كيفَ نوجّهُ النصوصَ الدينيّةَ الدالّةَ على انتقالِ حسناتِ البعضِ لغيرِهم، وسيّئاتِ البعضِ الآخرِ لغيرِهم؟

: سيد حسن العلوي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : في المسألةِ وجهٌ لطيفٌ ذكرَه الغزاليُّ في بعضِ رسائلِه كما نقلَه عنهُ صاحبُ الميزان، ج2، ص95، مُلخّصُه: حصولُ نورٍ في قلبِ المُكلّفِ عندَ طاعتِه وحصولُ ظُلمةٍ في قلبِه عندَ المعصيةِ، وبينَ أثرِ الطاعةِ وهوَ (النورُ) وأثرِ المعصيةِ وهوَ (الظلمةُ) تضادٌ يمنعُ منَ اجتماعِهما في محلٍّ واحدٍ، كما قالَ تعالى: "إنَّ الحسناتِ يُذهبنَ السيّئات" وقالَ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلّم): "أتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحَقها"، فالظالمُ يحصلُ له ظُلمةٌ في قلبِه وقسوةٌ تُوجِبُ انمحاءَ أثرِ النورِ الذي كانَ في قلبِه منَ الطاعاتِ التي كانَ عملها والمظلومُ يتألّمُ وينكسرُ فينمحي مِن قلبِه أثرُ السيّئاتِ التي أورثَت ظُلمةً في قلبِه فيتنوّرُ قلبُه نوعَ تنوّر، فقد دارَ ما في قلبِ الظالمِ منَ النورِ إلى قلبِ المظلوم، و ما في قلبِ المظلومِ منَ الظلمةِ إلى قلبِ الظالمِ و هذا معنى نقلِ الحسناتِ و السيّئات. إلّا أنَّ السيّدَ العلّامةَ الطباطبائيّ (ره) لم يرتضِ هذا الوجهَ في تفسيرِ الآياتِ والرواياِت الناصّةِ على نقلِ الحسناتِ والسيّئات، فذهبَ الى أنَّ أثرَ الأعمالِ ـ الصالحةَ والسيّئة ـ في الآخرةِ وعالمِ الواقعِ يختلفُ عن أثرِها وحالِها في عالمِ الدّنيا، فالنزاعُ في مسألةِ حبطِ الأعمالِ المعروفةِ في علمِ الكلامِ ينشأ مِن لزومِ (الحبط)، الظلم وفقَ موازينِ العُقلاء، (راجع كشفَ المُراد في شرحِ تجريدِ الاعتقاد، ص560)، فإذا ثبتَ أنَّ ضوابطَ وموازينَ العدلِ الإلهيّ تختلفُ عمّا نفهمُه نحنُ البشر، انتفى الإشكالُ، فلا خِلافَ أنَّ نظامَ الثوابِ والعقابِ عندَه تعالى في غايةِ العدالةِ، لكنّنا قد يخفى علينا إدراكُ الوجهِ فيه، ومِن هذا إنّنا لا ندركُ وجهَ العدلِ في سببِ نقلِ حسناتِ البعضِ وإعطائِها الى غيرِه، ونقلِ سيّئاتِه أيضاً إلى غيرِه، كنقلِ سيّئاتِ المقتولِ للقاتلِ مثلاً، لكنّنا نعلمُ لِما قامَت عليهِ الأدلّةُ العقليّةُ والنقليّةُ بأنَّ حُكمَهُ تعالى عادلٌ، يقولُ (ره): " وهذهِ طريقةُ القرآنِ الكريم في تكليمِه للنّاس، فهوَ يُصرّحُ أنَّ الأمرَ أعظمُ ممّا يتوهّمُه الناسُ أو يُخيّلُ إليهم، غيرَ أنّه شيءٌ لا تسعُه حواصلُهم وحقائقُ لا تحيطُ بها أفهامُهم ولذلكَ نزلَ منزلةً قريبةً مِن أفقِ إدراكِهم لينالوا ما شاءَ الله أن ينالوهُ مِن تأويلِ هذا الكتابِ العزيزِ كما قالَ تعالى: "و الكتابِ المُبينِ إنّا جعلناهُ قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلونَ و إنّه في أمِّ الكتابِ لدينا لعليٌّ حكيم:" الزخرف - 4.". وقد بنى العلّامةُ (ره) قولَه على روايةِ إبراهيمَ الليثي عن الباقرِ (عليهِ السلام) في حديثٍ طويل: ثمَّ قال: أخبرني يا إبراهيم عن الشمسِ إذا طلعَت و بدا شعاعُها في البلدانِ أهوَ بائنٌ منَ القُرص؟ قلتُ: في حالِ طلوعِه بائنُ. قالَ أليسَ إذا غابَت الشمسُ اتّصلَ ذلكَ الشعاعُ بالقُرصِ حتّى يعودَ إليه؟ قلتُ: نعم. قالَ: كذلكَ يعودُ كلُّ شيءٍ إلى سِنخِه و جوهرِه و أصلِه فإذا كانَ يومُ القيامةِ نزعَ اللهُ عزَّ و جل سنخَ الناصبِ و طينتَه معَ أثقالِه و أوزارِه منَ المؤمنِ فيُلحِقها كلّها بالناصبِ، و ينزعُ سنخَ المؤمنِ و طينتَه معَ حسناتِه و أبوابِ برِّه و اجتهادِه منَ الناصبِ فيُلحِقها كلّها بالمؤمن. أفترى هاهُنا ظُلماً وعدواناً؟ قلتُ: لا يا ابنَ رسولِ الله. قالَ: هذا واللهِ القضاءُ الفاصلُ و الحُكمُ القاطع، و العدلُ البيّن، لا يسألُ عمّا يفعَل و هُم يُسألون هذا يا إبراهيمُ الحقُّ مِن ربِّك فلا تكُن منَ المُمترين، هذا مِن حُكمِ الملكوت. قلتُ: يا ابنَ رسولِ الله و ما حُكمُ المَلكوت؟ قالَ: حُكمُ اللهِ و حُكم أنبيائِه و قصّةُ الخِضر و موسى حينَ استصحبَه فقالَ: إنّكَ لن تستطيعَ معيَ صبراً - و كيفَ تصبرُ على ما لم تُحِط به خبراً افهَم يا إبراهيمُ و اعقِل، أنكرَ موسى على الخضرِ و استفظعَ أفعالَهُ حتّى قالَ له الخِضر: يا موسى ما فعلتُه عن أمري، و إنّما فعلتُه عن أمرِ اللهِ عزَّ و جل الحديث. فالروايةُ صريحةٌ أنَّ حُكمَ نقلِ حسناتِ الناصبِ إلى المؤمنِ وسيّئاتِ المؤمنِ للنّاصبِ مِن حُكم الملكوت، كحُكمِ الخضرِ معَ موسى عليهما السلام، والذي لم يستطِع موسى عليهِ السلام إدراكَه وفقَ الأحكامِ الظاهريّة، فكذلكَ حُكمُ نقلِ الأعمالِ هوَ مِن هذا القبيل.ورغمَ ذلكَ لا يمتنعُ تفسيرُ هذا النقلِ وفقَ معاييرِ العدالةِ التي نُدرِكها، فبالإمكانِ فهمُها وتفسيرُها وفقَ موازينِنا، يقولُ (ره): "ومِن لطيفِ الأمر: أنَّ هذه الحقائقَ المستورةَ عن سطحِ الأفهامِ العاديّةِ قابلةُ التطبيقِ على الأحكامِ العُقلائيّةِ المذكورة، مُمكنةُ التوجيهِ بها، فإنَّ العقلَ العمليَّ الاجتماعيّ لا يأبى مثلاً: التشديدَ على بعضِ المُفسدينَ بمؤاخذتِه بجميعِ ما يترتّبُ على عملِه منَ المضارِّ والمفاسدِ الاجتماعيّةِ كأن يؤاخذَ القاتلُ بجميعِ الحقوقِ الاجتماعيّةِ الفائتةِ بسببِ موتِ المقتول، أو يؤاخذَ مَن سننَ سُنّةً سيّئةً بجميعِ المُخالفاتِ الجاريةِ وفقَ سُنّتِه، ففي المثالِ الأوّلِ يقضي بأنَّ المعاصي التي كانَت تُرى ظاهراً أفعالاً للمقتولِ فاعلُها هوَ القاتلُ بحسبِ الاعتبارِ العُقلائي، وفي المثالِ الثاني بأنَّ السيّئاتِ التي عملَها التابعونَ لتلكَ السنّةِ السيّئةِ أفعالٌ فعلَها أوّلُ مَن سنَّ تلكَ السنّةَ المتبوعة، في عينِ أنّها أفعالٌ للتابعينَ فيها، فهيَ أفعالٌ لهم معاً، فلذلكَ يؤاخذُ بها كما يؤاخذون.". المصدرُ نفسُه.