كيفَ يميّزُ الإنسانُ البسيطُ أنَّ ما يقولُه المجتهدُ هوَ صحيح مطابقٌ للشريعةِ والسنّةِ والقرآنِ ؟

كيفَ يميّزُ الإنسانُ البسيطُ أنَّ ما يقولُه المجتهدُ هوَ مطابقٌ للشريعةِ والسنّةِ والقرآنِ لكي يستطيعَ التمييزَ بينَ المذمومِ والممدوح ولا يساقُ مثلَ القطيعِ حسبَ رغبةِ المُجتهدِ وليس حسبَ رغبةِ الدينِ؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :   

كلُّ مكلّفٍ مطالبٌ بتحصيلِ العلم بما أوجبَ اللهُ عليهِ مِن عباداتٍ ومعاملات، ولا يُعذرُ الجاهلُ إذا كانَت أعمالهُ على خلافِ ما أرادَ اللهُ تعالى، وعليهِ فالعملُ وفقَ الأحكامِ الشرعيّةِ مسؤوليّةُ الإنسانِ العاقلِ البالغ، وليسَ مِن حقِّه أن يُحمّلَ غيرَه مسؤوليّةَ جهلِه، وما يؤسفُ لهُ أنَّ البعضَ يتهجّمُ على العلماءِ والمرجعيّاتِ الدينيّة ويحمّلهم مسؤوليّةَ ما يعانيهِ المُجتمعُ مِن جهلٍ وانحراف، معَ أنَّ العلماءَ لا يمتلكونَ السلطةَ التي يتحوّلُ معها الناسُ مِن جهلاء إلى عُلماء ومِن مُنحرفينَ إلى مُتديّنينَ، وكلُّ ما في قُدرتِهم هوَ توضيحُ أحكامِ الدينِ عبرَ الخطابةِ والتدريسِ أو الكتابةِ والتأليف.  

فعندَما يتحدّثُ السائلُ عن الإنسانِ البسيطِ يتحدّثُ عنه وكأنّهُ غيرُ مسؤولٍ عن البساطةِ التي ارتضاها لنفسِه، فيسألُ كيفَ لهذا البسيطِ أن يُميّزَ بينَ الأحكامِ وكيفَ يطمئنُّ بأنّها مطابقةٌ للقرآنِ والسنّة، وكأنّما يبحثُ عن جهةٍ ليُحمّلها مسؤوليّةَ جهلِه ومسكنتِه، في حينِ أنَّ الإجابةَ الطبيعيّةَ هيَ أن يذهب هذا البسيطُ ويتعلّم حتّى لا يكونَ بسيطاً وساذجاً، فلا سبيلَ أمامَه غيرَ التعلّمِ والوصولِ إلى مرتبةِ الاطمئنانِ بأنَّ أعمالهُ موافقةٌ لِما أرادَه اللهُ ورسوله، وإن قبلَ بجهلِه وبساطتِه وكانَت أعمالهُ بخلافِ ما عليهِ أهلُ العلم فهوَ غيرُ معذورٍ ويتحمّلُ لوحدِه مسؤوليّةَ ذلكَ يومَ القيامة، إلّا أنَّ السائلَ يهملُ هذهِ الحقيقةَ الواضحةَ ليقومَ بالتبريرِ لجهلِ الجاهلِ مِن خلالِ إدانةِ المؤسّسةِ الدينيّةِ والمرجعيّاتِ الفقهيّة، مُتّهماً إيّاها أنّها تسوقُ الناسَ كالقطيعِ بحسبِ رغبةِ المُجتهدِ لا بحسبِ رغبةِ الدين، ويكشفُ هذا الأمرُ عن توجّهٍ مُسبقٍ للسائلِ ورؤيةٍ سلبيّةٍ نحوَ العلمِ والعلماء، فبدلَ أن يُقدّمَ حلّاً لجهلِ المُجتمعِ يقومُ بضربِ ما تبقّى في هذا المجتمعِ مِن مناراتٍ للعلمِ والعُلماء، فسؤالهُ لا ينمُّ عن حرصٍ حقيقيٍّ بحالِ هؤلاءِ البُسطاء، وإنّما يكشفُ عن توجّهٍ نسمعُ بهِ هُنا وهُناك.   

 فمَن إرتضى لنفسِه أن يكونَ قطيعاً لغيرِه لا يلومنَّ إلّا نفسَه، ومَن قبلَ بالاستضعافِ والمسكنةِ ضاعَ حظُّه في الدّنيا والآخرة، قالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم ۖ قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأَرضِ ۚ قَالُوا أَلَم تَكُن أَرضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَت مَصِيرًا) فظلموا أنفسَهم بقبولِهم الاستضعافَ معَ أنَّ الحلَّ كانَ في أيديهم، فمُجرّدُ أنّهم استضعفوا مِن غيرِهم ليسَ كافياً لمعذرتِهم.  

ومنَ المُفيدِ الإشارةُ إلى أنَّ تقليدَ العُلماءِ واتّباعَهم لمعرفةِ أحكامِ اللهِ يعدُّ باباً من أبوابِ العلمِ والمعرفة، لأنَّ الرجوعَ إلى أهلِ الخبرةِ والاختصاصِ يُحقّقُ درجةً مِن درجاتِ العلمِ والتعلّم، ولجهلِ البعضِ بهذهِ الحقيقة نجدُهم يجعلونَ كلَّ التقليدِ مرتبةً مِن مراتبِ الجهل، ولو صحَّ كلامُهم لما سلمَ إنسانٌ في هذا الوجودِ منَ الجهل، فالمُجتمعُ الإنسانيُّ بطبيعتِه يُقلّدُ بعضَه البعض، فالعالمُ الذي يُقلّدُه ويرجعُ إليه مجموعةٌ منَ الناس هوَ ذاتُه يُقلّدُ غيرَه مِن أصحابِ التخصّصاتِ الأخرى، ولا وجودَ لإنسانٍ يعلمُ بكلِّ التخصّصاتِ، فالعلمُ إمّا أن يكونَ على نحوِ التّفصيل، وإمّا يكونُ على نحوِ الإجمالِ والعموم، والأوّلُ يتحقّقُ بالدراسةِ التفصيليّة والتخصّص، والثاني يتحقّقُ بالتقليدِ والاتباع، وفي كثيرٍ مِن شؤونِ الحياةِ يحتاجُ الإنسانُ إلى العلمِ المُجمل، فمثلاً لا يحتاجُ الجميعُ أن يعلموا تفصيلاً أنواعَ الأمراضِ والفيروساتِ التي تُسبّبُه والدواءَ الذي يشفي منه، وإنّما يكفيهم مُجرّدُ العلمِ بضرورةِ الرّجوعِ إلى المُختصِّ، والدافعُ إلى هذا الرجوعِ هوَ العلمُ وليسَ الجهل؛ لأنَّ الجاهلَ مغرورٌ بجهلِه، والمريضُ عندَما يرجعُ إلى الطبيبِ يتعلّمُ منهُ كيفَ يتغلّبُ على مرضِه، وهكذا الحالُ بالنسبةِ للأحكام، فجميعُ المسلمينَ يعلمونَ بأنَّ أحكامَ اللهِ موجودةٌ في الكتابِ والسُنّة، وهُم بينَ خيارينِ إمّا أن يتعلّموا تلكَ الأحكامَ على نحوِ التفصيلِ فيكونوا بذلكَ عُلماءَ ومُجتهدينَ، وإمّا أن يتعلّموها على نحوِ الإجمالِ بأن يرجعوا إلى المُجتهدينَ حتّى يعلموا منهم كيفَ يُصلّوا وكيفَ يصوموا وغيرِ ذلكَ منَ الأحكام، فالمُقلّدُ يتعلّمُ وظيفتَه الشرعيّةَ منَ المُجتهد، ولا يكونُ ذلكَ إلّا إذا حصلَ للمُقلّدِ العلمُ المُجملُ بسلامةِ هذه الأحكام، ولذا هناكَ شروطٌ لصحّةِ التقليدِ كما أنَّ هناكَ شروطاً لصحّةِ الاجتهاد، فللعلمِ التفصيلي شروطهُ وللعلمِ الإجماليّ شروطهُ أيضاً،  وهذهِ الشروطُ تعارفَ عليها العقلاءُ لتحصيلِ الاطمئنانِ واليقين، أي أنَّ ما يتعلّمُه الإنسانُ على نحوِ الإجمالِ لا بدَّ أن يكونَ موافِقاً في الجُملةِ للأسسِ التي قامَ عليها هذا العلمُ، فكما لا يمكنُ أن يرجعَ المريضُ للطبيبِ ما لم يعلَم إجمالاً بأنَّ هذا الطبيبَ عالمٌ ومأمونٌ في علمِه، كذلكَ لا يجوزُ للمُكلّفِ الرجوعُ للمُجتهدِ ما لم يكُن واثقاً ومطمئنّاً بأنَّ المُجتهدَ عالمٌ ومأمونٌ في علمِه.

وفي المُحصّلةِ ليسَ أمامَ المُكلّفِ خيارٌ غيرَ التعلّمِ سواءٌ كانَ تعليماً على نحوِ التخصّصِ والاجتهادِ، أو كانَ تعلّماً على نحوِ التعرّفِ على الوظيفةِ الشرعيّة، وليسَ مِن حقِّه أن يكونَ مُجرّدَ تابعٍ كالقطيعِ، بل لابدَّ أن يكونَ بصيراً بأمرِه واثقاً في عملِه ومطمئنّاً لصحّةِ أحكامِه وعباداتِه، وهذا ما يُنادي به المراجعُ والفقهاء.