الشيعةُ وزيارةُ القبور

يناقشني سني ويتهمنا نحن الشيعة بالشرك بسبب زيارة القبور وتدعون القبور وتدعون الاولياء وتعبدون الائمة 14وهذا شرك وكفر وأنه لا أمام ولا حجة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اله. اريد اثبات اعتقادنا في تلك الأمور بأحاديث مسندة وصحيحة أو من القرآن الكريم

الجواب :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : 

يتضمّنُ السؤالُ مسائلَ مُتعدّدةً ومواضيعَ مُختلفةً وهيَ في الواقعِ عناوينُ لعشراتِ الكُتبِ التي أصّلَت لها وردَّت ما يثارُ حولَها مِن إشكالات، وعليهِ فإنَّ الإجابةَ المُختصرةَ تكونُ ناقصةً بالضرورةِ ولا ترتقي بالسائلِ إلى مُستوىً تجعلُه مُناقشاً مُتمكّناً مِن حُجّتِه، ولذا ننصحُه بضرورةِ البحثِ والقراءةِ في هذهِ العناوينِ حتّى لو اختارَ كتاباً واحداً لكلِّ موضوعٍ مِن هذهِ الموضوعات.

وسوفَ نكتفي في الإجابةِ ببعضِ الإشاراتِ التي تكشفُ للسائلِ طُرقَ الاستدلالِ والبرهنة.

بالنسبةِ للسؤالِ الأوّلِ كيفَ نثبتُ الإمامة؟ قد أشَرنا في إجابةٍ سابقةٍ الى أنَّ الأدلّةَ على إمامةِ أهلِ البيتِ بعضُها نصٌّ في الدلالةِ وبعضُها ظاهرٌ فيها بحُكمِ الظهورِ العُقلائي، ويُضافُ إلى ذلكَ القرائنُ المُعتمدةُ عَقلاً سواءٌ كانَت قرائنَ خاصّةً بالنصوصِ أو قرائنَ مُستمدّةً مِن واقعِ الحال تاريخيّاً واجتماعيّاً، أو القرائنُ المُستمدّةُ منَ التصوّرِ الكُلّيّ للإسلامِ في معانيهِ العامّةِ وغاياتِه النهائيّة، فالكثيرُ منَ الأدلّةِ تكتسبُ قيمتَها الدلاليّةَ منَ النسقِ العامِّ لمجموعِ الأدلّةِ وما تؤسّسُ له مِن رُؤيةٍ كُلّيّةٍ، وعليهِ فإنَّ الدراسةَ العلميّةَ لموضوعِ الإمامةِ في الإسلامِ تستوجبُ توسيعَ النظرةِ التي تشملُ جمع الأدلّةِ ومِن ثمَّ ترتيبَها في نسقٍ واحدٍ مِن أجلِ تركيزِها في بؤرةٍ واحدةٍ وهيَ الإمامة، أمّا تشتيتُ الأدلّةِ وعزلها عِن بعضِها البعضِ قد يؤدّي إلى تشويهِ الرؤيةِ وتشويشِ ما تدلُّ عليه، وفوقَ كلِّ ذلكَ يجبُ الالتفاتُ إلى أنَّ الحَكمَ في دلالةِ كلِّ الأدلةِ ليسَ الذوقُ الشخصيّ والميلُ النفسيّ، وإنّما مدى قربِ الدليلِ منَ المناهجِ العلميّةِ والطريقةِ المُتّبعةِ عندَ العُقلاءِ في استظهارِ الأدلّة، وما نعيبُه على البعضِ في بحثِ موضوعِ الإمامةِ هوَ انطلاقُهم مِن رؤيةٍ مُسبقةٍ تعملُ على تحريفِ دلالةِ كلِّ دليلٍ لا يخدمُ تلكَ الرؤيةَ، وعليهِ ننصحُ في المرحلةِ الأولى ببحثِ الإمامةِ في معناها العامِّ عقلاً وشرعاً، وهُنا لابدَّ منَ الإجابةِ على بعضِ الأسئلةِ مثلَ: هل الإمامةُ والقيادةُ ضرورةٌ يفرضُها الاجتماعُ الإنساني؟ وهل تباينُ المُجتمعاتِ يعودُ إلى تباينِ القيادات؟ وهل الإمامةُ والقيادةُ المعصومةُ بحُكمِ العقلِ أفضلُ أم القيادةُ غيرُ المعصومة؟ وهل للإمامةِ أيُّ وجودٍ أو أثرٍ فيما يتعلّقُ بسُنّةِ الماضيينَ؟ وهل ما يضمنُ استمرارَ الرسالةِ في كلِّ مراحلِها التاريخيّةِ بشكلٍ واحدٍ وموحّدٍ هوَ وجودُ إمامٍ معصومٍ يتولّى رعايتَها أم أنَّ ذلكَ يمكنُ تحقيقُه من دونِ وجودِه؟ وبعدَ الوصولِ إلى إجاباتٍ واضحةٍ ومُحدّدةٍ يمكنُ الانتقالُ إلى بحثِ الإمامةِ والقيادةِ في التصوّرِ الإسلامي، وهل أولى الإسلامُ أهميّةً خاصّةً لدورِ الإمام؟ وما هيَ الشروطُ التي وضعَها الإسلامُ للإمام؟ وهل كانَ رسولُ الله يُمثّلُ دورَ الإمامِ للأمّةِ مُضافاً إلى دورِ الرّسالة؟ وهل منَ الطبيعيّ أن تبقى الرسالةُ وينتفي دورُ الإمامةِ بعدَ وفاةِ رسولِ الله؟ وما هوَ الدورُ الذي يلعبُه الإمامُ المعصوم بعدَ الرسولِ في حالِ فرضنا وجودَه؟ وهل ما وقعَ مِن حروبٍ واختلافٍ يمكنُ حدوثُه إذا سلّمَت الأمّةُ زمامَها لإمامٍ معصوم؟ وهل الاختلافُ في تفسيرِ الدينِ والتباينِ بينَ مدارسِه ومذاهبِه يمكنُ أن يحدثَ إذا توافقَت كلُّ الأمّةِ على الاستماعِ لإمامٍ معصوم؟ وغيرِ ذلكَ منَ الأسئلةِ التي تضعُ لنا فكرةَ الإمامةِ في السياقِ الذي يجبُ أن نبحثَه، وبعدَ هذه المرحلةِ يمكنُ للباحثِ أن ينتقلَ إلى مرحلةِ البحثِ عن الأشخاصِ الذينَ يمكنُ أن يُمثّلوا الأئمّةَ، وهل كلُّ الصحابةِ يصلحونَ لهذا الدور أم لا بدَّ مِن وجودِ نُخبةٍ خاصّةٍ هيَ التي يمكنُها القيامُ بدورِ الإمامة؟ وهل بينَ الصحابة مَن تفوّقَ على غيرِه في العلمِ والمعرفةِ وكانَ أكثرَهم إحاطةً بحقائقِ الإسلامِ وأكثرَ مُساهمةً في تثبيتِ دعائمِه وأقربَهم مكانةً منَ الرسولِ وأكثرَهم حظوةً باهتمامِ الرّسول؟ كلُّ ذلكَ يفتحُ الطريقَ لمعرفةِ دلالاتِ النصوصِ التي ميّزَت أهلَ البيتِ (عليهم السلام) عامّةً والإمامَ عليّاً (عليهِ السلام) خاصّةً، فالذي يصلُ إلى كونِ الإمامةِ ضرورةً عقليّةً واجتماعيّةً ودينيّةً، ويحصلُ له اليقينُ بأنَّ أهلَ البيتِ عامّةً والإمامَ عليّاً خاصّةً أكثرُ الناسِ عِلماً ومعرفةً بالإسلام، لا يمكنُه التردّدُ في دلالةِ الحديثِ الذي يقولُ مثلاً (تركتُ فيكُم كتابَ اللهِ وعِترتي أهلَ بيتي) أو الحديث الذي يقولُ (مَن كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاه) أو الحديث الذي يقول (أنَّ الأئمّةَ اثناعشرَ إماماً) وكذلكَ الحالُ في آياتِ القرآنِ التي أمرَتنا بأن نكونَ معَ الصادقينَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أو آية وجوبِ الطاعةِ لأولي الأمر، قالَ تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم) أو آية الولايةِ قالَ تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ) وغير ذلكَ منَ النصوصِ، فسوفَ يجدُها واضحةً وصريحةً ومُنسجمةً معَ المبدأ العامِّ ومُحقّقةً لأهدافِ الرسالةِ وغاياتِها. 

وهُنا نستعرضُ نموذجاً قد ذكرناهُ في أجوبةٍ سابقةٍ حولَ كيفيّةِ الاستدلالِ على الإمامةِ عامّةً وإمامةِ أهلِ البيتِ خاصّةً

أوّلاً: الاستدلالُ على كونِ الإمامةِ منصِباً إلهيّاً لا يتدخّلُ الإنسانُ في اختيارِه وتعيينِه، ويمكنُ الاستدلالُ على ذلكَ بقولِه تعالى: (وَإِذِ ابتَلَىٰ إِبرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ)، فقولُه: (إنّي جاعلُكَ للنّاسِ إماماً) وقولُه: (لا ينالُ عهدي) نصٌّ صريحٌ على أنَّ الإمامةَ جعلٌ وعهدٌ منَ الله.

ثانياً: كونُ العِصمةِ شرطاً في الإمامِ، ويمكنُ الاستدلالُ على ذلكَ مِن قولِه تعالى: (لا ينالُ عهدي الظالمين) حيثُ نفَت الآيةُ بشكلٍ مُطلَقٍ صدورَ الظلمِ منَ الإمام، وكلُّ مَن صدقَ عليهِ الذنبُ والخطأ صدقَ عليهِ الظلم، فثبتَ مِن ذلكَ العصمةُ كما سيتّضحُ فيما بعد. 

ومِن خلالِ هَذينِ الموردينِ تثبتُ حُجّةُ الشيعةِ على غيرِهم ممَّن زعمَ أنَّ الإمامةَ مُجرّدُ زعامةٍ سياسيّةٍ يمكنُ أن ينالَها الإنسانُ مِن خلالِ الانتخابِ أو الشورى، وبالتالي يصحُّ الاحتجاجُ بهذهِ الآيةِ بشكلٍ مُباشرٍ على مفهومِ الإمامةِ عندَ الشيعة، كما يمكنُ الاستدلالُ بها بشكلٍ غيرِ مُباشرٍ على إمامةِ أهلِ البيتِ خاصّةً كما سيأتي بيانُه.

