لو وقفَ العشراتُ منَ الشيعةِ جنبَ قبرِ المعصوم، ونادوا بصوتٍ واحد: « يا عليُّ، فأنّى للمعصومِ أن يسمعَهم جميعاً، ويفرّقَ بينَهم، ويميّزَ لغاتِهم؟!
كثيراً ما يحتجُّ أهلُ السنّةِ على الشيعة: لو وقفَ العشراتُ منَ الشيعةِ جنبَ قبرِ المعصوم، ونادوا بصوتٍ واحد: « يا عليُّ.. يا فاطمةُ (عليهما السلام) »، فأنّى للمعصومِ أن يسمعَهم جميعاً، ويفرّقَ بينَهم، ويميّزَ لغاتِهم؟!
السلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه،يتّضحُ جوابُ هذا التساؤلِ بذكرِ عدّةِ نقاط: النقطةُ الأولى: قدرةُ اللهِ تعالى غيرُ محدودةٍ: لا يخفى أنَّ اللهَ تعالى قادرٌ على كلِّ شيء، فلا حدَّ لقُدرتِه أبداً، له أن يمنحَ بعضَ عبادِه ويكرمَهم بأن يجعلَهم ذوي إمكانيّاتٍ بدنيّةٍ وروحيّةٍ فريدةٍ مُتميّزةٍ عن سائرِ الخلق، بأن يحبوهم بقُدرةٍ هائلةٍ في الإدراكِ البصريّ والسمعيّ وتحليلها، ويلهمَهم اللغاتِ المُختلفة، سواءٌ لغاتِ البشرِ أو الحيوانات، ولا مانعَ مِن ذلكَ عقلاً ولا شرعاً، بل هو ثابتٌ كما سيأتي. إذن: لا مانعَ ـ عقلاً وشرعاً ـ أن يمنحَ اللهُ تعالى بعضَ عبادِه قُدرةً مُميّزةً في الإدراكِ السمعيّ وتحليلِها والمعرفةِ باللغاتِ المتنوّعة؛ إذ قدرةُ اللهِ تعالى مُطلقةٌ لا حدَّ لها. النقطةُ الثانية: إمكانيّاتُ أبدانِ وأرواحِ المعصومين: يقولُ اللهُ تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَموَاتٌ بَل أَحيَاءٌ وَلَكِن لَا تَشعُرُونَ} [سورة البقرة: 154]، ويقولُ تعالى: {وَلَا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَموَاتًا بَل أَحيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ} [سورةُ آلِ عمران: 169]، فإذا كانَ الشهداءُ أحياءً عندَ ربّهم يُرزقون، فالأنبياءُ والأئمّةُ مِن بابِ أولى، وستأتي الشواهدُ على ذلك. ثمَّ إنَّ اللهَ تعالى خلقَ خاتمَ الأنبياءِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وآله الطاهرينَ (عليهم السلام) بخصوصيّاتٍ جسمانيّةٍ فريدة، كأن لا يكونَ لأبدانِهم ظلٌّ، ولا يكونَ لمدفوعاتِهم قذارةٌ، وأنّهم تنامُ عيونُهم ولا تنامُ قلوبُهم، وأنّهم يرونَ مِن خلفِهم كما يرونَ مِن أمامِهم، وإلى غيرِ ذلكَ منَ الخصوصيّاتِ البدنيّةِ التي وردَت في الأحاديثِ لدى الفريقين. فالإنسانُ العاديّ يتوجّهُ في آنٍ واحدٍ لشخصٍ واحد، باعتبارِ تقيّدِه بهذا البدنِ، وانحباسِ روحِه بهذا الجسمِ الكثيف، الذي يقيّدُ إمكانيّاتِه، وإلّا فإنّ الإنسانَ يلتقطُ في الآنِ الواحدِ الكثيرَ منَ المعلوماتِ ويخزّنُها، إلّا أنّه حسبَ إمكانيّاتِه المتواضعةِ لا يمكنُه أن يستفيدَ مِنها ولا يلتفتُ إلّا لمقدارٍ يسيرٍ منها. ولكنَّ مثلَ هذا الكلامِ لا يجري بالنسبةِ إلى النبيّ الأكرمِ وآله (صلواتُ اللهِ عليهم)، فإنّ قدراتِ أبدانِهم ليسَت كقدراتِ أبدانِنا قطعاً وجزماً، وفي ذلكَ رواياتٌ وفيرةٌ، نذكرُ مِنها روايةً واحدة، وهيَ ما رواها الشيخُ الكُلينيّ في [الكافي ج1 ص389] بالإسنادِ عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام) قال: « إنّ اللهَ خلقنا مِن عليّينَ، وخلقَ أرواحَنا مِن فوقِ ذلك، وخلقَ أرواحَ شيعتِنا مِن عليّينَ، وخلقَ أجسادَهم مِن دونِ ذلك ». ويمكنُ أن يُستفادَ منَ الحديثِ أنّ أبدانَ أهلِ البيت (عليهم السلام) مخلوقةٌ مِن حيثُ خُلقَت أرواحُ المؤمنين، أي أنّ أبدانَهم (عليهم السلام) تمتازُ بخصوصيّاتِ الروحِ لدى سائرِ المؤمنين. ومنَ المعلومِ أنّ إمكانيّاتِ الروحِ أشرفُ وأجلُّ وأخطرُ مِن إمكانيّاتِ البدن، وما يشاهدُه الإنسانُ في عالمِ الرؤيا شاهدٌ صغيرٌ على القدرةِ الهائلةِ للرّوح، فقد يرى المرءُ نفسَه في المنامِ يتكلّمُ بلغاتٍ أخرى، أو يرى مِن خلفه، أو يدركُ كلاماً في مدينةٍ أخرى، أو ينتقلُ مِن مدينةٍ لأخرى بلحظةٍ واحدة، أو غير ذلك، ويمكنُ للرّوحِ أن تدركَ مئاتِ الأصواتِ بآنٍ واحد، وتميّزَ بينَها وإن كانَت بلغاتٍ مُختلفة، لا مانعَ من ذلك. ومثلُ هذا الكلامِ يجري بالنسبةِ إلى أبدانِ المعصومينَ (عليهم السلام)، فإنّ خصوصيّاتِ أبدانِهم كخصوصيّاتِ أرواحِ المؤمنين، ويبدو أنّ جُملةً منَ الأحكامِ التي وردَت في رواياتِ الفريقين ـ مِن أنّهم تنامُ عيونُهم دونَ قلوبهم، وأنّهم يرونَ مِن خلفِهم كما يرونَ مِن أمامِهم، إلى غيرِ ذلك ـ بسببِ ذلك. ثمّ لو كانَت أبدانُ المعصومينَ (عليهم السلام) تمتازُ بخصوصيّاتِ الروح، فكيفَ بأرواحِهم المخلوقةِ مِن فوقِ ذلك؟! فما لها منَ الطاقاتِ والإمكانيّاتِ لا يمكنُ تصوّرُها ولا تخيّلها، فيكونُ إدراكُ أصواتِ الملايين شيئاً يسيراً أمامَ إمكانيّاتِهم وقدراتِهم (عليهم السلام) التي حباهم اللهُ تعالى بها. النقطةُ الثالثة: معرفةُ المعصومينَ باللغات:وردَت عندَنا رواياتٌ وفيرةٌ أنّ اللهَ تعالى أكرمَ النبيَّ والأئمّةَ (عليهم السلام) بأن علّمَهم كلَّ اللغاتِ والألسن، [ينظر: بصائرُ الدرجاتِ ص353 وما بعدَها]، نذكرُ مِنها روايتين، الأولى: ما رواها الشيخُ الصفّارُ في [بصائرِ الدرجات ص246] بالإسنادِ عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام) أنّه سُئلَ عن قولِ اللهِ تباركَ وتعالى: {وأوحيَ إليَّ هذا القرآنُ لأنذركَم به ومَن بلغ}، قالَ: « بكلِّ لسانٍ »، والأخرى: ما رواها الشيخُ الحميريّ في [قُربِ الإسناد ص339] بالإسنادِ عن أبي بصيرٍ، عن أبي الحسنِ الماضي (عليهِ السلام)، قال: « دخلتُ عليه، فقلتُ له: جُعلتُ فداك، بمَ يُعرَفُ الإمام؟ فقالَ: بخصالٍ، أمّا أولاهنَّ فشيءٌ تقدّمَ مِن أبيهِ فيه وعرفَه الناسُ ونصبَه لهم عَلَماً، حتّى يكونَ حُجّةً عليهم... ويكلّمُ الناسَ بكلِّ لسانٍ..»، ثمَّ قال: « يا أبا محمّدٍ، إنّ الإمامَ لا يخفى عليهِ كلامُ أحدٍ منَ الناس، ولا طيرٍ، ولا بهيمةٍ، ولا شيءٍ فيهِ روح، بهذا يُعرَفُ الإمام.. ». النقطةُ الرابعة: إدراكُ المعصومينَ لأعمالِ العباد: يقولُ اللهُ تعالى: {وَقُلِ اعمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنُونَ} [سورة التوبة: 105]، وقد جاءَت نصوصٌ وفيرةٌ عندَنا أنّ المرادَ بالمؤمنينَ هُم الأئمّةُ (عليهم السلام)، والآيةُ ظاهرةٌ في أنّ اللهَ تعالى ورسولَه والمؤمنونَ يرونَ أعمالَ العباد، ومثلُ هذا مُستمرٌّ لا ينقطعُ بموتِ النبيّ والمؤمنين، فالنبيُّ والمؤمنونَ يرونَ أعمالَ العبادِ وهُم في البرزخ. ومثلُ هذه الرؤيةِ تفيدُ العلمَ والمعرفة، وليسَت صوريّةً فحسب، بل يشاهدونَ حقائقَ أعمالِ العبادِ في الدنيا، وهذا الاطّلاعُ اطّلاعٌ ملكوتيّ، يستلزمُ إدراكَ جميعِ أعمالِ العباد، والتمييزِ بينهم، والاطّلاعَ على حقائقِ أفعالهم. النقطةُ الخامسة: شواهدُ روائيّةٌ مِن كتبِ الفريقين: توجدُ أدلّةٌ وشواهدُ كثيرةٌ في كتبِ الفريقين ـ شيعةً وسنّة ـ على أنّ المعصومَ (عليهِ السلام) يسمعُ الخطابَ، نذكرُ بعضاً منها: فمِن كتبِ الشيعة: ما جاءَ عندَ زيارةِ خاتمِ الأنبياء (صلّى اللهُ عليهِ وآله): « اللهمّ وإنّي أعتقدُ حُرمةَ نبيّكَ في غيبتِه كما أعتقدُ في حضرتِه، وأعلمُ أنّ رسلَك وخلفاءَك أحياءٌ عندَك يُرزقون، يرونَ مكاني في وقتي هذا وزماني، ويسمعونَ كلامي، ويردّونَ عليَّ سلامي، وأنّك حجبتَ عن سمعي كلامَهم، وفتحتَ بابَ فهمي بلذيذِ مُناجاتِهم » [المزارُ الكبيرُ للمشهدي ص55]. وما رُويَ عن الإمامِ الصّادقِ (عليهِ السلام) أنّه قالَ لأبي بكرٍ الحضرميّ: « تأتي قبرَ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله)؟ فقلتُ: نعم، فقالَ: أما إنّه يسمعُك مِن قريب، ويبلغُه عنكَ إذا كنتَ نائياً » [كاملُ الزيارات ص43]. وما رُويَ عن الصّادقِ (عليهِ السلام) أيضاً أنّه قالَ لعامرٍ بنِ عبدِ الله: « تأتي قبرَ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وتسلّمُ عليه، أما إنّه يسمعُك مِن قريبٍ ويبلغُه عنكَ مِن بعيد » [كاملُ الزيارات ص43]. وما وردَ في زيارةِ الإمامِ الحُسين (عليهِ السلام) في النصفِ مِن شهرِ رجب: « أشهدُ أنّكَ تسمعُ الكلامَ وتردُّ الجواب، وأنّك حبيبُ اللهِ وخليله ونجيبُه وصفيُّه وابنُ صفيّه » [المزارُ للشهيدِ ص163]. وما رُويَ عن الإمامِ الصادقِ (عليهِ السلام): « مَن كانَ له حاجةٌ إلى اللهِ (عزّ وجلّ) فليقِف عندَ رأسِ الحُسين (عليهِ السلام)، وليقُل: (يا أبا عبدِ الله، أشهدُ أنّكَ تشهدُ مقامي وتسمعُ كلامي، وأنّكَ حيٌّ عندَ ربِّك تُرزق، فاسأل ربَّك وربّي في قضاءِ حوائجي)، فإنّها تُقضى إن شاءَ اللهُ تعالى » [عدّةُ الداعي ص56]. إلى غيرِ ذلك. وهذه النصوصُ واضحةُ المعنى، ظاهرةُ الدلالةِ، في أنّ المعصومَ (عليهِ السلام) يشهدُ مقامَ الزائر، ويسمعُ كلامَه، ويردُّ سلامَه، ومُقتضاها أن يُفرِّقَ بينَ الزوّارِ وكلامِهم، ويميّزَ بينَ لغاتِهم ولهجاتِهم، وإلّا لما أمكنَ ترتيبُ ردِّ السلام، فإنّ ردَّ السلامَ مُترتّبٌ على فهمِ التسليمِ والتحيّة. ومِن كتبِ السنّة: ما رُويَ عن أبي هُريرة قالَ: قالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ [وآله] وسلّم): « لا تتّخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتَكم قبوراً، وحيثما كنتُم فصلّوا عليّ، فإنّ صلاتَكم تبلغني » [مسندُ أحمد ص367، سننُ أبي داود ج1 ص453]. قالَ الحافظُ ابنُ حجر في [فتحِ الباري ج6 ص352]: « سندُه صحيح ». وما رُويَ عن أبي هُريرةَ عن رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ [وآله] وسلم)، قالَ: « ما مِن أحدٍ يُسلّمُ عليّ إلّا ردَّ اللهُ (عزّ وجلّ) إليَّ روحي حتّى أردّ عليهِ السلام » [مسندُ أحمد ص527، سننُ أبي داود ج1 ص453، السننُ الكُبرى للبيهقيّ ج5 ص245]. قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ العسقلانيّ في [فتحِ الباري ج6 ص352]: « رواتُه ثقاتٌ »، وقد أوردَ إشكالاً على نفسِه، وأجابَ عنه بقوله: « إنّ أمورَ الآخرةِ لا تُدركُ بالعقل، وأحوالَ البرزخِ أشبهُ بأحوالِ الآخرة ». وما رويَ عن ابنِ مسعود، عن النبيّ (صلّى اللهُ عليه [وآله] وسلم): « إنَّ للهِ ملائكةً سيّاحينَ في الأرضِ يبلغوني عن أمّتي السلام » [شعبُ الإيمانِ ج2 ص218]، وقالَ العظيمُ آباديّ في [عونِ المعبود ج6 ص21]: « إسنادُه صحيح ». وما رُويَ عن أبي هُريرة، عن النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ [وآله] وسلم) قالَ: « مَن صلّى عليَّ عندَ قبري سمعتُه، ومَن صلّى عليَّ نائياً بلغته » [رواه أبو الشيخِ في الثوابِ كما في فتحِ الباري ج6 ص352، شعبُ الإيمان ج2 ص218]. قالَ الحافظُ العسقلانيّ في [فتحِ الباري ج6 ص352]: « بسندٍ جيّد »، وقالَ مثلَه الحافظُ السخّاوي في [القولِ البديع ص154]، وقالَ العظيمُ آباديّ في [عونِ المعبود ج6 ص21]: « ومعنى قولِه: (نائياً) أي بعيداً عنّي، وبلّغته بصيغةِ المجهولِ مشدّداً، أي بلّغَته الملائكةُ سلامَه وصلاتَه عليّ ».