هل يملك الدين وصفة لعلاج "الاكتئاب"؟

الجواب :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :

لابدَّ منَ التفريقِ بينَ علاجِ الاكتئابِ كمرضٍ نفسي، وبينَ مُعالجةِ الأسبابِ التي تؤدّي لهذا المرض، فالمريضُ بالاكتئابِ تتمُّ مُعالجتُه عبرَ مُراجعةِ الأطبّاءِ المُختصّينَ بوصفِهم الجهةَ القادرةَ على تشخيصِ الحالةِ المرضيّةِ والدواءِ الذي يناسبُها، أمّا مُعالجةُ أسبابِ الاكتئابِ فتتمُّ مِن خلالِ تقديمِ توصياتٍ عامّةٍ تساعدُ الإنسانَ على فهمِ الحياةِ وكيفيّةِ التأقلمِ معَها سلوكيّاً ونفسيّاً، وهُنا يكونُ للدّينِ حضورُه المؤثّرُ مِن خلالِ ما يُقدّمُه مِن تعليماتٍ وتوجيهاتٍ في الجانبِ العقائديّ والمعرفيّ أو الأخلاقيّ والسلوكيّ، وبالتالي لا يكونُ الدينُ بديلاً عن الطبِّ النفسي أو مُنافِساً له وإنّما يكونُ داعِماً ومُكمّلاً له، وعلى ذلكَ لا نتوقّعُ منَ الدينِ تقديمَ وصفةٍ علاجيّةٍ لمَن هوَ مريضٌ بالفعل، بل الواجبُ في هذه الحالةِ هوَ مراجعةُ الأطبّاءِ المُختصّين، فهناكَ سلسلةٌ منَ الإجراءاتِ والأدواتِ المُناسبةِ التي يتبعُها الطبيبُ لمُعالجةِ الاكتئاب، وعليهِ فإنَّ كلَّ ما نتوقّعُه منَ الدينِ هوَ تقديمُ رؤيةٍ حياتيّةٍ تحصّنُ الإنسانَ منَ الوقوعِ في الاكتئاب.

 وللوقوفِ على الدورِ الإيجابيّ للدينِ فيما يصيبُ النفسَ مِن اكتئابٍ وتوتّرٍ وعدمِ استقرار، لابدَّ منَ الوقوفِ على الأسبابِ التي تؤدّي لحدوثِ هذهِ المشاكلِ النفسيّة، فلو ثبتَ أنَّ الدينَ يقدّمُ مُعالجاتٍ حقيقيّةً لتلكِ الأسبابِ حينَها يمكنُنا الجزمُ بدورِ الدينِ في تحصينِ الإنسانِ منَ الأمراضِ النفسيّة.

