ما حقيقةُ تشيّعِ ابنِ صلاحِ الدينِ الأيّوبي؟
السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه،
الملكُ الأفضلُ هوَ نورُ الدينِ أبو الحسنِ عليٌّ بنُ صلاحِ الدينِ يوسفُ بنُ أيّوبَ الكرديّ الأيوبيّ، المولودُ بالقاهرةِ سنةَ (565هـ)، والمتوفّى بسميساط سنةَ (622هـ)، كانَ أكبرَ ولدِ أبيه، وإليهِ كانَت ولايةُ عهدِه، ولمّا ماتَ أبوهُ كانَ معَه بدمشقَ فاستقلّ بسلطنتِها، واستقلّ أخوهُ الملكُ العزيزُ بمصر، وأخوهُما الظاهرُ بحلب.
وقد كانَ له عمٌّ اسمُه أبو بكر بنُ أيوب، ذو رأيٍ سديدٍ ومكرٍ شديد وخديعةٍ، قالَ ابنُ الأثيرِ في [الكاملِ في التاريخ ج12 ص351]: « لم يملِك الأفضلُ مملكةً قط إلّا وأخذَها منهُ عمُّه العادل، فأوّلُ ذلكَ أنّ صلاحَ الدين أعطى ابنَه الأفضلَ حرّانَ والرّها وميافارقين سنةَ ستٍّ وثمانين، بعدَ وفاةِ تقيّ الدين، فسارَ إليها، فلمّا وصلَ إلى حلب أرسلَ أبوهُ الملكُ العادل بعدَه، فردَّه مِن حلب وأخذَ هذهِ البلادَ منه، ثمَّ ملكَ الأفضلُ بعدَ وفاةِ أبيه مدينةَ دمشق فأخذَها منه، ثمّ ملكَ مصرَ بعدَ وفاةِ أخيهِ الملكِ العزيز فأخذَها أيضاً منه، ثمّ ملكَ صرخد فأخذَها منه ».
وكانَ مِن شعرِه في عمِّه:
ذي سُنّةٍ بينَ الأنامِ قديمة * أبداً أبو بكرٍ يجورُ على عليّ
ومعنى البيتِ واضحٌ، فإنّه يعني بهِ أنّ جورَ عمِّه أبي بكرٍ عليه ليسَت جديدة، بل هيَ سُنّةٌ قديمة، فقد جارَ مِن قبل أبو بكرٍ ابنُ أبي قحافة على أميرِ المؤمنينَ عليٍّ بنِ أبي طالب (عليهِ السلام)، وفي هذا البيتِ إشارةٌ واضحةٌ إلى اعتقادِه بغصبِ الأوّلِ الخلافةَ من صاحبِها الشرعيّ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام).
ومِن شعرِه الذي كتبَه إلى الناصرِ العبّاسيّ أحمد الشيعيّ الإماميّ، مُستنصِراً منه وشاكياً إليه عمّه أبا بكر وأخاهُ عثمان اللذينِ أخذا منهُ دمشق:
مولايَ إنّ أبا بكرٍ وصاحبَه * عثمانَ قد غصبا بالسيفِ حقَّ علي
وهو الذي كانَ قد ولّاهُ والدُه * عليهما فاستقامَ الأمرُ حينَ ولي
فخالفاهُ وحلّا عقدَ بيعتِهِ * والأمرُ بينَهما والنصُّ فيه جلي
فانظُر إلى حظِّ هذا الاسمِ كيفَ لقي * منَ الأواخرِ ما لاقى منَ الأوّل
يعني بهذهِ الأبياتِ أنّ عمّه أبا بكرٍ وأخاهُ عثمان قد غصبا بالسّيفِ حقّه حيثُ أمّرَه أبوهُ عليهما وجعلَ ولايةَ العهدِ إليه، لكنَّهما خالفا أباهُ ونكثا البيعةَ معَ إقرارِهما بذلكَ في الأمسِ، وهذا حظُّ مَن اسمُه (علي) إذ لقيتُ أنا مِن أبي بكرٍ وعُثمان كما لقيَ عليٌّ بنُ أبي طالب (عليهِ السّلام) منَ الغاصبينَ أبي بكرٍ بنِ أبي قُحافة وعثمان.
ثمّ جاءه جوابُ الناصرِ العبّاسيّ:
وافى كتابُك ـ يا ابنَ يوسف ـ مُعلِناً * بالودِّ يخبرُ أنّ أصلكَ طاهرُ
غصبوا عليّاً حقَّه إذ لم يكُن * بعدَ النبيّ له بيثربَ ناصرُ
فأبشِر فإنَّ غداً عليهِ حسابُهم * واصِبر فناصرُك الإمامُ الناصرُ
أقولُ: وهذهِ الأبياتُ معروفةٌ، قالَ السيّدُ الأمينُ في [أعيانِ الشيعة ج2 ص507]: « وهيَ مشهورةٌ رواها عامّة المؤرّخينَ معَ جوابِها »، كما نقلها أيضاً أربابُ التراجمِ والأدب، وهذه بعضُ المصادرِ: ابنُ خلّكانَ في [وفيّاتِ الأعيان ج3 ص421]، وابنُ العبري في [تاريخِ مُختصرِ الدولِ ص337]، وأبي الفداءِ في [المُختصرِ في أخبارِ البشر ج3 ص92]، والحافظُ الذهبي في [تاريخِ الإسلامِ ج45 ص124]، والصّفديُّ في [الوافي بالوفيّات ج22 ص215]، واليافعيُّ في [مرآةِ الجنان ج4 ص42]، وابنُ كثيرٍ في [البدايةِ والنهايةِ ج13 ص127]، والقلقشنديّ في [صبحِ الأعشى ج4 ص172]، والأتابكيّ في [النجومِ الزّاهرة ج6 ص262]، والنويريّ في [نهايةِ الأرب ج29 ص133]، والفاسّي في [العقدِ الثمين ج5 ص320]، واسفنديار في [تاريخِ طبرستان ص431]، وابنُ حجّةَ الحموي في [ثمراتِ الأوراق ص25]، وسبطُ ابنُ العجميّ في [كنوزِ الذهب ج1 ص118]، وابنُ أبي مخرمة في [قلادةِ النحر ج5 ص108]، وغيرُهم.
وهذه الأبياتُ واضحةُ الدلالةِ على اعتقادِ القائلِ ببطلانِ خلافةِ الأوّلينَ الذينَ سلبوا حقّ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السّلام)، ونقلَ بهاءُ الدينِ اسفنديار في [تاريخِ طبرستان ص431] بيتينِ إضافيّينِ هكذا:
مولايَ إنّ أبا بكرٍ وصاحبَه * عثمان قد غصبا بالسيّفِ حقَّ علي
فانظُر إلى حظِّ هذا الاسمِ كيفَ لقى * منَ الأواخرِ ما لاقى منَ الأوّل
مولاي إنّ أبا بكرٍ تهضّمني * وهل يُرجّى أبو بكرٍ لإنصاف؟
اسمٌ تكدّر قدماً أيمّا كدرٍ * ومَن رأى كدراً أجرى على الصافي
ثم إنّ جملةً مِن عُلماءِ المُخالفينَ صرّحوا بتشيّعِه، كالحافظِ الذهبيّ إذ قالَ [العبر ج5 ص91]: « وكانَ فيهِ تشيّعٌ »، وقالَ في [سيرِ أعلامِ النّبلاء ج21 ص295]: « وفيهِ تشيّعٌ بلا رفض »، وقالَ في [تاريخِ الإسلامِ ج45 ص124]: « وقيلَ: كانَ فيهِ تشيّعٌ »، وقالَ القلقشنديّ في [صبحِ الأعشى ج6 ص296]: « كتبَ إلى الناصرِ لدينِ اللَّه يستجيشُه عليهما كتاباً يشيرُ فيه إلى ما تعتقدُه الشّيعةُ مِن أنّ الحقَّ في الخلافةِ كان لعليٍّ، وأن أبا بكرٍ وعثمان رضيَ اللَّهُ عنهما، تقدّما عليه، إذ كانَ الناصرُ يميلُ إلى التشيّع »، وذكرَ محمّد أمين المحبي في [نفحةِ الريحانة ج5 ص160] أنّ هذا مشربُ التشيّع، وقالَ بهاءُ الدينِ اسفنديار في [تاريخ طبرستان ص431]: « كانَ يدعو لتبعيّةِ الولايةِ المُقدّسةِ النبويّة والحضرةِ الإماميّة ».
كما صرّحَ جماعةٌ مِن عُلمائِنا بتشيّعهِ، كالسّيدِ التستري في [مجالسِ المؤمنين ج3 ص368] إذ قاَل: « وكانَ نورُ الدينِ مشهوراً بينَ أقرانِه، ومعروفاً بينَ أخدانِه بطلاقةِ اللسانِ وفصاحةِ البيان، ولهُ الامتيازُ والتقديمُ عليهم، من ذلكَ هذهِ العباراتُ الجميلةُ التي تدلُّ على منطقِه الفصيحِ واعتقادِه الصحيح، والتي بعثَها إلى الناصرِ يشكو بها عمّه أبا بكرٍ وأخاهُ عثمان.. »، ثمَّ قال: « إنَّ بعضاً مِن آلِ أيّوب نظيرُ نورِ الدينِ عليٌّ هذا هُم شيعةُ أميرِ المؤمنينَ قطعاً، ولكنّ بعضَهم الآخرَ أظهرَ مذهبَ أهلِ الخلافِ إمّا بحسبِ فطرتِه أو جرياً وراءَ المصلحةِ الوقتيّة ».
وقالَ السيّدُ الأمينُ في [أعيانِ الشيعة ج1 ص26]: « وكانَ الملكُ الأفضلُ عليٌّ بنُ صلاحِ الدينِ يوسف الأيوبيّ المعاصرِ للناصرِ شيعيّاً »، وقال أيضاً في [ص176]: « والملكُ الأفضلُ عليٌّ بنُ صلاحِ الدينِ الأيوبي، كانَ شاعراً شيعيّاً ».