 أمّا دلالةُ الآيةِ على عصمةِ الإمامِ فيمكنُ توضيحُها بعدّةِ وجوه:

الوجهُ الأوّل: أشارَ الفخرُ الرّازي لعصمةِ الإمامِ في تفسيرِ قولِه تعالى (إِنّي جاعِلُك لِلنّاسِ إِماماً) بقولِه: (يدلُّ ذلكَ على أنّهُ (ع) كانَ معصوماً عن جميعِ الذنوبِ لأنَّ الإمامَ هوَ الذي يؤتمُّ به ويُقتدى، فلو صدرَت المعصيةُ مِنه لوجبَ علينا الاقتداءُ به في ذلكَ، فيلزمُ أن يجبَ علينا فعلُ المعصيةِ وذلكَ محالٌ لأنَّ كونَه معصيةً عبارةٌ عن كونِه ممنوعاً مِن فعلِه وكونِه واجباً عبارةٌ عن كونِه ممنوعاً مِن تركِه و الجميعُ محالٌ) (الرّازي، مفاتيحُ الغيب، ج 4، ص 40)، ويقصدُ الرّازي بذلكَ كونَ الإمامِ وُضِعَ للاقتداءِ به، فإن كانَ غيرَ معصومٍ وتصدرُ منهُ المعصيةُ للزمَ الاقتداءُ به في المعصيةِ بحُكمِ كونِنا مأمورينَ باتّباعِه، وفي نفسِ الوقتِ قد نُهينا عن المعصيةِ، فيجتمعُ حينَها الأمرُ والنهي في موضعٍ واحدٍ وهذا محالٌ، فتعيّنَ مِن ذلكَ ضرورةُ عصمةِ الإمام.   

الوجهُ الثاني: عندَما أخبرَ اللهُ النبيَّ إبراهيم بأنّه قد جعلَه إماماً طلبَ ذلكَ المقامَ لذُرّيّتِه أيضاً فقالَ: (ومِن ذُرّيّتي)، فقالَ اللهُ له: (لا ينالُ عهدي الظالمين)، أي أنَّ الإمامةَ عهدٌ منَ اللهِ لخاصّةِ عبادِه ولا يمكنُ إعطاؤها لمَن لا يستحقُّها، والمعيارُ في نيلِ عهدِ اللهِ هوَ عدمُ صدورِ الظلم، وبما أنَّ كلَّ عاصٍ ظالمٌ، لقولِه تعالى: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون) فيثبتُ حينَها العصمةُ للإمام؛ لكونِ الآيةِ مُطلقةً حيثُ نفَت استحقاقَ (مُطلقِ الظالم) للإمامةِ حتّى لو صدرَ منهُ الظلمُ للحظةٍ واحدة، وعليهِ الآيةُ لا تقبلُ التقييدَ بنوعٍ مُحدّدٍ منَ الظلمِ أو زمنٍ مُعيّنٍ لصدورِه، ويتّضحُ ذلكَ في الوجهِ الثالث.

الوجهُ الثالث: وفيهِ ردٌّ على مَن قالَ أنَّ التائبَ الذي أصلحَ عملَه لا يدخلُ ضمنَ الظالمينَ ولذا لا يشترطُ فيهم العِصمة، وهذا ما لا يمكنُ قبولهُ؛ فإنّ ذرّيّةَ إبراهيم (ع) بالنسبةِ إلى الظلمِ على أقسامٍ أربعة:

1- مَن كانَ طيلةَ عُمرِه ظالماً.

2- مَن كانَ طاهِراً ونقيّاً في جميعِ فتراتِ عُمره.

3- مَن كانَ ظالِماً في بدايةِ عُمرِه، وتائِباً في آخرِه.

4- مَن كانَ طاهِراً في بدايةِ عُمرِه، وظالِماً في آخرِه.

ومنَ الواضحِ أنَّ إبراهيمَ حينَما طلبَ الإمامةَ لذُرّيّتِه لم يكِن يقصدُ مِن بينِهم القسمَ الأوّلَ والرّابع، لوضوحِ أنَّ الغارقَ في الظلمِ مِن بدايةِ عُمرِه إلى آخرِه، أو المُتّصفَ به أيّامَ تصدّيهِ للإمامة، لا يصلحُ لأن يؤتمنَ عليها. أمّا القسمُ الأوّلُ والثالثُ قد يُحتملُ فيهما عقلاً أن يكونا ضمنَ مَن طلبَ لهم إبراهيمُ الإمامةَ، وعليهِ عندَما جاءَ ردُّ الآيةِ على طلبِ إبراهيم بالقولِ: (لا ينالُ عهدي الظالمين) تعيّنَ بشكلٍ قاطعٍ أنَّ المُستثنى هوَ القسمُ الثالثُ دونَ الأوّل، وبذلكَ يثبتُ المقصودُ وهوَ عصمةُ الإمامِ بشكلٍ مُطلَقٍ.

أمّا الاستدلالُ بالآيةِ على إمامةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) بشكلٍ غيرِ مُباشر، يمكنُ مُقاربتُه بعدّةِ وجوهٍ نختصرُ الكلامَ فيها بوجهٍ واحدٍ، وهوَ كالتالي:

يقولُ تعالى: (أَم يَحسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ فَقَد آتَينا آلَ إِبراهِيمَ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَآتَيناهُم مُلكاً عَظِيماً)

دلَّت هذهِ الآيةُ على أنَّ اللهَ قد آتى آلَ إبراهيمَ الإمامةَ التي كانَ قد طلبَها إبراهيمُ لذُرّيّتِه في الآيةِ السابقة، كما تكشفُ هذه الآيةُ عن سببِ حرمانِ الظالمينَ منَ الإمامة؛ لِما بيّنَته مِن مقاماتٍ اتّصفوا بها وهيَ قولُه: (آتَينا آلَ إِبراهِيمَ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَآتَيناهُم مُلكاً عَظِيماً) فمَن يكونُ في عُهدتِه الكتابُ والحِكمةُ والملكُ العظيمُ لا يكونُ ظالِماً لنفسِه. وفي المُحصّلةِ أثبتَت الآيةُ أنَّ اللهَ خصَّ آلَ إبراهيمَ بعلومِ الكتابِ وفتحَ لهم أبوابَ الحِكمةِ وقدّمَهم على الآخرينَ بأن جعلَ لهُم المُلكَ العظيم.

أمّا علاقةُ هذهِ الآيةِ بآلِ محمّدٍ (عليهم السلام) سوفَ يتّضحُ مِن خلالِ إثارةِ مجموعةٍ منَ الأمور، وفي البدءِ لابدَّ أن نتساءلَ عن بعضِ المعاني الغامضةِ في صدرِ الآية، فمَن هُم الناسُ المحسودونَ؟ وما هوَ الفضلُ الذي كانَ سبباً في الحسد؟ لا يمكنُ أن يكونَ المقصودُ بالناسِ في هذهِ الآية كلُّ الناس، وإنّما جماعةٌ خاصّةٌ منَ الناسِ يقعُ عليهم حسدُ البقيّة، كما لا يمكنُ أن يكونَ الفضلُ فضلاً يشتركُ فيهِ كلُّ الناس، وإنّما فضلاً خاصّاً لا يصيبُ إلّا بعضَهم، وإلّا لم يكُن هناكَ خصوصيّةٌ حتّى يقعَ عليهم الحسد. 

ولكي نفهمَ المقصودَ في صدرِ الآيةِ لابدَّ منَ الرجوعِ إلى عجزِ الآية، حيثُ بيّنَ اللهُ فيها نموذجاً للناسِ ونموذجاً للفضل، أمّا نموذجُ النّاس: فهُم آلُ إبراهيم. وأمّا نموذجُ الفضل: فهوَ الكتابُ، والحكمةُ، والمُلكُ العظيم. وهُنا نتساءلُ عمَّن يقابلُ آلَ إبراهيم مِن أمّةِ محمّدٍ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم)؟ أي مَن هوَ الذي يكونُ كفواً ونظيراً لآلِ إبراهيمَ مِن أمّةِ محمّدٍ فيقعُ عليهم الحسدُ كما وقعَ على آلِ إبراهيم؟ ومَن منَ الناسِ في أمّةِ محمّدٍ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، يمكنُ أن يستحقَّ أن يمنَّ اللهُ عليهِ بالكتابِ والحِكمةِ والمُلكِ العظيم؟

منَ الواضحِ أنَّ مَن يعادلُ آلَ إبراهيمَ هُم آلُ محمّدٍ عليهم السلام، ولذلكَ أمرَ الرّسولُ هذهِ الأمّةَ أن تُصلّي على آلِ محمّد، كما تصلّي على آلِ إبراهيم. وقد وقعَ الحسدُ بالفعلِ على آلِ محمّدٍ إلى درجةِ مُحاربتِهم وقتلِهم وتشريدِهم في البُلدان، وقد ظهرَت بوادرُ هذا الحسدِ في أيّامِ رسولِ الله (ص) ولذا كانَ يقول: (مالي كلّما ذكرتُ آلَ إبراهيمَ تهلّلَت وجوهُكم، وكلّما ذكرتُ آلَ محمّدٍ كأنّما يفقأ في وجوهِكم حبُّ الرمّان)

وعليهِ بحُكمِ المُقابلةِ بينَ صدرِ الآيةِ وعجزِها، يمكنُنا تفسيرُ الآيةِ على هذا النحو: (أم يحسدونَ - آلَ محمّد - على ما آتاهُم اللهُ مِن فضلِه - الكتابَ والحكمةَ والملكَ العظيم-، ولقد آتينا آلَ إبراهيمَ الكتابَ والحكمةَ وآتيناهُم مُلكاً عظيماً)، وهذه الآيةُ لا تثبتُ فقط أنَّ أهلَ البيتِ هُم نظراءُ آلِ إبراهيم، وإنّما تثبتُ فضلَهم على آلِ إبراهيم، وذلكَ لأنَّ القرآنَ أثبتَ حقَّ هؤلاءِ المحسودينَ بناءً على الأولويّة، أي بمعنى إذا كانَ آلُ إبراهيمَ قد أعطاهُم اللهُ هذهِ المرتبةَ، فمِن بابِ أولى أن تكونَ لآلِ محمّدٍ (ص)، والأولويّةُ لا تكونُ إلّا مَن المفضولِ للفاضِل، أمّا لو كانَ لآلِ إبراهيم الفضلُ على آلِ محمّدٍ فلا تستقيمُ حينَها الآية، فلو أنَّ اللهَ تعالى قالَ: لمَ تحسدونَ آلَ محمّدٍ على هذا الفضل، ونحنُ أعطينا مثلَه لآلِ إبراهيم؟، فيكونُ الجوابُ: لأنَّ آلَ إبراهيمَ يستحقّونَ ذلكَ لأنّهم أفضلُ مِن آلِ محمّد، وبالتالي لا تستقيمُ الحُجّةُ في الآية، إلّا بأفضليّةِ آلِ محمّدٍ على آلِ إبراهيم. 

أمّا السؤالُ الثاني حولَ التوسّلِ والاستغاثةِ وزيارةِ القبورِ وهل هيَ شركٌ أم لا؟

لابدَّ أوّلاً مِن تحديدِ ملاكِ ومناطِ العبادةِ حتّى يتبيّنَ ملاكُ ومناطُ ما هوَ شركٌ وما هوَ توحيدٌ، وذلكَ لأنَّ الوهابيّةَ قد اتّهموا كلَّ مَن يزورُ القبورَ ويتبرّكُ بها أو يتوسّلُ بالأنبياءِ والصالحينَ بالشّرك، والسببُ في ذلكَ اعتقادُهم بأنَّ مناطَ العبادةِ هوَ مُطلقُ الخضوعِ والتذلّلِ لغيرِ الله، فمَن يتوسّلُ أو يستغيثُ أو يتمسّحُ بقبرٍ يكونُ خاضعاً ومتذلّلاً لهُ وبالتالي يكونُ مُشرِكاً لأنّهُ عبدَ غيرَ اللهِ تعالى. ولكي يتّضحَ الخلطُ والجهلُ الذي ارتكبَه الوهابيُّة لا بدَّ مِن نقضِ ما تصوّروهُ مناطاً للعبادة.

 منَ الواضحِ أنّه لا يمكنُ شرعاً وعقلاً قبولُ كونِ العبادةِ هيَ مُطلقُ الخضوعِ والتذلّل، فلو صحَّ قولُهم لمَا توقّفَ الشركُ عندَ حدودِ زيارةِ القبورِ وإنّما لأصبحَت معظمُ أفعالِ المُسلمينَ اليوميّة نوعاً منَ الشرك، فنحنُ نرى كثيراً منَ الأمورِ التي يمارسُها الإنسانُ في حياتِه الطبيعيّةِ ومعَ ذلكَ يتخلّلُها الخضوعُ والتذلّل، مثلَ خضوعِ التلميذِ لأستاذِه، والزوجةِ لزوجِها، والجنديّ لقائدِه، ومعَ أنَّ الخضوعَ مُتحقّقٌ في جميعِ تلكَ الأمور إلّا أنّنا لم نسمَع بمَن جعلَ تلكَ الأفعالَ مِصداقاً للعبادةِ، وعليهِ لا يمكنُ أن يكونَ الخضوعُ وحدَه مناطاً لجعلِ الفعلِ عبادةً، وإلّا كيفَ نفهمُ أنَّ اللهَ أمرَ عبادَه بالخضوعِ والتذلّلِ للوالدين؟ حيثُ قالَ تعالى: (واخفِض لهُما جناحَ الذلِّ منَ الرحمة) والخفضُ كنايةٌ عن الخضوعِ الشديدِ، فإن كانَ الخضوعُ عبادةً لكانَ اللهُ أمرَنا بعبادةِ الوالدين وهذا محالٌ، وكذلكَ نجدُ أنَّ اللهَ أمرَ المؤمنَ بالتذلّلِ لأخيهِ المؤمنِ في قولِه تعالى: (فسوفَ يأتي اللهُ بقومٍ يحبُّهم ويحبّونَه أذلّةٍ على المؤمنينَ أعزّةٍ على الكافرين) فهل اللهُ أمرَ المؤمنينَ أن يعبدوا بعضَهم البعض؟

وهناكَ آياتٌ أكثرُ وضوحاً في هذا الأمر، وتنفي تماماً ما ادّعَته الوهابيّة، مِنها سجودُ الملائكةِ لآدم، والسجودُ هوَ أعلى مراتبِ الخضوعِ والتذلّل. قالَ تعالى: (وإذا قُلنا للملائكةِ اسجدوا لآدم)، فإذا كانَ السجودُ لغيرِ اللهِ سبحانَه وإظهارُ قمّةِ الخضوعِ والتذلّلِ عبادةً كما تدّعي الوهابيّةُ فيتحتّمُ عليها أن تُسمّي الملائكةَ ـ والعياذُ بالله ـ مُشركينَ كُفّاراً، وأن تُسمّي آدمَ طاغوتاً.

ومِن هذهِ الآيةِ نعرفُ أنَّ قمّةَ الخضوعِ ليسَت عبادةً، ولا يصحُّ اعتراضُ مَن يقولُ أنَّ السجودَ ليسَ بمعناه الحقيقي؛ لأنَّ ذلكَ خلافُ ظاهرِ الآيةِ الذي يدلُّ على أنَّ السجودَ هوَ الهيئةُ المُتعارفة، كما لا يمكنُ قبولُ زعمِ مَن يعتقدُ أنَّ السجودَ لم يكُن لآدمَ وإنّما كانَ آدمُ مُجرّدَ قِبلةٍ كما هوَ الحالُ بالنسبةِ للكعبةِ، فإنَّ ذلكَ أوّلاً: تأويلٌ بعيدٌ لا يدعمُه مصدرٌ ولا يسندُه دليل. وثانياً: لو كانَ آدمُ مُجرّدَ قِبلةٍ فلماذا اعترضَ إبليسُ ورفضَ السجودَ معَ أنَّ السجودَ لم يكُن لآدم؟ فقولُ إبليس الذي حكاهُ القرآنُ يؤكّدُ على أنَّ إبليسَ فهمَ أنَّ السجودَ كانَ لشخصِ آدم، ولذا قالَ: (أأسجدُ لمَن خلقتَ طيناً) وقالَ أيضاً: (أنا خيرٌ منه) أي أفضلُ منه، فتصوّرَ إبليسُ أنّهُ الأفضل ُوبالتالي لا يسجدُ الأفضلُ للمفضول، أمّا إذا كانَ آدمُ مُجرّدَ قبلةٍ للسجودِ فإنَّ ذلكَ لا يجعلُه أفضلَ ممَّن يسجدُ له، وهذا خلافُ ظاهرِ الآية، حيثُ قالَ تعالى على لسانِ إبليس: (أأسجدُ لمَن خلقتَ طيناً.. أرأيتَكَ هذا الذي كرّمتَ علي)

فرفضَ إبليسُ السجودَ لأنَّ السجودَ كانَ لشخصِ آدم، وبحسبِ فهمِ الوهابيّةِ فإنَّ إبليسَ فعلَ الصوابَ والعياذُ بالله، ولا يمكنُ تبريرُ ذلكَ بالقولِ أنَّ السجودَ كانَ بأمرٍ منَ اللهِ تعالى، ومَن يقولُ ذلكَ يعترفُ بأنَّ سجودَ الملائكةِ كانَ شِركاً ولكِن شركاً مأموراً به، وهذا كفرٌ باللهِ تعالى وذلكَ لقولِه: (قُل إنَّ اللهَ لا يأمرُ بالفحشاءِ أتقولونَ على اللهِ ما لا تعلمون)، فإن كانَ السجودُ بطبعِه شركاً فإنَّ أمرَ اللهِ لا يغيّرُ ماهيّتَه فيصبحُ الشركُ توحيداً، فمثلاً لو قُلنا أنَّ ماهيّةَ السبِّ والشتمِ هيَ (الإهانة)، فإذا أمرَنا اللهُ تعالى بسبِّ فرعونَ مثلاً، فهل يتحوّلُ سبُّنا مِن إهانةٍ إلى مدحٍ لأنَّ اللهَ أمرَ به؟ وعليهِ مَن يقولُ أنَّ السجودَ لغيرِ اللهِ شركٌ لا ينفعُه التستّرُ بأمرِ اللهِ تعالى، لأنَّ تعلّقَ الأمرِ الإلهيّ بالشركِ لا يصيّرُه توحيداً، وقد أخبرَنا القرآنُ أيضاً بسجودِ أخوةِ يوسفَ وأبيه، وهذا السجودُ لم يكُن بالأمرِ الإلهي، ولم يصِفه اللهُ سبحانَه بالشرك، ولم يتّهِم أخوةَ يوسف وأباهُ بذلك، قالَ تعالى: (.. رفعَ أبويهِ على العرشِ وخرّوا لهُ سُجّداً وقالَ يا أبتِ هذا تأويلُ رؤياي مِن قبلُ قد جعلَها ربّي حقّاً)

