كيف يمكن الاستدلال على وجود الدين؟

الجواب :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : 

لابدَّ منَ التأكيدِ أوّلاً على أنَّ دراسةَ التاريخِ الإنسانيّ لا تنحصرُ في المناهجِ المادّيّةِ القائمةِ على الحفريّاتِ والآثارِ، فإن كانَت هذه المناهجُ ضروريّةً وفاعلةً في الكشفِ عن الآثارِ المادّيّةِ للحضاراتِ القديمةِ إلّا أنّها غيرُ فاعلةٍ في الكشفِ عن الجوانبِ الإنسانيّةِ لتلكَ الحضارات، فمثلاً لا يمكنُ فهمُ الحضارةِ اليونانيّةِ مِن خلالِ الاكتفاءِ بما في أثينا مِن آثارٍ مادّيّة؛ لأنَّ في ذلكَ تضييعاً للتاريخِ الإنسانيّ الذي كانَت تحفلُ به تلكَ الحضارة، فالموروثُ الثقافيُّ للإنسان لا يقلُّ أهميّةً عن موروثِه المادّي، فلا يمكنُ مثلاً البحثُ عن أفكارِ أفلاطون وأرسطو وغيرِهم منَ الفلاسفةِ في جدرانِ وحصونِ أثينا، وإنّما لابدَّ منَ البحثِ عن ذلكَ بمنهجيّاتٍ تناسبُ موروثَ الإنسانِ الروحيَّ والفكريّ والثقافي، ومنَ المُغالطاتِ الكُبرى التي وقعَ فيها بعضُ المغرورينَ بمناهجِ العلومِ التجريبيّةِ هيَ تعميمُ تلكَ المناهجِ لتشملَ العلومَ الإنسانيّة، وفي ذلكَ تجاهلٌ واضحٌ للإنسانِ صاحبِ القصدِ والإرادة، فالإنسانُ ليسَ مادّةً مُجرّدةً عن الروحِ والشعورِ والإدراك حتّى تتمَّ دراستُه بينَ جدرانِ المُختبَر، وإنّما هوَ بنفسِه له القدرةُ على التفكيرِ والاستنتاجِ لكونِه صاحبَ عقلٍ وإرادة، فالمعارفُ التي تعتمدُ على الفهمِ والاستنباطِ، والمفاهيمُ القائمةُ على التحليلِ والاستنتاج، تنتمي إلى المعارفِ التي يكتسبُها العقلُ عندَما يحلّقُ في آفاقِ الحياةِ الواسعة، بما لها مِن تاريخٍ عريق، وحضاراتٍ مُتنوّعةٍ، واجتماعٍ إنسانيٍّ فاعلٍ ومُتفاعل، فحصرُ العقلِ وحبسُه بينَ جدرانِ المُختبَر جريمةٌ في حقِّ العقلِ والعلمِ معاً، وعليهِ لا يمكنُ رصدُ الإنسانِ وتقييمُه ضمنَ إطارٍ مادّيٍّ خارجيّ فحسب، لأنّه موجودٌ له (قصدٌ) أي أنَّ سلوكَه تُحدّدُه دوافعُ إنسانيّةٌ داخليّة، ولا يمكنُ الوصولُ إليها عن طريقِ الرّصدِ المادّيّ وإدخالهُ ضمنَ قانونِ السببيّةِ المادّيّةِ وقوانينِ الطبيعة؛ لأنَّ معرفةَ الظاهرةِ الإنسانيّة لا تقومُ على الوصفِ والشرحِ كما هوَ الحال في الظاهرةِ الطبيعيّة، وإنّما تحتاجُ إلى تعقّلٍ وإدراكٍ وتفهّمٍ يقومُ على التعاطفِ والمُعايشةِ ومِن ثمَّ كشفِ مخزونِه الداخلي.

 ويبدو أنَّ التفكيرَ الطفوليَّ الذي كانَ يطمحُ في جعلِ العلومِ الإنسانيّةِ شبيهةً بالعلومِ التجريبيّةِ هوَ المسؤولُ عن هذا الخلل، وقد بدأ هذا النمطُ منَ التفكيرِ الحالمِ معَ عصرِ النهضة، وبنضوجِ العلومِ وتقدّمِ المعرفةِ باتَ هذا التفكيرُ مرحلةً ساذجةً لا يعتدُّ بها أحدٌ، ولذلكَ انتهى عصرُ الفلسفةِ الوضعيّةِ عندَما أعلنَ مُنظّرُها الأكبرُ (سير الفريد آير) "في خمسيناتِ القرنِ العشرين أنَّ هذهِ الفلسفةَ ملأةٌ بالتناقضِ، بالرغمِ مِن أنّه قضى السنواتِ الطوالَ في مُعالجةِ أخطائِها. لقد تنبّهَ آير إلى أنّه لا يمكنُنا تطبيقُ قواعدِ البحثِ في العلومِ التجريبيّةِ التي تعتمدُ على الحواسِّ (كالكيمياءِ والفيزياء) على العلومِ الإنسانيّة (كالفلسفةِ والمنطقِ والأخلاق). كذلكَ لا يمكنُ دراسةُ المفاهيمِ الدينيّةِ بمقاييسِ المفاهيمِ العلميّة؛ فلا ينبغي - مثلاً - محاولةُ فهمِ مقولةِ: (إنَّ اللهَ موجودٌ في كلِّ مكان – كلّيُّ الوجود-) بمفاهيمِ المكانِ في فيزياءِ نيوتِن أو فيزياءِ أينشتاين. بذلكَ قامَ آير بإعلانِ موتِ الفلسفةِ الوضعيّةِ المنطقيّةِ ودفنِها" (عمرو شريف، خرافةُ الإلحاد ص 30)

وعليهِ منَ الخطأ البحثُ عن الظاهرةِ الدينيّةِ مِن خلالِ البحثِ في الآثارِ المادّيّةِ، وقد أشَرنا في موضوعٍ سابقٍ إلى أنَّ مِن أهمِّ الدلائلِ التي تؤكّدُ وجودَ حدثٍ ما في التاريخِ هوَ تناقلُه عبرَ التواترِ الاجتماعيّ، بحيثُ يظلُّ تأثيرُه حاضراً جيلاً بعدَ جيل، ووجودُ الأنبياءِ والرسلِ مِن هذا القبيل، حيثُ ما زالَ لهم حضورٌ واضحٌ عبرَ الأجيالِ إلى يومِنا هذا، فوجودُ اليهودِ والنّصارى والمُسلمين واتّصالُهم التاريخيُّ عبرَ الأجيالِ يؤكّدُ بشكلٍ قطعيّ وجودَ الأنبياءِ الذينَ يُمثّلونَ أساساً لأديانِهم، وعليهِ فإنَّ تأثيرَ الأنبياءِ الملحوظَ في مسارِ التاريخِ البشري يؤكّدُ على وجودِهم الفِعلي في التاريخ، وحينَها لا يكونُ وجودُ الأثرِ المادّيّ إلّا مُجرّدَ حالةٍ حِسّيّةٍ لا تشكّلُ إضافةً فعليّةً بالنسبةِ لِما نعلمُه مِن تاريخِ الأنبياءِ بالضرورة، فتاريخُهم يمثّلُ موروثاً مُتكامِلاً عقائديّاً وأخلاقيّاً وتشريعيّاً وحضاريّاً، وبالتالي لا يمكنُ إثباتُ كلِّ ذلكَ مِن خلالِ العثورِ على آثارٍ مادّيّةٍ هُنا أو هُناك.

ومعَ ذلكَ فقد أثبتَت دراساتُ الأنثروبولوجيا مُلازمةَ الأديانِ لكلِّ الحضاراتِ الإنسانيّة، يقولُ المؤرّخُ وكاتبُ السيرِ والناقدُ اليونانيُّ الكبير بلوتارك الخيروني (46 – 120م) الذي كانَ له أثرٌ في كثيرٍ منَ الفلاسفةِ والأدباءِ مِن بينِهم شكسبير: (لقد وُجِدَت في التاريخِ مُدنٌ بلا حصون، ومدنٌ بلا قصور، ومدنٌ بلا مدارسَ، ولكِن لم توجَد أبدًا مدنٌ بلا معابد" (القرضاوي، وجودُ الله، ص 22). ويقرُّ بذلكَ أيضاً الفيلسوفُ الفرنسيُّ الكبير هنري برجسون، والحاصلُ على جائزةِ نوبِل للآداب سنةَ 1927 في كتابِه (أصلا الأخلاقِ والدين): "لقد وُجدَت وتوجدُ جماعاتٌ إنسانيّةٌ مِن دون علومٍ، وفنونٍ، وفلسفاتٍ، ولكنَّه لم توجَد قطُّ جماعةٌ بغيرِ ديانة" (الدينُ بحوثٌ مُمهّدةٌ لدراسةِ تاريخِ الأديان، الدكتور محمّد عبد الله دراز ص 83)

وعليهِ فإنَّ الدينَ ظاهرةٌ مرافقةٌ للإنسانِ لم تنفصِل عنهُ في جميعِ مراحلِه التاريخيّة، والسببُ في ذلكَ أنَّ الإنسانَ مُضطرٌّ في عمقِ كيانِه لمعرفةِ مَن أوجدَه، كما أنّهُ مهمومٌ بمصيرِ الحياةِ ومُستقبلِها المجهول، الأمرُ الذي حتّمَ عليهِ التطلّعَ إلى الغيبِ والبحثَ خارجَ حدودِ المادّة، وهذا النوعُ منَ الوعي المُتسامي عن المادّةِ والمُترفّعُ عن الحسِّ، يمثّلُ جانبَ الإشراقِ في الإنسان، يقولُ بارتيلمي سانت هيلير: هذا اللغزُ العظيمُ الذي يستحدثُ عقولنا: ما العالَمُ؟ ما الإنسانُ؟ مِن أينَ جاء؟ مَن صنعَهُما؟ مَن يُدبّرهُما؟ ما هدفُهما؟ كيفَ بدءا؟ كيفَ ينتهيان؟ ما الحياةُ؟ ما الموتُ؟ ما القانونُ الذي يجبُ أن يقودَ عقولَنا أثناءَ عبورِنا في هذهِ الدنيا؟ أيُّ مُستقبلٍ ينتظرُنا بعدَ هذهِ الحياة؟ هل يوجدُ شيءٌ بعدَ هذهِ الحياةِ العابرة؟ وما علاقتُنا بهذا الخلود؟ هذهِ الأسئلةُ لا توجدُ أمّةٌ، ولا شعبٌ، ولا مجتمعٌ، إلّا وضعَ لها حلولاً جيّدةً أو رديئةً، مقبولةً أو سخيفةً، ثابتةً أو مُتحوّلة.

فالحقيقةُ التي لا يرتابُ فيها منصفٌ تؤكّدُ بأنَّ واقعَ الإنسانِ وتاريخَه المُتطاولَ لم يخلُ منَ الأديان، وهذا خلافُ الإلحادِ الذي يعدُّ مساراً مُعاكِساً لتاريخِ الإنسانِ وفِطرتِه المُتديّنةِ، ومِن هُنا لم يجِد الإلحادُ طريقاً لتبريرِ موقفِه إلّا بتقديمِ تفسيراتٍ مُشوّهةٍ لنشوءِ الأديان، ولذا سعى إلى التقليلِ مِن أهميّةِ الأديانِ بالقولِ بأنّها وُجدَت لتسدَّ الفراغَ الذي أحدثَه جهلُ الإنسانِ بظواهرِ الوجود، ولو صحَّ هذا الزعمُ لتخلّى الإنسانُ عن الأديانِ في عصرِ العلومِ والمعارفِ وهذا ما لم يحصُل، فالأديانُ وفقَ هذه النظرةِ لابدَّ أن تكونَ حالةً طارئةً سريعاً ما يتخلّى عَنها الإنسانُ كلّما ازدادَ علمُه، وهذا ما يُكذّبُه الواقعُ فالإنسانيّةُ ظلَّت مُتمسّكةً بأديانِها وهيَ في قمّةِ تقدّمِها العلمي، يقولُ الدكتورُ ماكس نوردوه عن أصالةِ الشعورِ الديني: (هذا الإحساسُ أصيلٌ يجدُه الإنسانُ غيرُ المُتمدّنِ كما يجدُه أعلى الناسِ تفكيراً وأعظمُهم حدساً، وستبقى الدياناتُ ما بقيَت الإنسانيّة، وستتطوّرُ بتطوّرِها، وستتجاوبُ دائِماً معَ درجةِ الثقافةِ العقليِّة التي تبلغُها الجماعة) (عبد الله دراز ص 87) ويقولُ أرنست رينان في تاريخِ الأديان "إنَّ منَ المُمكنِ أن يضمحلَّ كلُّ شيءٍ نحبُّه، وأن تبطلَ حُريّةُ استعمالِ العقلِ والعلمِ والصناعة، ولكن يستحيلُ أن يَنمحي التديّنُ، بل سيبقى حُجّةً ناطقةً على بطلانِ المذهبِ المادّي، الذي يريدُ أن يحصرَ الفكرَ الإنساني في المضايقِ الدنيئةِ للحياةِ الأرضيَّة" (عبدُ الله دراز ص 83). 

ويقولُ معجمُ (لاروس) للقرنِ العشرين: إنَّ الغريزةَ الدينيّة: مشتركةٌ بينَ كلِّ الأجناسِ البشريّة، حتّى أشدّها همجيّةً، وأقربَها إلى الحياةِ الحيوانيّة.. وإنَّ الاهتمامَ بالمعنى الإلهيّ وبما فوقَ الطبيعةِ هوَ إحدى النزعاتِ العالميّةِ الخالدةِ للإنسانيّة. ويقولُ: إنَّ هذهِ الغريزةَ الدينيّةَ لا تختفي، بل لا تضعفُ ولا تذبُل، إلّا في فتراتِ الإسرافِ في الحضارةِ وعندَ عددٍ قليلٍ جدّاً منَ الأفراد.

وفي المُحصّلةِ لا يمكنُ إنكارُ الأديانِ بحُجّةِ عدمِ توافقِها معَ المناهجِ التجريبيّة، كما لا يمكنُ إنكارُ الأنبياءِ بحُجّةِ عدمِ العثورِ على آثارِهم المادّيّة، وذلكَ لأنَّ الدينَ خطابٌ للإنسانِ بوصفِه روحاً وعقلاً لا بوصفِه مادّةً، ولذلكَ فإنَّ المسارَ الذي تتحرّكُ فيه مناهجُ العلومِ التجريبيّةِ يختلفُ عن المسارِ الذي تتحرّكُ فيهِ العلومُ والمعارفُ الدينيّة.