تفسيرُ الآيةِ الكريمةِ مِن سورةِ النساءِ { يا أيُّها الناسُ اتّقوا ربّكم الذي خلقَكم مِن نفسٍ واحدةٍ وخلقَ مِنها زوجَها وبثَّ مِنها رجالاً كثيراً ونساءً ...} عندَ عُلماءِ الشيعةِ والسنّة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: يبدو أنَّ الذي دفعَ السائلَ للبحثِ عن تفسيرِ هذهِ الآيةِ هوَ موضوعُ خلقِ حوّاءَ مِن ضلعِ آدم (عليهِ السلام)، وذلكَ لوجودِ الكثيرِ منَ الرواياتِ التي تشيرُ إلى ذلكَ في مصادرِ الشيعةِ والسنّةِ، إلّا أنَّ هناكَ رواياتٍ أخرى عندَ الشيعةِ تنفي خلقَ حوّاء مِن ضلعِ آدم، ففي تفسيرِ الصّافي بعدَ ذِكرِه لرأي القُمّي والعيّاشي ذكرَ ما رويَ في (الفقيهِ، والعِلل) عنهُ (عليهِ السلام): أنّه سُئلَ عن خلقِ حوّاء وقيلَ له إنَّ أناساً عندَنا يقولونَ أنَّ اللهَ عزّ وجلّ خلقَ حوّاء مِن ضلعِ آدمَ اليُسرى الأقصى، قالَ: (سُبحانَ الله تعالى عَن ذلكَ علوّاً كبيراً، يقولُ مَن يقولُ هذا أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى لم يكُن له القدرةُ ما يخلقُ لآدمَ زوجةً مِن غيرِ ضلعِه ويجعلُ للمُتكلّمِ مِن أهلِ التشنيعِ سبيلاً إلى الكلامِ أن يقولَ: أنَّ آدمَ كانَ ينكحُ بعضُه بعضاً إذا كانَت مِن ضلعِه ما لهؤلاءِ حكمَ اللهُ بينَنا وبينَهم ...). وروى العيّاشي عن الإمامِ الباقرِ (عليهِ السلام): أنّه سُئلَ عن أيّ شيءٍ خلقَ اللهُ حوّاء فقالَ: أيُّ شيءٍ يقولونَ هذا الخلق؟ قلتُ: يقولونَ أنَّ اللهَ خلقَها مِن ضلعٍ مِن أضلاعِ آدم، فقالَ: كذبوا كانَ يعجزُ أن يخلقَها مِن غيرِ ضلعِه، ثمَّ قالَ: أخبرَني أبي عن آبائِه (عليهم السلام) قالَ: قالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم): إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى قبضَ قبضةً مِن طينٍ فخلطَها بيمينِه وكِلتا يديهِ يمين فخلقَ مِنها آدم وفضلَ فضلةٌ منَ الطينِ فخلقَ مِنها حواء) وفي (العللِ) عنهُ (عليهِ السلام): (خلقَ اللهُ عزَّ وجلّ آدمَ مِن طين ومِن فضلتِه وبقيّتِه خُلقَت حوّاء وفي روايةٍ خُلقَت مِن باطنِه ومِن شمالِه ومنَ الطينةِ التي فضلَت مِن ضلعِه الأيسر). وعليهِ فإنَّ علماءَ ومُفسّري الشيعةِ لا يعتمدونَ على رواياتِ الضلعِ في تفسيرِ هذهِ الآية، وسوفَ نورِدُ هُنا نموذجينِ وهُما تفسيرُ الميزانِ وتفسيرُ الأمثل. يقولُ العلّامةُ الطباطبائيّ في تفسيرِ هذهِ الآية: (وأمّا قولهُ تعالى الذي خلقَكم مِن نفسٍ واحدةٍ الخ، فالنفسُ على ما يُستفادُ منَ اللغةِ عينُ الشيء، يقالُ جاءَني فلانٌ نفسُه وعينُه... وظاهرُ السياقِ أنَّ المُرادَ بالنفسِ الواحدةِ آدمُ عليه السلام، ومِن زوجِها زوجتُه وهُما أبوا هذا النسلِ الموجودِ الذي نحنُ منه وإليهما ننتهي جميعاً على ما هوَ ظاهرُ القرآنِ الكريمِ كما في قولِه تعالى خلقَكم مِن نفسٍ واحدةٍ ثمَّ جعلَ مِنها زوجَها: الزمر - 6 وقولهُ تعالى يا بني آدم لا يفتننّكُم الشيطانُ كما أخرجَ أبويكم منَ الجنّة: الأعرافُ - 27 وقولهُ تعالى حكايةً عن إبليسَ لئِن أخّرتني إلى يومِ القيامةِ لاحتنكنَّ ذُرّيّتَه إلّا قليلاً: أسرى - 62. وأمّا ما احتملَهُ بعضُ المُفسّرينَ أنَّ المرادَ بالنفسِ الواحدةِ وزوجِها في الآيةِ مُطلَقُ الذكورِ والإناثِ منَ الإنسانِ الزوجينِ اللذينِ عليهما مدارُ النسلِ فيؤولُ المعنى إلى نحوِ قولِنا خلقَ كلَّ واحدٍ منكُم مِن أبٍ وأمٍّ بشريّينِ مِن غيرِ فرقٍ في ذلكَ بينَكم فيناظرُ قولَه تعالى يا أيُّها الناسُ إنّا خلقناكم مِن ذكرٍ وأنثى وجعلناكُم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمَكم عندَ اللهِ أتقاكم: الحُجرات - 13 حيثُ إنَّ ظاهرَه نفيُ الفرقِ بينَ الأفرادِ مِن جهةِ تولّدِ كلِّ واحدٍ منهم مِن زوجينِ مِن نوعِه ذكرٍ وأنثى. ففيهِ فسادٌ ظاهرٌ وقد فاتَه أنَّ بينَ الآيتينِ أعني آيةَ النساءِ وآيةَ الحُجراتِ فرقاً بيّناً فإنَّ آيةَ الحُجراتِ في مقامِ بيانِ اتّحادِ أفرادِ الإنسانِ مِن حيثُ الحقيقةُ الإنسانيّة ونفى الفرقَ بينَهم مِن جهةِ انتهاءِ تكوّنِ كلِّ واحدٍ مِنهم إلى أبٍ وأمٍّ إنسانيّينِ فلا ينبغي أن يتكبّرَ أحدُهم على الآخرينَ ولا يتكرّمَ إلّا بالتقوى، وأمّا آيةُ النساءِ فهيَ في مقامِ بيانِ اتّحادِ أفرادِ الإنسانِ مِن حيثُ الحقيقة وأنّهم على كثرتِهم رِجالاً ونساءً إنّما اشتقّوا مِن أصلٍ واحدٍ وتشعّبوا مِن منشأ واحدٍ فصاروا كثيراً على ما هوَ ظاهرُ قولِه وبثَّ مِنهما رجالاً كثيراً ونساءً، وهذا المعنى كما ترى لا يناسبُ كونَ المُرادِ منَ النفسِ الواحدةِ وزوجِها مُطلقَ الذكرِ والأنثى الناسلينَ منَ الإنسانِ على أنّه لا يناسبُ غرضَ السّورةِ أيضاً كما تقدّمَ بيانُه.وظاهرُ الجُملةِ أعني قولهُ وخلقَ مِنها زوجَها أنّها بيانٌ لكونِ زوجِها مِن نوعِها بالتماثلِ وأنَّ هؤلاءِ الأفرادَ المبثوثينَ مرجعُهم جميعاً إلى فردينِ مُتماثلين مُتشابهين.. والآيةُ في مساقِ قولِه تعالى ومِن آياتِه أن خلقَ لكُم مِن أنفسِكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعلَ بينَكم مودّةً ورحمة: الرّوم - 21 وقوله تعالى واللهُ جعلَ لكم مِن أنفسِكم أزواجاً وجعلَ لكُم مِن أزواجِكم بنينَ وحفدةً: النحل - 72 وقولهُ تعالى فاطرُ السماواتِ والأرضِ جعلَ لكُم مِن أنفسِكم أزواجاً ومنَ الأنعامِ أزواجاً يذرؤكم فيه: الشورى - 11 ونظيرُها قولهُ ومِن كلِّ شيءٍ خلقنا زوجين: الذارياتُ - 49 فما في بعضِ التفاسيرِ أنَّ المُرادَ بالآيةِ كونُ زوجِ هذهِ النفسِ مُشتقّةً مِنها وخلقَها مِن بعضِها وِفقاً لِما في بعضِ الأخبارِ أنَّ اللهَ خلقَ زوجةَ آدم مِن ضلعٍ مِن أضلاعِه ممّا لا دليلَ عليهِ منَ الآيةِ) وجاءَ في تفسيرِ الأمثلِ للمرجعِ مكارِم الشيرازي: (هل المرادُ مِن "نفسٍ واحدة" هوَ شخصٌ مُعيّن، أو أنّه واحدٌ نوعيّ (أي جنسُ المُذكّر)؟لا شكَّ أنَّ ظاهرَ هذا التعبيرِ هوَ الشخصُ المُعيّنُ، والواحدُ الشخصي، وهوَ إشارةٌ إلى أوّلِ إنسانٍ قد سمّاهُ القرآنُ الكريم ب "آدم" ويعتبرُه أبا البشر. كما وقد عبّرَ عن البشرِ ببني آدم في آياتٍ كثيرةٍ منَ القرآنِ الكريم. فاحتمالُ أن يكونَ المرادُ مِن نفسٍ واحدةٍ هوَ الواحدُ النوعي بعيدٌ عن ظاهرِ الآيةِ جدّاً. ثمَّ إنَّ قولَه تعالى: وخلقَ مِنها زوجَها قد فهمَ منها بعضُ المُفسّرينَ أنَّ "حوّاء" قد خُلقَت مِن جسمِ آدم واستشهدوا لذلكَ برواياتٍ وأحاديثَ غيرِ مُعتبرٍة تقول: إنَّ حوّاءَ خُلقَت مِن أضلاعِ آدم (وهوَ أمرٌ قد صُرّحَ بهِ في سفرِ التكوينِ منَ التوراةِ أيضاً). لكن معَ مُلاحظةِ سائرِ الآياتِ القرآنيّةِ يرتفعُ كُلُّ إبهامٍ حولَ تفسيرِ هذهِ الآية، ويتّضحُ أنَّ المُرادَ مِنها هوَ أنَّ اللهَ سبحانَه خلقَ زوجةَ آدمَ مِن جِنسه (أي جنسِ البشر) ففي الآيةِ (21) مِن سورةِ الرومِ نقرأ: ومِن آياتِه أن خلقَ لكم مِن أنفسِكم أزواجاً لتسكنوا إليها كما نقرأ: في الآيةِ (72) مِن سورةِ النحلِ: واللهُ جعلَ لكُم مِن أنفسِكم أزواجاً. ومنَ الواضحِ أنَّ معنى قولِه تعالى: خلقَ لكُم مِن أنفسِكم أزواجاً هوَ أنّه خلقَهم مِن جنسِكم لا أنّه خلقهنَّ مِن أعضاءِ جسمِكم. ووِفقاً لروايةٍ منقولةٍ عن الإمامِ محمّدٍ الباقرِ (عليهِ السلام) كما في تفسيرِ العيّاشي - أنّهُ كذّبَ بشدّةٍ فكرةَ خلقِ حوّاء مِن ضلعِ آدم، وصرّحَ (عليهِ السلام) - بأنّهُ خُلقَت مِن فضلِ الطينةِ التي خُلقَ مِنها آدم)
اترك تعليق