وما رُويَ عن ابنِ عبّاس قالَ: « ليسَ أحدٌ مِن أمّةِ مُحمّدٍ (صلّى اللهُ عليهِ [وآله] وسلّم) صلّى عليهِ صلاةً إلّا وهيَ تبلغُه، يقولُ الملك: فلانٌ يصلّي عليكَ كذا وكذا صلاة » [شعبُ الإيمان ج2 ص218].وما رُويَ عن أوسٍ بنِ أبي أوس، قالَ: قالَ رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ [وآله] وسلّم): « مِن أفضلِ أيّامِكم يومُ الجُمعة، فيهِ خُلقَ آدم، وفيهِ قُبِض، وفيهِ النفخةُ، وفيهِ الصّعقةُ، فأكثروا عليَّ منَ الصّلاةِ فيه، فإنّ صلاتَكم معروضةٌ عليّ، قالوا: يا رسولَ الله، وكيفَ تُعرَضُ صلاتُنا عليكَ وقد أرمت؟ قالَ: إنّ اللهَ حرّمَ على الأرضِ أن تأكلَ أجسادَ الأنبياء » [مُسنَدُ أحمد ج4 ص8، سننُ الدارمي ج1 ص369، سننُ ابنِ ماجه ج1 ص345، سننُ أبي داود ج1 ص236، سننُ النسائي ج3 ص91، المُستدرَك ج1 ص278، وقالَ: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرطِ البُخاري ومُسلم يخرجه، ج4 ص561، وقالَ: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يُخرجاه]. إلى غيرِ ذلكَ منَ الأحاديثِ والآثارِ المرويّةِ في الكتبِ المُعتمدةِ لدى المُخالفينَ بأسانيدَ قويّةٍ، وقد أقرَّ بصحّتِها جملةٌ مِن كبارِ العلماءِ والمُحقّقينَ، ولا يسعُ المجالُ للاستقراءِ أكثر لئلّا يطولَ بنا الكلام. والوجهُ في دلالتِها هوَ الوجهُ في دلالةِ الأحاديثِ السّابقة، فإنَّ سلامَ وصلاةَ الناسِ تصلُ إلى النبيّ الأكرمِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وقد نصَّت بعضُ الأحاديثِ أنّ النبيَّ يسمعُ مَن يُسلّمُ عليه عندَ قبرِه، وأنّ الملائكةَ تُبلّغُه سلامَ مَن يُسلّمُ عليهِ مِن بعيد، وهذهِ الأحاديثُ مُطلقةٌ، فلو اجتمعَ الآلافُ عندَ قبرِ النبيّ وسلّموا عليه، فإنّه يسمعُهم ويميّزُ بينَ لغاتِهم وألسنتهم، ويردُّ عليهم سلامهم. وقد نقلنا مِن قبلُ كلامَ الحافظِ ابنِ حجر العسقلانيّ، ولنعيدَه في ختامِ كلامِنا لدفعِ الاستيحاش، فإنّه ـ بعدَما أوردَ إشكالاً ـ أجابَ بقوله: « إنّ أمورَ الآخرةِ لا تُدركُ بالعقل، وأحوالَ البرزخِ أشبهُ بأحوالِ الآخرة »، وقد ذكرنا ضمنَ جوابِنا أنَّ حُجّةَ اللهِ عالمونَ باللغاتِ المُختلفة، وأنّهم أحياءٌ عندَ ربّهم يُرزقون، فالمسألةُ مقبولةٌ عقلاً، كما أنّها ثابتةٌ شرعاً، وليسَ بها شائبةٌ، غايةُ الأمرِ أنّ عقولَنا قاصرةٌ عن الإدراكِ الواضحِ بسببِ ضيقِ أفقِ عالمِ الدنيا، وكم لهذا مِن نظيرٍ وشبيهٍ من أحوالِ البرزخِ والآخرةِ وأحوالِ السماواتِ وعجائبِ الخلقةِ التي جاءَ فيها آياتٌ بيّناتٌ وأحاديثُ مُعتبرة. والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق