العصمة وتولية زياد ابنُ أبيه

عصمة الإمامُ عليّ وتولية زياد ابنُ أبيه

الجواب :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لا نسلّمُ بوجودِ إشكالٍ منَ الأساس حتّى نعملَ على مُعالجتِه، فعصمةُ الإمامِ عليّ (عليهِ السلام) وولايتهُ التكوينيّةُ لا تتعارضُ معَ تنصيبِه لزياد عامِلاً على منطقةِ (استخر) في ضواحي فارِس، ويبدو أنَّ توهّمَ التعارضِ ناشئٌ عن فهمٍ خاطئٍ للعِصمةِ والولايةِ التكوينيّة، حيثُ تصوّرَ السائلُ الإمامةَ على أنّها خروجٌ عن مسارِ السّننِ والأسبابِ الطبيعيّة، وهذا الفهمُ لا يتعارضُ معَ الولايةِ التكوينيّةِ للإمامِ فقط، وإنّما يتعارضُ أيضاً مع الولايةِ الأصليّةِ للهِ تعالى، فإذا صحَّ السؤالُ لماذا استعانَ الإمامُ عليّ (عليهِ السلام) بزيادٍ وهوَ يعلمُ ما يقعُ منهُ في المُستقبَل، لصحَّ السؤالُ أيضاً لماذا خلقَ اللهُ زياداً معَ علمِه بما يصدرُ مِنه؟ وبما أنَّ الإجابةَ على السؤالِ الثاني تقومُ على أنَّ اللهَ أجرى الأمورَ على أسبابِها الطبيعيّةِ مِن دونِ أن يحكمَ مسارَها بولايتِه المُطلقة، أو مِن دونِ أن يحاسبَهم بعلمِه المُسبقِ عمّا سيصدرُ عنهم في المُستقبل، كذلكَ الحالُ في ما يخصُّ ولايةَ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) فهوَ لا يسوسُ الناسَ بسُلطةٍ تكوينيّةٍ ولا يقودُ المُجتمعاتِ بعلمِ المنايا والبلايا، وإنّما يقومُ بدورِ القيادةِ والإمامةِ بحسبِ ما تُمليهِ الظروفُ الموضوعيّة مِن خيارات، وإذا جازَ للأنبياءِ أو الأئمةِ أن يحكموا الناسَ بما لهُم مِن سُلطةٍ غيبيّةٍ لأصبحَ الناسُ مجبورينَ على اتّباعِهم ومُستسلمينَ للانقيادِ إليهم، وعندَ ذلكَ تبطلُ الحُجّةُ وتنتفي فلسفةُ الابتلاء، قالَ تعالى: (وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الأَرضِ كُلُّهُم جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤمِنِينَ)، وإخضاعُ الناسِ على خلافِ ما يختارونَه بإرادتِهم يعدُّ إكراهاً حتّى لو كانَ هذا الإخضاعُ بسُلطةٍ غيبيّةٍ، فلو أخَذنا مثلاً موقفَ الإمامِ عليّ (عليهِ السلام) مِن موضوعِ رفعِ المصاحفِ في حربِ صفّين، لوجَدنا أنَّ موقفَه كانَ على خلافِ الموقفِ الذي تبنّاهُ أغلبُ مَن كانَ معَه في مُعسكرِه، ومعَ ذلكَ استجابَ لرأي الأكثريّةِ معَ علمِه المُسبقِ بعواقبِ الأمور، وذلكَ لأنّه لا يُكرهُ الناسَ على ما لا يرغبونَ فيه حتّى وإن كانَ قادِراً على ذلك، ومِن هذه الزاويةِ يجبُ أن نفهمَ العِصمةَ أيضاً، فالعصمةُ لا تعني بالضرورةِ اختيارَ ما يُمثّلُ الحقَّ في الواقع، وإنّما تعني اختيارَ الحقِّ مِن بينِ الخياراتِ المُتاحة، فمثلاً ما دارَ بينَ معاويةَ والإمامِ الحسنِ (عليهِ السلام) كانَ الحقُّ فيه مُنحصِراً في تولّي الإمامِ الحسنِ (عليهِ السلام) الخلافةَ إلّا أنَّ ذلكَ الحقَّ لم يكُن مُتيسّراً، وما هوَ متاحٌ كانَ مُنحصِراً في خيارِ الحربِ أو خيارِ الصِّلح الذي يضمنُ للإمامِ الحسنِ (عليهِ السلام) الخلافةَ بعدَ هلاكِ معاوية، ولذلكَ اختارَ الإمامُ الحسنُ (عليهِ السلام) الصلحَ بوصفِه الخيارَ الذي يُمثّلُ الصوابَ بحسبِ مُقتضياتِ الظرفِ التاريخيّ، فإذا التزمَ معاويةُ ببنودِ الصلحِ عادَ الحقُّ إلى الإمامِ الحسنِ وإذا لم يلتزِم انكشفَت نواياهُ وظهرَ على حقيقتِه، وعلى ذلكَ لا يمكنُ دراسةُ تاريخِ الأئمّةِ بعيداً عن السياقِ العامِّ وما تُمليهِ عليهم الأحداثُ مِن مواقف، وعصمةُ الإمامِ وولايتُه التكوينيّة لا تصادرُ إرادةَ الناسِ وحُرّيّتَهم وإنّما تمضي الإمامةُ بالشكلِ الذي تكونُ فيهِ الأمّةُ مسؤولةً عن خياراتِها.

