هل الحجابُ فريضةٌ أم موروث؟

الحجاب فريضة أم موروث؟.. مقال للرد على فكرة أن الحجاب موروث اجتماعي كما يزعم بعض المفكرين والحداثويين

الجواب :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : 

يبدو أنَّ كثيراً منَ الأوساطِ قرأت موضوعَ الحجابِ بوصفِه حالةً اجتماعيّة، والسببُ في ذلكَ أنَّ الثقافةَ المُجتمعيّةَ في نظرِهم هيَ العاملُ الحاسمُ في تحديدِ ما يلبسُه الرجالُ والنساء وليسَ الدين، ونحنُ بدورِنا لا يمكنُنا التنكّرُ على كونِ الموروثِ الثقافيّ هوَ العاملُ الأكثرُ تأثيراً في ذلك، فكلُّ أمّةٍ لها طريقتُها التي تميّزِها عن الأممِ الأخرى سواءٌ في ملبسِها أو مأكلِها أو مسكنِها، بل المجتمعُ هوَ الذي يفرضُ على الرجالِ ما يلبسونَه كما يفرضُ على النساء، ولا يمكنُ التمرّدُ على هذهِ السلطةِ المُجتمعيّةِ بحيثُ يستطيعُ الرّجلُ أن يلبسَ ملابسَ النساءِ أو تلبسَ المرأةُ ملابسَ الرجال، ومعَ ذلكَ فإنَّ الاعترافَ بهذهِ الحقيقةِ لا يتعارضُ معَ ضرورةِ سترِ المرأةِ لزينتِها ومفاتنِها، ومَن أنكرَ الحجابَ في الإسلامِ وقعَ ضحيّةَ المُغالطةِ التي صوّرَت ضرورةَ السترِ ونوعَ السترِ وكأنّهما قضيّةٌ واحدة، وهذهِ مغالطةٌ لأنَّ ضرورةَ السترِ لها علاقةٌ بالجانبِ الفِطري والديني بينَما نوعُ السترِ لهُ علاقةٌ بالجانبِ الحضاريّ والاجتماعي، ولكي يتّضحَ الأمرُ لابدَّ مِن مُناقشةِ كلِّ مسألةٍ بشكلٍ مُنفصلٍ عن الآخر.

أوّلاً ضرورةُ السّتر: إنَّ الكلامَ عن نوعِ اللباسِ وشكلِه يأتي بعدَ التسالمِ على أنَّ هناكَ عورةً يجبُ سترُها، وقد سعى الإنسانُ منذُ أن وُجِدَ على هذهِ الأرض إلى سترِ عورتِه، الأمرُ الذي يؤكّدُ على وجودِ دافعٍ فِطري لذلك، وإلّا مَن الذي هدى البشريّةَ وأرشدَها لسترِ عورتِها على امتدادِ التاريخ؟ 

ومِن هُنا يمكنُنا التأكيدُ على وجودِ دافعٍ عقليٍّ وفطري يوجبُ على الإنسانِ سترَ عورتِه، وتبقى هناكَ مساحةٌ للاختلافِ في تحديدِ المقدارِ الذي يجبُ سترُه بالنسبةِ للمرأةِ أو الرّجل، ومِن هذهِ الزاويةِ يأتي دورُ الدينِ لبيانِ حدودِ ذلك، لأنَّ الدافعَ العقليَّ والفطريَّ بعيداً عن أيّ اعتبارٍ آخر لا يتجاوزُ حدودَ المقدارِ المُتيقّنِ منَ العورة، ولذلكَ نجدُ المُجتمعاتِ البدائيّةَ اكتفَت فقَط بسترِ العورةِ المُغلّظةِ دونَ غيرِها، أمّا الدينُ وبوصفِه مشروعاً يستهدفُ جوانبَ مُتعدّدةً مِن حياةِ الإنسانِ مثلَ نزاهةِ المُجتمع وطهارتِه لابدَّ أن يكونَ لهُ نظرةٌ خاصّةٌ تُراعي مقوّماتِ ومعوّقاتِ ذلكَ المشروع، فهوَ لا ينظرُ لعورةِ المرأةِ بوصفِها سوءةً يجبُ سترُها، فهذا المقدارُ تكفّلَ بهِ الجانبُ الفِطريُّ والعقلي، وإنّما ينظرُ للمرأةِ بوصفِها أحدَ العناصرِ المُهمّةِ في مشروعِه الإنساني، ولذلكَ نجدُ أنَّ الإسلامَ ميّزَ أوّلاً ما بينَ عورةِ الرجلِ وعورةِ المرأة، ففي حينِ اكتفى بسترِ العورةِ المُغلّظةِ بالنسبةِ للرّجال، لم يكتفِ بذلكَ بالنسبةِ للنّساء، والسببُ في ذلكَ أنَّ جسمَ المرأةِ له خصوصيّةٌ أخرى وهيَ أنّهُ يُعدُّ زينةً في عيونِ الرجال، ومِن هُنا أمرَها الشارعُ بحجبِ جسمِها حفاظاً لها مِن نظراتِ الطّامعين، وحِفاظاً على طهارةِ المُجتمعِ وعِفّتِه، ومِن هذهِ الزاويةِ نتفهّمُ بحوثَ الإسلاميّينَ التي تدافعُ عن فلسفةِ الحجابِ وأهميّتِه بالنسبةِ لكرامةِ المرأةِ أوّلاً، وبالنسبةِ لأمنِ المُجتمعِ ثانياً.

