لماذا تحدث القرآن كثيرا عن بنى اسرائيل

"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لماذا تحدث القرآن كثيرا عن بنى اسرائيل . ولم يتحدث عن الامم السابقة بنفس القدر والأسهاب الذى تناول به القرآن بنى اسرائيل"

الجوابُ:

منَ المؤكّدِ أنَّ القرآنَ الكريم تناولَ قصصَ الأممِ التي سبقَت بني إسرائيل، مثلَ قومِ نوحٍ وعادٍ وثمود وصالحٍ ويونسَ ولوط وإبراهيم، لكنَّهُ منَ الواضحِ أنَّ الحكايةِ عن بني إسرائيل احتلَّت النصيبَ الأكبرَ مِن مُجمَلِ ما حكاهُ القرآنُ عن الأممِ السابقة، ويبدو أنَّ السببَ في ذلكَ هوَ تاريخُهم الحافلُ بالمواقفِ والأحداثِ معَ الأنبياءِ السابقين، فأكثرُ الأنبياءِ الذينَ تمَّ ذكرُهم في القرآنِ هُم مِن بني إسرائيل، وقد مثّلَت تلكَ المواقفُ والأحداثُ أفضلَ الصورِ لصراعِ الحقِّ معَ الباطل، ولذا فصّلَها القرآنُ لتكونَ عبرةً لأولي الألباب، قالَ تعالى: (لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِّأُولِي الأَلبَابِ).

 والمُتدبّرُ في قصصِ بني إسرائيل يجدُها ما زالَت ماثلةً إلى اليوم، حيثُ قدّمَ القرآنُ بني إسرائيل كمثالٍ لمُعظمِ المُجتمعاتِ البشريّة، فعالجَ مِن خلالِهم إشكاليّةَ الإنسانِ معَ الحقِّ مِن خلالِ سردِ قِصصِهم التي تُحاكي مُعظمَ الظروفِ الحياتيّةِ للإنسان، ومِن هُنا نجدُ أنَّ القرآنَ بيّنَ أكثرَ تعاليمِه وتوجيهاتِه مِن خلالِ صورٍ حسّيّةٍ جسّدَتها ممارساتٌ سلوكيّةٌ واقعيّة، فالقيمُ والمبادئُ والحياةُ الفاضلةُ التي أرادَها الإسلامُ لا يمكنُ تقديمُها كصورةٍ مثاليّةٍ مُنعزلةٍ عَن واقعِ الحياةِ الإنسانيّة، وإنّما يجبُ تقديمُها في صورٍ حيّةٍ تُحاكي مُعظمَ المُتغيّراتِ الحياتيّة، ولذا نجدُ مِن بينِ 114 سورةٍ هناكَ 85 سورةً ذُكرَ فيها اليهودُ والتوراة، وفي سورةِ البقرة وحدَها والتي يبلغُ عددُ آياتِها 286 آيةً جاءَ ذِكرُ اليهودِ في 110 آيةٍ مِن آياتِها، وجاءَ ذكرُ مُقابلةِ موسى وفرعون 20 مرّةً، وبالتالي الحضورُ الكبيرُ لبني إسرائيل في القرآنِ قد يكونُ بسببِ التجربةِ الواقعيّةِ لصراعِ الحقِّ معَ الباطِل، ومِن خلالِ تلكَ التجربةِ يبرزُ القرآنُ القيمَ والمبادئَ التي أرادَ الإسلامُ بيانَها. 

فاللهُ خصَّ بني إسرائيل بميراثِ الأنبياءِ وفضّلَهم على العالمين، قالَ تعالى: (وَلَقَد آَتَينَا بَنِي إِسرَائِيلَ الكِتَابَ وَالحُكمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى العَالَمِينَ)، حيثُ يعودُ نسبُهم إلى يعقوبَ بنِ إسحاق بنِ إبراهيم (عليهم السلام) أبو الأنبياء، قالَ تعالى حكايةً عَن إبراهيم: (وَوَهَبنَا لَهُ إِسحَاقَ وَيَعقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلنَا صَالِحِينَ).

فلم يكونوا مُجرّدَ أمّةٍ منَ الأممِ التي مضَت في التاريخ، حيثُ خصّهم اللهُ بما لم يخُصَّ بهِ غيرَهم، ففيهم بُعثَ الأنبياءُ وإليهم نزلَت كُتبُ السماء، قالَ تعالى: (وَإِذ قَالَ مُوسَىٰ لِقَومِهِ يَا قَومِ اذكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ جَعَلَ فِيكُم أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَم يُؤتِ أَحَدًا مِّنَ العَالَمِينَ) ومِنَ المُفترضِ على بني إسرائيل تحمّلُ المسؤوليّةِ وحفظُ هذا الإرثِ وصيانتُه.