وبحسبِ المنظورِ التاريخيّ نجدُ أنَّ توليةَ زيادٍ على ضواحي فارس جاءَت ضمنَ السياقِ الطبيعيّ للأحداث، فقد كانَ ذلكَ أوّلاً بتوصيةٍ مِن عبدِ اللهِ بنِ عبّاس كما في البدايةِ والنهايةِ لابنِ كثير. وثانياً إنَّ زياداً كانَ رجلاً فطِناً وقائِداً سياسيّاً وعسكريّاً لا يمكنُ تجاهلُه، ولذلكَ نجدُ معاويةَ كانَ حريصاً على كسبِه إلى جانبِه. وثالثاً كانَ زيادُ محسوباً على الإمامِ عليّ (عليهِ السلام) وحاربَ في صفوفِه في معركةِ صفّين ضدَّ معاوية، يقولُ الدينوريّ في الأخبارِ الطوال ص 219: ".. ونشأ غلاماً لقناً ذهناً، عاقلاً أديباً، فأخرجَه المُغيرةُ بنُ شُعبةَ معَه إلى البصرةِ حينَ وليَها مِن قبلِ عُمر بنِ الخطّاب، فأستكتبَه المُغيرةُ. فلمّا وليَ عليٌّ بنُ أبي طالب ولّى زياداً أرضَ فارس، فلمّا توجّهَ إلى صفّينَ كتبَ معاويةُ إلى زيادٍ يتوعّدُه، فقامَ زيادٌ في الناس، فقالَ: إنَّ ابنَ آكلةِ الأكبادِ ورأسَ النفاقِ كتبَ إليَّ يتوعّدُني، وبيني وبينَه ابنُ عمِّ رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وسلّم في تسعينَ ألفَ مُدَجّجٍ مِن شيعتِه، أما واللهِ لئِن رامَني ليجدَني ضرّاباً بالسيف. فلمّا قُتلَ عليٌّ، واستتبَّ الأمرُ لمعاويةَ تحصّنَ زيادٌ بقلعةِ مدينةِ إصطخر، وكتبَ معاويةُ له أماناً على أن يأتيه، فإن رضيَ ما يُعطيه، وإلّا ردَّهُ إلى مُتحصّنِه بتلكَ القلعة. فسارَ إلى معاويةَ، وترقَّت بهِ الأمورُ إلى أن ادّعاهُ مُعاوية، وزعمَ للنّاسِ أنّهُ ابنُ أبي سفيان..." ممّا يدلُّ على أنَّ زياداً وقعَ منهُ الانحرافُ بعدَ أن قرّبَه معاويةُ، ولا إشكالَ في كونِه كانَ أحدَ عُمّالِ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) فالإمامُ يحكمُ بينَ الناسِ بحسبِ الظاهرِ ولا يحاسبُ الناسَ بما ستؤولُ إليهِ أمورُهم، كما تعاملَ رسولُ اللهِ معَ بعضِ الصحابةِ وأعطاهُم منَ المنزلةِ والمكانةِ ثمَّ انحرفوا وانقلبوا بعدَ وفاتِه.