وهُنا تجبُ الإشارةُ إلى أنَّ الأسبابَ التي نبحثُ عَنها لا تتعلّقُ بالظروفِ الخارجيّةِ فحسب، وإنّما تتعلّقُ بالأسبابِ النفسيّةِ التي تجعلُ البعضَ يتأثّرُ سلباً بتلكَ الظروف، ومنَ المُؤكّدِ أنَّ البحثَ عن هذهِ الأسباب ليسَ بالأمرِ السهل لاختلافِ المُختصّينَ في علمِ النفسِ حولَ تحديدِ طبيعةِ تلكَ الأسبابِ النفسيّة، فهناكَ مدارسُ ونظريّاتٌ مُتعدّدةٌ ولكلِّ واحدةٍ مِنها تشخيصاتُها الخاصّةُ للأمراضِ النفسيّة، ومِن هُنا سوفَ نكتفي بالرؤيةِ العامّةِ بعيداً عن التفاصيلِ التي تُمثّلُ موردَ اهتمامٍ للدّارسينَ لعلم النفس، ويبدو أنَّ المدرسةَ التحليليّةَ التي بدأت معَ فرويد شكّلَت الأساسَ لكثيرٍ منَ الدراساتِ الجدّيِة لتركيبةِ النفسِ الإنسانيّة، ومعَ أنَّ نظريّةَ فرويد اختصرَت الإنسانَ في جانبِه الغريزيّ إلّا أنّها أشارَت إلى تأثيرِ العقلِ الباطِن في خياراتِ الإنسانِ السلوكيّة، حيثُ حمّلَت المدرسةُ التحليليّةُ لفرويد اللاشعور والعُقدَ الكامنةَ في الإنسانِ مسؤوليّةَ وضعِه النفسي، أي ما نراهُ مِن سلوكٍ واعٍ هوَ تعبيرٌ عمّا لا نراهُ مِن سلوكٍ لا واعٍ في الباطن، ومعَ أنَّ هذهِ المدرسةَ امتلكَت قُدرةً تحليليّةً مُقدّرةً إلّا أنّها لا تعكسُ رؤيةً فلسفيّةً شاملةً لها القدرةُ على تفسيرٍ كاملٍ للإنسان؛ وذلكَ لكونِها غفلَت عن الجانبِ الروحيّ واختصرَت الإنسانَ في مجموعةٍ منَ الغرائزِ البدائيّة، وبخاصّةٍ الغريزةَ الجنسيّة التي أرجعَ إليها فرويد كلَّ الأسبابِ المؤدّيةِ للاضطراباتِ النفسيّة، وفي ذلكَ إهمالٌ مُتعمّدٌ لعواملِ البيئةِ والثقافةِ وجميعِ مؤثّراتِ المُحيطِ الذي يعيشُ فيهِ الإنسان، وقد التفتَ العلماءُ لهذا القصورِ فعمِلوا على تطويرِ المدرسةِ التحليليّةِ بحيثُ تستوعبُ جميعَ هذهِ الأسباب، ولذا اعتبرَ روّادُها الجددُ أنَّ المُشكلةَ النفسيّةَ تعودُ إلى خليطٍ بينَ الثقافةِ واللّاشعور، واعتقدَ آخرونَ أنَّ المُحرّكَ الأساسَ للأزماتِ النفسيّةِ هوَ الثقافةُ والتنشئةُ الاجتماعيّة، وهكذا بدأ علمُ النفسِ التحليليّ يوسّعُ دائرةَ الأسبابِ كما يوسّعُ تبعاً لذلكَ أساليبَ العلاج، فكانَ منَ الطبيعيّ أن تُصبحَ تقويةُ الروحِ والإرادةِ الإنسانيّةِ منَ العواملِ المُهمّةِ لعلاجِ الأمراضِ النفسيّة، وهُنا تجذّرَت مدرسةٌ جديدةٌ قائمةٌ على العلاجِ بالمعنى، أي تحفيزِ النفسِ الإنسانيّةِ بمعانٍ إيجابيّةٍ وبنظرةٍ مُتفائلةٍ للحياة، وهذا الأسلوبُ مُستخدمٌ بالفعلِ لعلاجِ الاكتئابِ في المطبّاتِ النفسيّة، ومِن هذهِ الزاويةِ يدخلُ الدينُ ليسَ بوصفِه مُحصِّناً منَ الاكتئابِ فحَسب وإنّما مُساهِماً أيضاً في عمليّةِ العلاجِ الإيحائيّ لِما يُقدّمُه مِن رؤيةٍ حياتيّةٍ تمنحُ الإنسانَ الاستقرارَ والتوازنَ، فللدّينِ قدراتٌ خاصّةٌ للتحفيزِ الإيجابيّ مِن خلالِ رسمِ معانٍ جديرةٍ بالاهتمامِ فيما يخصُّ الحياة، فأقلُّ البشرِ عناءً وشقاءً هُم الذينَ يمتلكونَ معنىً يدفعُهم إلى الاستمرارِ في الحياة، وحقيقةُ الدينِ قائمةٌ على توسيعِ إطارِ الحياةِ بحيثُ لا تتوقّفُ عندَ حدودِ المادّةِ وما فيها مِن عناء، وإنّما يجعلُ منَ الحياةِ رؤيةً مُتكاملةً تستوعبُ أيضاً القيمَ الساميةَ والأهدافَ العاليةَ، وبذلكَ يتمكّنُ الإنسانُ مِن تجاوزِ كلِّ عقباتِ المادّةِ وضغوطاتِها، كما أنَّ الارتباطَ باللهِ بوصفِه المُهيمنَ على الوجودِ والقادرَ على كلِّ شيءٍ يورثُ الإنسانَ ثقةً عاليةً لا تدعُه يستسلمُ للإحباطات، أمّا مَن يعتقدُ أنَّ الحياةَ نتاجٌ لتقلّباتِ الطبيعةِ وأنَّ المادّةَ هيَ المُتحكّمةُ في مصيرِ الحياة، لا يجدُ سبيلاً غيرَ الاستسلامِ والخضوعِ للحوادثِ الطارئةِ والظروفِ القاهرة، ولا شكَّ في أنَّ مَن يُخيّمُ عليه هذا التفكيرُ سوفَ تتحوّلُ حياتُه إلى جحيم، قالَ تعالى: (وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) وهذا بخلافِ مَن ينطلقُ في الحياةِ مِن وحي الإيمانِ باللهِ تعالى، حيثُ يكونُ مُتحدياً لكلِّ قيودِ الحياةِ ومُتجاوزاً لكلِّ ما يقالُ عنه حتميّات، وكلّما ازدادَ الإنسانُ وعياً بهذهِ العقيدةِ كلّما ازدادَ عَزماً ونشاطاً واستقامة، فحياةُ الإنسانِ مليئةٌ بالعقباتِ التي تحيطُ بواقعِه الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصادي، ولا يمكنُ للإنسانِ تجاوزُها ما لم يكُن مُشبَعاً بالأملِ في اللهِ تعالى ومُعتقداً في قُدرتِه على كلِّ شيء، وبذلكَ يكونُ الدينُ بشكلٍ عام والإسلامُ بشكلٍ خاص هوَ الذي يلهمُ الإنسانَ آليّاتِ التحدّي والتغييرِ للواقع، وذلكَ مِن خلالِ بثِّ روحِ المُثابرةِ والصبرِ على المُعاناةِ والإصرارِ على بلوغِ الغايات، ومِن هُنا فإنَّ الدينَ له أهميّةٌ بالغةٌ في خلقِ السكينةِ للنّفس، والوعي للعقل، والعزيمةِ للإرادة، قالَ تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكرِ اللَّهِ تَطمَئِنُّ القُلُوبُ) وقالَ تعال:

(فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلَامِ وَمَن يُرِد أَن يُضِلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجعَلُ اللَّهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤمِنُونَ) 

وفي المُحصّلةِ، إنَّ الدينَ يقضي على أسبابِ التوتّرِ والاضطرابِ قبلَ حدوثِها، وذلكَ ببناءِ شخصيّةٍ واعيةٍ للحياةِ ومُتأمّلةٍ في اللهِ وعونِه وتوفيقِه، وبذلكَ يصبحُ الدينُ بكلِّ ما فيه مِن عقائدَ وتشريعاتٍ وصفةً تمنعُ المؤمنَ منَ الوقوعِ في الأمراضِ النفسيّةِ ومِن بينِها الاكتئاب.