 والناظرُ لآياتِ الحجابِ يجدُ أنّها لم تتحدَّث عن العورةِ وإنّما تحدّثَت عن الزينةِ، فسترُ العورةِ أمرٌ مفروغٌ منهُ عقليّاً وفطريّاً، ولذا منَ الطبيعيّ التركيزُ على حيثيّةٍ أخرى يراها الدينُ ضروريّةً ولا تلتفتُ لها الثقافةُ المُجتمعيّة، قالَ تعالى: (وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ)، وبذلكَ يكونُ الإسلامُ حرّمَ على المرأةِ إبداءَ زينتِها، وتدخّلَ الإسلامُ في تحديدِ ما يجبُ على المرأةِ تغطيتُه أمرٌ متوقّعٌ وضروريٌّ في نفسِ الوقت؛ لأنَّ إيكالَ ذلكَ للعُرفِ والثقافةِ المُجتمعيّة فيهِ ضياعٌ لكثيرٍ منَ القيمِ الأخلاقيّةِ التي يُراعيها الإسلامُ ويُهملُها العُرف، فالإسلامُ بوصفِه مشروعاً للإنسانِ لا يكتفي بالحياةِ التقليديّةِ القائمةِ على العاداتِ والتقاليد، وإنّما يعملُ على بناءِ الفردِ والمُجتمعِ بالشكلِ الذي تتحقّقُ معَه فلسفةُ خلقِ الإنسانِ ووجودِه في هذهِ الحياة. 

ومِن خلالِ ما تقدّمَ يتبيّنُ أنَّ وظيفةَ الإسلامِ مُنحصرةٌ في بيانِ المقدارِ الذي يتمُّ سترُه، أمّا كيفَ وبأيّ وسيلةٍ؟ وما هوَ شكلُ الحِجاب؟ فإنَّ الإسلامَ لم يتدخَّل في كلِّ ذلك.

ثانياً: إنَّ وظيفةَ العُرفِ والثقافةِ المُجتمعيّةِ هيَ تحديدُ نوعِ وشكلِ اللباسِ الذي تسترُ بهِ المرأةُ جسمَها، والإسلامُ لم يُنازِع في هذهِ الحقيقةِ فحَسب، وإنّما أوكلَ للعُرفِ في أكثرِ الأحيانِ تحديدَ موضوعاتِ الأحكامِ الشرعيّة، وبهذا تنكشفُ المُغالطةُ التي تسوّقُ للثقافةِ المُجتمعيّةِ بوصفِها المسؤولةَ عن تحديدِ لباسِ المرأةِ وليسَ الدين، وطبيعةُ المُغالطةِ هيَ الاعتمادُ على فكرةٍ صحيحةٍ ولكِن في غيرِ موردِها الصحيح، فالدينُ لم يُنازِع العُرفَ فيما يجبُ على المرأةِ أن تلبسَه وإنّما حدّدَ المساحةَ التي يجبُ أن تُغطّيها، وعليهِ فإنَّ المرأةَ في الإسلامِ حُرّةٌ تلبسُ ما تشاءُ ولكِن بشرطِ أن يُغطّي زينتَها وأن لا يكونَ لباسُها زينةً في حدِّ نفسِه، وهذا المقدارُ منَ التدخّلِ حقٌّ تكفلُه طبيعةُ القوانينِ لأيّ مُشرّعٍ، فإذا كانَ مِن حقِّ المُشرّعِ الفرنسيّ تشريعُ قانونٍ يمنعُ المرأةَ منَ الحجابِ لأنّهُ يتعارضُ معَ مشروعِها العِلماني، فكذلكَ مِن حقِّ الإسلامِ أن يُشرّعَ الحجابَ لأنّهُ يتكاملُ معَ مشروعِه الإسلامي، وكما أنَّ المُشرّعَ الفرنسي لم يكتفِ بما تفرضُه الثقافةُ المُجتمعيّة مِن مقدارِ ما يجبُ تغطيتُه، كذلكَ لم يكتفِ المُشرّعُ الإسلاميّ بالثقافةِ المُجتمعيّة في تحديدِ المقدارِ الذي يجبُ تغطيتُه. 

وفي المُحصّلةِ إنَّ الإجابةَ على السؤالِ هل الحجابُ فريضةٌ دينيّةٌ أم موروثٌ اجتماعي؟ لا يمكنُ الإجابةُ عنه بإثباتِ أحدِ الطرفينِ ونفي الآخر، وإنّما تحملُ الإجابةُ كِلا البُعدين، فشكلُ الحجابِ وكيفيّتُه موروثٌ اجتماعيّ، بينَما المقدارُ الذي يجبُ سترُه وتغطيتُه فريضةٌ دينيّة.