 وقد نبّهَهم اللهُ كثيراً على هذا الفضلِ وما خصّهم بهِ منَ النّعم، قالَ تعالى: (يَا بَنِي إِسرَائِيلَ اذكُرُوا نِعمَتِيَ الَّتِي أَنعَمتُ عَلَيكُم وَأَنِّي فَضَّلتُكُم عَلَى العَالَمِينَ) حيثُ أكّدَت الآيةُ على أنَّ بني إسرائيل كانَ لهُم منَ المُميّزاتِ ما تُفضّلُهم على بقيّةِ الأممِ والمُجتمعات في تلكَ الفترةِ التاريخيّة، ومنَ الواضحِ أنَّ كلمةَ عالمين في الآيةِ لا تعني أفضليّتَهم على جميعِ البشريّةِ منذُ آدمَ إلى قيامِ يومِ الدين، وإنّما كانَ ذلكَ بالمُقارنةِ معَ مَن كانَ مَعَهم في تلكَ الفترةِ التاريخيّة، وما يؤكّدُ ذلكَ قولهُ تعالى: (وَلَقَدِ اختَرنَاهُم عَلَىٰ عِلمٍ عَلَى العَالَمِينَ) فاختيارُهم لا يكونُ إلّا بمُقارنتِهم معَ مَن هُم معَهم، أي أنَّ الخيارَ وقعَ عليهم مِن بينِ المجموعاتِ البشريّةِ الأخرى، وقد نجدُ هذه الإشارةَ أيضاً في قولِه تعالى: (وَنَجَّينَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرضِ الَّتِي بَارَكنَا فِيهَا لِلعَالَمِينَ) أي أنَّ اللهَ جعلَها مُباركةً لهذهِ المجموعةِ التي هاجرَت إليها.

وفي المُحصّلةِ إنَّ الحضورَ المُكثّفَ لبني إسرائيل في القرآنِ الكريم مثّلَ نموذجاً عمليّاً لصراعِ الحقِّ والباطل، والمُتدبّرُ في قصصِ بني إسرائيل يجدُها نماذجَ حيّةً لجميعِ أسبابِ الانحرافِ عن خطِّ الأنبياء، وما يُؤسَفُ له أنَّ الأمّةَ الإسلاميّةَ لم تتّعِظ ممّا وقعَ على بني إسرائيل، وقد أشارَ الرسولُ الكريم (صلّى اللهُ عليهِ وآله) إلى ذلكَ بقولِه: (لتتبعنَّ سُننَ مَن كانَ قبلَكم شِبراً بشبر وذراعاً بذراع حتّى لو دخلوا جُحرَ ضبٍّ لتبعتموه، قُلنا يا رسولَ اللهِ اليهودُ والنّصارى قالَ: فمَن؟)، ووجهُ التشابهِ بينَ الأمّةِ الإسلاميّةِ وبني إسرائيل هوَ أنَّ اللهَ قد خصّهُما بالكتابِ والحِكمةِ والنبوّة، ومِن هُنا كانَ واجباً على الأمّةِ الإسلاميّةِ الاستفادةُ مِن تجربةِ بني إسرائيل وأن لا تقعَ فيما وقعوا فيه، وقد حذّرَ القرآنُ بشكلٍ واضحٍ مِن ذلكَ في قولِه تعالى: (وَلَقَد آَتَينَا بَنِي إسرائيل الكِتَابَ وَالحُكمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى العَالَمِينَ * وَآَتَينَاهُم بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمرِ فَمَا اختَلَفُوا إِلَّا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُمُ العِلمُ بَغيًا بَينَهُم أن رَبَّكَ يَقضِي بَينَهُم يَومَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمرِ فَاتَّبِعهَا وَلَا تَتَّبِع أَهوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعلَمُونَ * إِنَّهُم لَن يُغنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ)

ومعَ ذلكَ فإنَّ الذي وقعَ مِن انحرافٍ بعدَ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) كانَ بسببِ عدمِ الاستفادةِ مِن تجربةِ بني إسرائيل، فمنذُ اليومِ الأوّلِ لانتقالِ الرسولِ إلى الرّفيقِ الأعلى، تمرّدَت الأمّةُ على خليفتِه كما تمرّدَت بنو إسرائيلَ على هارون بعدَ غيابِ موسى، وعندَما قالَ رسولُ اللهِ لعليٍّ (أنتَ منّي بمنزلةِ هارونَ مِن موسى) لم يقُلها لمُجرّدِ الحكايةِ العابرة، وإنّما أرادَ التأكيدَ على مدى التشابهِ في سلوكِ الأمم، فتراجعَت الأمّةُ الإسلاميّةُ وانخرطَت في صفِّ الطّغيانِ والأنظمةِ الجائرة، وتركَت بذلكَ أولياءَ اللهِ وحزبَهم الذينَ أمِرنا بالسيرِ في خطِّهم، فلو استفادَت الأمّةُ مِن تجربةِ بني إسرائيل وسلّمَت للحقِّ لَما وقفَت معَ معاويةَ في وجهِ الإمامِ عليّ (عليهِ السلام)، وما وقفَت معَ يزيد في وجهِ الإمامِ الحُسين (عليهِ السلام)، ولمَا حصلَ في الأمّةِ ما حصلَ مِن فُرقةٍ واختلافٍ ومذاهبَ وطوائف.