرّيّةُ في إطارِ الشروطِ العقلانيّةِ التي تفرضُها فلسفةُ وجودِ الإنسانِ في الحياة، وبذلكَ نكونُ قد فرّقنا بينَ الحُريّةِ كمفهومٍ مُطلَقٍ ومُجرّدٍ وبينَ الحُريّةِ بوصفِها واقعيّةً إنسانيّة. فالحُريّةُ المُجرّدةُ التي تسبحُ في الفراغِ والتي لا تواجهُها موانعُ ولا حدودُ قد لا تكونُ موجودةً حتّى في عالمِ المُجرّدات، وما يقعُ فيه بعضُ المُندفعينَ نحوَ الحُرّيّةِ هوَ الانطلاقُ منَ المفهومِ المُجرّدِ ومِن ثمَّ اسقاطِه على الإنسانِ دونَ الاكتراثِ لوجودِ مساحةٍ فاصلةٍ بينَ الحُريّةِ المُجرّدةِ وبينَ الحُريّةِ كواقعيّةٍ إنسانيّة.التفسيرُ الثاني للحُريّة: هوَ التفسيرُ الذي يجعلُ الحُريّةَ ضمنَ إطارِ المسؤوليّة، أي أنَّ الإنسانَ الحُرَّ هوَ الإنسانُ المسؤولُ عن فعله، وبالتالي ليسَ مِن حقِّه أن يختارَ ما يحبُّ ويرغب، وإنّما يتعيّنُ عليه دوماً اختيارُ ما يُمثّلُ الحقَّ والصّوابَ، وتحديدُ ما هوَ حقٌّ وصوابٌ يكونُ عن طريقِ الدينِ أو العقلِ أو العلمِ أو القيمِ الأخلاقيّة، ولا يحقُّ للإنسانِ فعلُ ما يشاءُ بشكلٍ عبثيٍّ وتبعاً لهوى النفسِ وشهواتِها؛ لأنَّ ذلكَ فيهِ تشويهٌ لإنسانيّةِ الإنسانِ وتشويهٌ لحُريّتِه، فالإنسانُ لا يعيشُ في الفراغِ ليفعلَ ما يشاءُ، ولم يكُن هو خالقُ الأشياءِ لكي يفعلَ فيها ما يريد، وإنّما يعيشُ الإنسانُ ضمنَ واقعٍ فيه حقٌّ وباطلٌ، وخيرٌ وشرٌّ، وجميلٌ وقبيح، وظلمٌ وعدلٌ، وعلى الإنسانِ أن يُمارسَ حُرّيّتَه في اختيارِ الحقِّ على الباطل، والخيرِ على الشرِّ، والجميلِ على القبيح، والعدلِ على الظُّلم، وبهذا الشكلِ ينتقلُ الإنسانُ مِن كونِه كائناً أنانيّاً وشهوانيّاً يتحرّكُ مِن دونِ بصيرةٍ حياتيّة، إلى مخلوقٍ عاقلٍ ومُنضبِطٍ بمنظومةٍ منَ القيمِ الأخلاقيّةِ ومُتسامٍ عن رغباتِه الدونيّة.ومسؤوليّةُ الإنسانِ لا تقفُ عندَ حدودِ الجانبِ السلوكيّ والأخلاقيّ فقط، وإنّما تتسعُ لتشملَ مسؤوليّتَه تجاهَ أفكارِه ومعارفِه، فليسَ مِن حقِّ الإنسانِ أن يعتقدَ بما يشاءُ أو يؤمنَ بما يحبُّ ويهوى، وإنّما يتعيّنُ عليهِ الاعتقادُ بما هوَ حقٌّ وصواب، ومِن هُنا لا يحقُّ له بدعوى الحُريّةِ ترجيحُ الكُفرِ على الإيمان، وإنّما يتعيّنُ عليهِ اختيارُ الإيمانِ وإلّا سيكونُ مُستحقّاً للعذابِ والمُساءلة، فوجودُ اللهِ منَ الحقائقِ الفطريّةِ التي لا ينكرُها إلّا الجاحدُ للحقائقِ الواضحةِ، قالَ تعالى: (قالَت رُسُلُهُم أَ فِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالأَرضِ)، وتدلُّ هذهِ الآيةُ على أنَّ الشكَّ والارتيابَ في وجودِه سبحانَه ممّا لا يمكنُ ولا ينبغي لعاقلٍ ارتكابُه، لأنّهُ منَ الحقائقِ الفطريّةِ التي يلتفتُ إليها كلُّ إنسانٍ بمُجرّدِ تنبيهِه وتذكيرِه، والحُريّةُ في إطارِ المسؤوليّةِ تعني أن يختارَ الإنسانُ الإيمانَ باللهِ بوصفِه حقّاً وواقعاً، ومنَ الطبيعيّ أن يُحاسبَ الإنسانُ المسؤولُ على خياراتِه، فمَن كفرَ وجحدَ بالحقِّ لا بدَّ أن يُحاسبَ ويُعذّب، قالَ تعالى (لَا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ) فبما أنَّ الرشدَ بائنٌ ومتمايزٌ عن الغيّ حينَها يجبُ على الإنسانِ الالتزامُ بالرشدِ وتجنّبُ الغيّ، ومع ذلكَ فإنَّ الإنسانَ بإمكانِه أن يتنصّلَ مِن مسؤوليّتِه ويختارَ بهواهُ الغيَّ على الرّشدِ إلّا أنّهُ سوفَ يُحاسَبُ على هذا الاختيار، قالَ تعالى: (وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُم ۖ فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر ۚ إِنَّا أَعتَدنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِم سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَستَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهلِ يَشوِي الوُجُوهَ ۚ بِئسَ الشَّرَابُ وَسَاءَت مُرتَفَقًا)، وفوقَ كلِّ ذلكَ بعثَ اللهُ الأنبياءَ وأنزلَ الرّسالاتِ ليُذكّرَ الإنسانَ بضرورةِ الإيمانِ به، ويُبشّرَه بالنعيمِ الذي ينتظرُه إذا هوَ آمن، ويُحذّرَه منَ العذابِ إذا هو كفرَ وتمرّدَ، فاللهُ لا يُعذّبُ الإنسانَ إلّا بعدَ أن يُقيمَ عليهِ الحُجّةَ ويُبيّنَ له الطريقَ، قالَ تعالى: (مَّنِ اهتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبعَثَ رَسُولًا).
اترك تعليق