اطلالة على حديث: « إنّ الأعمال تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبرارها وفجارها »
إنَّ الشريعة الإسلامية ضمّتْ تحتَ جوانحِها عدّةَ حقائق, وأعظمُ تلك الحقائقِ الرقابةُ الإلهية والإعتقاد بيوم الجزاء، وهاتان الحقيقتان تعدّان الأساس الروحي والمعنوي لكلِّ متمسّك بالأخلاق والقيّم الإنسانية وبدونهما تفرغ تلك القيّم والسلوك الخلقي من محتواها الجوهري فتكونان مجرد مفردات ميّتة لا معنى لها ولا حيوية فيها ولا حركة.
ونلاحظ أنّ القرآن الكريم في عدّة مواضع يُذكِّر الإنسان بأنّ الله عزّ وجلّ رقيبٌ حسيبٌ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء:1] وقال تقدست أسماؤه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52].
فهذه الآيات الكريمة تشكل دافعاً لدى الإنسان ومحفّزاً له على إصلاح ما فسد من سلوكه وعمله ومراقبة نفسه وما يصدر عنها فيقوى على كبح جماح مشتهياتها ومخالفة أهوائها؛ لعلمه بأنّه تحت رقابة إلآهية وانّه سيُجازى على كلِّ صغيرة وكبيرةٍ, إنْ حسنة فحسة وإنْ سيئة فسيئة.
إنّ أي مشروع ما لم يتمْ تحتَ رقابةٍ مشددة فمآلَه الفشل, فالتهديد والوعيد بالطرد من العمل أو خصم نسبة معينة من الأجور يدفع العامل إلى بذل قصارى الجهد في إتمام وإنجاز عمله على أكمل وجه وبالصورة التي يتمّ بها قبوله ويستحق عليه الأجرة, بل يرتقي الأمر إلى التطلع لنيل مكافئة سواء كانت مادية أو معنوية.
ومن جملة الآيات التي لها الأثر النفسي المحفّزِ والباعث على توخي أداء الواجبات وإتقان العمل - كائناً ما كان دنيوياً أو أخروياً – ومراقبته والإتيان به على الوجه الأكمل, قوله تقدست اسماؤه: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105].
يقول السيد الطباطبائي في الميزان: «فالآية مسوقة لندب الناس إلى مراقبة أعمالهم بتذكيرهم أنَّ لأعمالهم من خير أو شر حقائق غير مستورة بستر، وأنَّ لها رقباء شهداء سيطّلعون عليها ويرون حقائقها وهم رسول الله وشهداء الأعمال من المؤمنين والله من ورائِهم محيطٌ فهو تعالى يراها وهم يرونها ، ثم إنّ الله سبحانه سيكشفُ عنها الغطاء يوم القيامة للعاملين أنفسهم كما قال: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [قـ: 22] ففرق عظيم بين أن يأتي الإنسان بعمل في الخلوة لا يطلع عليه أحد، وبين أن يعمل ذلك العمل بعينه بين ملا من الناظرين جلوة وهو يرى أنه كذلك».
والأخبار الواردة في خصوص عرض أعمال العباد على رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وعلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مستفيضة بل ربما بلغت حدّ التواتر مع مطابقتها لنص القرآن الكريم, قال الشيخ هادي النجفي في كتابه (ألف حديث في المؤمن) ص232: «الروايات في هذا المجال كثيرة ومتواترة، وتدل على أنّ أعمال جميع العباد تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله), وأمير المؤمنين (عليه السلام) والحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام) واحدا بعد واحد إلى إمام العصر وناموس الدهر الحجة بن الحسن العسكري عجّل الله تعالى فرجه الشريف...».
ونحن ذاكرون فيما يلي الأخبار التي نصتْ على عرض أعمال العباد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) , وهي كالآتي:
روى ثقة الإسلام الشيخ الكليني في الكافي (ج1/ص220ح3) بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مالكم تسوؤن رسول الله صلى الله عليه وآله؟! فقال رجلٌ: كيف نسوؤه؟ فقال: أما تعلمون أنّ أعمالكم تُعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤا رسول الله وسروه»، قال العلامة المجلسي في مرآة الكمال (ج3/ ص5): « حسن موثق».
وبسنده عن الوشاء, قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: «إنَّ الأعمال تُعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبرارها وفجارها»، وقال العلامة المجلسي – أيضاً - في المرآة، (ج3/ص6): «صحيح».
وفيه أيضاً (ج1 / 219 ح 2) بسنده عن يعقوب بن شعيب قال: «سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: {اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} قال: هم الأئمة».
قال الشيخ هادي النجفي في الموسوعة (ج7 /ص137): «الرواية صحيحة الاسناد».
وروي في بصائر الدرجات (427 ح 2) عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أديم بن الحر، عن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: {اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} قال: «هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) تعرض عليهم أعمال العباد كل خميس», والرواية معتبرة الاسناد (انظر: موسوعة أحاديث أهل البيت, ج7/ص140).
وفيه – أيضاّ – (430 ح 7) عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن الحسين، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأعمال تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: «ما فيه شك, ثم تلا هذه الآية قال: (اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) قال: إنَّ لله شهداء في أرضه»، والرواية صحيحة الإسناد، (انظر: موسوعة أحاديث أهل البيت ج7/ 141).
وهذا ليس مذهب الشيعة فحسب بل كذلك هو مذهب أهل السنة فمن جملة ما استدلوا به حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: «حياتي خيرٌ لكم تحدثون ويحدث لكم ومماتي خيرٌ لكم تُعرضُ عليّ أعمالُكم فما رأيت من خير حمدت الله وإنْ يكن سوى ذلك استغفرت لكم»، وهذا الحديث سنده صحيح ولا مطعن فيه ولا مغمز, وقد ورد في نحو عشرين طريقاً:
قال الحافظ العراقي في كتاب الجنائز (التثريب في شرح التقريب) إسناده جيد.
وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد, والمحدّث القسطلاني في شرح البخاري: رجاله رجال الصحيح.
وقال الحافظ السيوطي في (المعجزات والخصائص) الحاوي: إسناده صحيح.
وأورده ابن النجار في تاريخ بغداد, وأبو نعيم في الحلية.
وموجود أيضاً في: طبقات ابن مسعد، ومسند البزار، ومسند الحارث، وبغية الباحث، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والخصائص الكبرى الثلاثة (للحافظ السيوطي، وشرح البخاري للقسطلاني، وكنز العمال للمتقي الهندي).
فاتضح من جميع ما تقدّم بما لا يترك مجالاً للشك أنَّ أعمال جميع العباد تُعرضُ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الأمر الذي يلزم العبد بمراعاة أعماله الصادرة عنه بحق نفسه وبحق غيره وأنْ يحسب لكلّ حركة يقوم بها ألف حساب, مثل التكلّم والنظر وأمثال ذلك, يقول الحق تعالى: {إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران : 29].
اترك تعليق