ويجبُ أن نُشيرَ هُنا إلى الفرقِ بينَ حُرمةِ السجودِ لغيرِ اللهِ تعالى، وبينَ اعتبارِه موجِباً للشركِ دائماً، فمثلاً إذا سجدَ ولدٌ لأبيهِ أو امرأةٌ لزوجِها ولم يكُن ذلكَ السجودُ بداعي الاعتقادِ بأنّهُ إلهٌ أو ربٌّ أو أنّه مُستقلٌّ في فعلٍ مِن أفعالِه عن اللهِ تعالى لا يصبحُ بذلكَ مُشرِكاً، ولكنّهُ يكونُ مُرتكِباً للحرامِ ومُخالِفاً للشّرع، والفرقُ بينَ الأمرينِ شاسعٌ جدّاً، وعليهِ يمكنُنا القولُ أنَّ مُجرّدَ الخضوعِ وإظهارِ التذلّلِ بنفسِه ليسَ عبادةً، وإنّما يجبُ أن يقترنَ هذا الخضوعُ بالاعتقادِ، ومِن هُنا لا يجوزُ رميُ المُسلمِ المُوحّدِ الذي يخضعُ ويتذلّلُ أمامَ قبورِ الأنبياءِ والأولياءِ بالشركِ لمُجرّدِ أنّهُ يُظهرُ الخضوعَ والتذلّلَ، فلو كانَ مُجرّدُ تعظيمِ القبرِ والتمسّح بهِ عبادةً لكانَ ما يفعلُه المُسلمونَ في الحجِّ مِن طوافٍ حولَ البيتِ الحرام والسعي بينَ الصفا والمروةِ وتقبيلِ الحجرِ الأسودِ عبادةً للطينِ والحجر؛ وذلكَ لأنَّ هذهِ الأعمالَ مِن حيثُ الشكلُ والظاهرُ لا تختلفُ عن الطوافِ بالقبرِ أو تقبيلِه أو التمسّحِ به، ورغمَ ذلكَ نجدُ اللهَ سبحانَه وتعالى يقولُ: (وليطوّفوا بالبيتِ العتيق)، وقالَ جلَّ شأنُه: (إنَّ الصفا والمروة مِن شعائرِ اللهِ فمَن حجَّ البيتَ أو اعتمرَ فلا جُناحَ عليهِ أن يطوّفَ بهما)، فهل الطوافُ بالحجرِ والطينِ عبادةٌ لها؟ ولا يمكنُ الاحتجاجُ بالأمرِ الإلهيّ كما بينّا سابقاً، لأنَّ أمرَ اللهِ لا يُغيّرُ ماهيّةَ الأشياء، فمُشكلةُ الوهابيّةِ أنّهم لم يفهموا العبادةَ ولم يعرفوا روحَها وحقيقتَها، ولذلكَ يتعاملونَ مع الظواهرِ والشكلِ فقط، فعندَما يرونَ ذلكَ الزائرَ يقبّلُ مقامَ رسولِ الله (ص) يذهبُ ذهنُهم إلى ذلكَ المُشركِ الذي يُقبّلُ صنمَه، فينتزعُ الحُكمُ مِن تلكَ الحالةِ الذهنيّةِ لينسبَها إلى ذلكَ المُوحّدِ الذي يقبّلُ مقامَ رسولِ الله (ص) وهذا هوَ الاشتباهُ، فلو كانَ مُجرّدُ الشكلِ الخارجيّ كافياً للحُكمِ لوجبَ عليهم أن يكفّروا كلَّ مَن يُقبّلُ الحجرَ الأسود، ولكنَّ الواقعَ غيرُ ذلك.. فتقبيلُ الحجرِ الأسودِ منَ المُسلمِ توحيدٌ خالصٌ، وتقبيلُ الصنمِ منَ الكافرِ شركٌ خالص.

وعليهِ فإنَّ العبادةَ هيَ الخضوعُ اللفظيُّ والعمليّ عن اعتقادٍ بألوهيّةِ المعبودِ أو ربوبيّتِه أو الاعتقادِ باستقلالِه في فعلِه أو بأنّهُ يملكُ شأناً مِن شؤونِ وجودِه وحياتِه على وجهِ الاستقلال.

فكلُّ عملٍ مصحوبٌ بهذا الاعتقادِ يُعدُّ شِركاً باللهِ، ولذلكَ نجدُ أنَّ مُشركي الجاهليّةِ كانوا يعتقدونَ بألوهيّةِ معبوداتِهم وقد صرّحَ القرآنُ بذلك، قالَ تعالى: (واتّخذوا مِن دونِ اللهِ آلهةً ليكونوا لهُم عزّاً) أي كانَ هؤلاءِ يعتقدونَ بألوهيّةِ معبوداتِهم، وقالَ تعالى: (الذينَ يجعلونَ معَ اللهِ إلهاً آخر فسوفَ يعلمون)، فهذهِ الآياتُ تردُّ الوهابيّةَ على أعقابِهم حيثُ تصرّحُ أنَّ الشركَ الذي كان يقعُ فيهِ الوثنيّونَ هوَ مِن بابِ اعتقادِهم بألوهيّةِ معبوداتِهم، وقد نصَّ اللهُ سُبحانَه على هذا الأمرِ في قولِه تعالى: (وأعرِض عن المُشركينَ إنّا كفيناكَ المُستهزئينَ الذينَ يجعلونَ معَ اللهِ إلهاً آخر فسوفَ يعلمون)، حيثُ حدّدَت الآيةُ الملاكَ الأساسيَّ في قضيّةِ الشرك، وهوَ الاعتقادُ بألوهيّةِ المعبود، ولذلكَ استنكروا واستكبروا على عقيدةِ التوحيدِ التي جاءَ بها الرّسول (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، قالَ تعالى: (إنّهم كانوا إذا قيلَ لهُم لا إلهَ إلّا الله يستكبرون)، وكانَت دعوةُ الأنبياءِ لهُم مُحاربة اعتقادِهم بإلهٍ غيرِ الله سبحانَه وتعالى، حيثُ يمتنعُ عقلاً عبادةُ مَن لا يعتقدُ بألوهيّتِه، فيعتقدُ أوّلاً ثمَّ يعبدُ ثانياً، قالَ تعالى: (يا قومِ اعبدوا اللهَ ما لكُم مِن إلهٍ غيره) فيبيّنُ القرآنُ الكريم بذلكَ انحرافَهم عن الإلهِ الحقيقي.

وهناكَ تفاصيلُ كثيرةٌ حولَ مناطِ التوحيدِ والشركِ يمكنُ الرجوعُ إليها في كتابِ التوحيدِ والشركِ للشيخِ جعفرٍ السبحاني.

أمّا الكلامُ عن هل التوسّلُ والاستغاثةُ بالأنبياءِ والصالحينَ حرامٌ أم لا؟ فقد جاءَت كثيرٌ منَ الأحاديثِ تؤكّدُ جوازَه، ونكتفي هُنا بذكرِ حديثِ عثمانَ بنِ حنيف، وقد جاءَ فيه: (إنَّ رجلاً ضريراً أتى على النبيّ (ص) فقالَ: ادعُ اللهَ أن يُعافِني، فقالَ إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ وهوَ خيرٌ، قالَ: فادعُ، فأمرَه أن يتوضّأ ويحسنَ وضوءَه ويصلّيَ ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهمَّ إنّي أسألُك وأتوجّهُ إليكَ بنبيّكَ محمّدٍ نبيّ الرّحمةِ، يا محمّدُ إنّي أتوجّهُ بكَ إلى ربّي في حاجتِي لتقضى، اللهمَّ شفّعهُ فيَّ. قالَ ابنُ حنيف: فواللهِ ما تفرّقنا وطالَ بنا الحديثُ حتّى دخلَ علينا كأن لم يكُن به ضرٌّ) وقد ناقشَ إسنادَ هذا الحديثِ الشيخُ جعفرٌ السّبحاني في كتابِه (معَ الوهابيّينَ في خططِهم وعقائدِهم) حيثُ قال: لا شكَّ في صحّةِ وسندِ الحديثِ هذا، حتّى أنَّ إمامَ الوهابيّةِ (ابنَ تيمية) قد اعترفَ بصحّةِ سندِه قائِلاً: إنَّ المقصودَ مِن اسمِ (أبو جعفر) الذي وردَ في سندِ الحديثِ هو أبو جعفرٌ الخطّي وهوَ موثّقٌ. ويقولُ الرّفاعي ـ الكاتبُ الوهابيُّ المُعاصر ـ الذي يسعى لتضعيفِ الأحاديثِ الخاصّةِ بالتوسّلِ: لا شكَّ أنَّ هذا الحديثَ صحيحٌ ومشهورٌ وقد ثبتَ فيه بلا شكٍّ ولا ريبٍ ارتدادُ بصرِ الأعمى بدعاءِ رسولِ الله، ويقولُ أيضاً في كتابِه التوصّل لقد أوردَ هذا الحديثَ النسائيُّ، البيهقيُّ، الطبرانيُّ، الترمذيُّ، والحاكِمُ في مُستدركِه، ولكِن أوردَ الترمذيُّ والحاكمُ جُملةَ (اللهمَّ شفّعني فيه) بدلاً مِن جُملةِ (وشفّعهُ فيَّ)، وكتبَ زيني دحلان في (خُلاصةِ الكلام) ذكرَ هذا الحديثِ معَ مُستنداتٍ صحيحةٍ كلٌّ منَ البُخاري في تاريخِه وابنُ ماجةَ والحاكمُ في مُستدركِهما، كما ذكرَه جلالُ الدينِ السيوطي في كتابِه الجامع

أمّا السؤالُ الأخيرُ عن طلبِ الشفاعةِ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السلام) فنقولُ على نحوِ الاختصارِ إنَّ الشفاعةَ بالأصلِ حقٌّ خاصٌّ باللهِ سُبحانَه، قالَ تعالى: (قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا)، وليسَ لغيرِه تعالى حقُّ الشفاعةِ إلّا بإذنٍ خاصٍّ مِنه، قالَ تعالى: (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغنِي شَفَاعَتُهُم شَيئًا إِلَّا مِن بَعدِ أَن يَأذَنَ اللَّـهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرضَى)، وقد ثبتَ أنَّ اللهَ أعطى النبيَّ الأكرمَ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) المقامَ المحمود، حيثُ قال: (عَسَىٰ أَن يَبعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحمُودًا)، والمقصودُ مِن هذا المقامِ كما بيّنَته الأحاديثُ هوَ مقامُ الشفاعةِ، وإذا ثبتَ ذلكَ جازَ للإنسانِ أن يقولَ يا رسولَ اللهِ اشفَع لي، ولا يكونُ ذلكَ شِركاً طالما لم يكُن هذا الطلبُ قائماً على الاعتقادِ بأنَّ الرسولَ مالكٌ لمقامِ الشفاعةِ بسُلطةٍ ذاتيّةٍ مُنفصلةٍ عن اللهِ تعالى، وعليهِ فإنَّ المعيارَ في كونِ طلبِ الشفاعةِ شركاً أو توحيداً هوَ الاعتقادُ في كونِه مالكاً لهذا المقامِ بإذنٍ مِن الله أو أنّهُ مالكٌ له بسُلطةٍ ذاتيّةٍ لا علاقةَ لها بأمرِ اللهِ وإرادتِه.