وقالَ الشيخُ كاشفُ الغطاء في [أصلِ الشيعةِ وأصولها ص159]: « بل وأعاظمُ الخلفاءِ العبّاسيّينَ، كالمأمونِ، والمُنتصرِ، والمُعتضدِ أحمدَ بنِ الموفّق، والناصرِ أحمدَ بنِ المُستضيء، وهوَ أشهرهُم في التظاهرِ بالتشيّع، وأشعارُه ومراجعتُه معَ الملكِ الأفضلِ عليٍّ بنِ يوسفَ صلاحِ الدين الأيوبيّ الصريحةِ في غلوّهما بالتشيّعِ مشهورةٌ ».
وترجمَه المؤيديُّ الصنعانيّ في [نسمةِ السّحرِ بذكرِ مَن تشيّعَ وشعر ج2 ص437]، والآقا بزرُك الطهرانيّ في [طبقاتِ أعلامِ الشيعة ج ص121]، وغيرُهما.
ولكن، شكّكَ غيرُ واحدٍ بتشيّعِه، بل نصّ على كونِه سُنيّاً، كالصفديّ في [الوافي بالوفيّات ج22 ص214] إذ قالَ: « وكانَ صحيحَ العقيدةِ »، يعني بذلكَ التسنّنَ، وحكى عنَ ابنِ العديمِ أنّه قال: « لم يكُن مُتشيّعاً، وإنّما قالَ هذا الشعرَ لموافقةِ الحال، وتقرّباً إلى الإمامِ النّاصر؛ إذ كانَ منسوباً إلى التشيّع »، بل قالَ المُعاصرُ سهيل زكّار في [تاريخِ دمشق ج1 ص747]: « وبلغني أنّهُ كانَ ينكرُ هذا الشعرَ أنّهُ له ».
أقولُ: الأبياتُ المذكورةُ مشهورةُ الانتسابِ للملكِ الأفضلِ عندَ أربابِ التاريخِ والتراجمِ والأدبِ، والقدحُ في نسبتِها له بدعوى إنكارِه لها لا دليلَ عليه ولا بيّنَة، وأمّا ما ذكرَه ابنُ العديمِ مِن أنّهُ قالَ ذلكَ موافقةَ للحالِ وتقرّباً للناصرِ فهوَ وإن كانَ مُحتملاً ولكنّه عارٍ عن الدليلِ أيضاً.
إلّا أن يقالَ: إنّ سيرةَ الرجلِ ومسيرتَه لا تدلُّ على تشيّعِه، بل العكسُ هو الصّحيح، وكلماتُ العامّةِ صريحةٌ بعدمِ ترفّضِه، فيكونُ مُتظاهِراً بالتشيّعِ من أجلِ التقرّبِ للناصرِ الشيعيّ.
ويمكنُ الجوابُ عنه: بأنّ مسيرةَ الرّجلِ مدعاةٌ للريبةِ في ذلكَ بلا شكّ، إلّا أنّ الملوكَ وأهلَ السّاسةِ ـ كالناصرِ العباسيّ ـ لا تنطلي عليهم مثلُ هذهِ الخُدعِ بسهولةٍ، وذلكَ بأن يتهيّأ لإرسالِ جيشٍ لنُصرتِه لمُجرّدِ بيتينِ منَ الشعرِ قالَها مُخادعة.
وخلاصةُ القول، فلو كنّا نحنُ وهذهِ الأبياتُ فقط فهيَ قد تدلّ على تشيّعِه، ولكنَّ سيرةَ الرّجلِ لا تدلّ على ذلكَ، فالأمرُ غيرُ خالٍ عن الرّيبةِ والشكّ، بل نصّ السيّدُ الروضاتيّ في [تكملةِ الطبقاتِ ص166] على سوءِ حالِه وانحرافِه، وحملَ السيّدُ الخرسان الأبياتِ على أنّ الأفضلَ ذكرُ غصبِ الشيخينِ حقّ أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) مع أنّه موالٍ لهُما لأنّ ذلكَ صارَ مضرباً للمثلِ، قالَ في [المُحسنِ السبطِ ص473] بعدَما نقلَ الأبياتِ مُشيراً لبعضِ مصادرِها: « وفي ذكرِهم هذا ما يدلُّ على غصبِ الشيخينِ حقّ الإمامِ عليّ في الخلافة، حتّى صارَ غصبُهما مضربَ مثلٍ حتّى عندَ مَن والاهما من خليفةٍ وملكٍ ومؤرّخٍ »، وهي التفاتةٌ لطيفة.
وتجدرُ الإشارةُ إلى وجودِ كلامٍ في تشيّعِ أخيهِ الملكِ المُحسنِ أحمد ابنِ صلاحِ الدين أيضاً، فقد قالَ الحافظُ الذهبيّ في [العبرِ ج5 ص137] وابنُ العمادِ الحنبليّ في [شذراتِ الذهب ج5 ص162]: « وفيهِ تشيّعٌ قليل »، وحكاهُ المؤيديّ في [نسمةِ السحرِ ج2 ص438]، وذكرَه الآقا بزرك في [الطبقاتِ ج4 ص145]، فتأمّل.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق