كيف يمكن لرجال الدين الرد على نظريات علمية كنظرية التطور ونظرية الجاذبية باستدلالاتٍ غيرِ قائمةٍ على بحوثٍ عمليّة؟
السلامُ عليكُم سماحةَ السيّد سؤالٌ ألاحظُ بعضَ رجالِ الدينِ وبعضَ البيجاتِ للأجوبةِ العقائديّةِ يناقشونَ بعضَ النظريّاتِ العلميّةَ التي تمَّ دراستُها والبحثُ فيها عشراتِ السنين مِن قِبلِ العُلماءِ المُختصّينَ مثلَ نظريّةِ التطوّرِ لتشارلز داروين ونظريّةِ الجاذبيّة وغيرِها ويحاولونَ طرحَ آراءَ تخالفُ تلكَ النظريّاتِ مِن خلالِ مقالاتٍ بسيطةٍ واستدلالاتٍ غيرِ قائمةٍ على بحوثٍ عمليّة مثلِ البحوثِ التي أجراها أصحابُ النظريّاتِ. فما رأيُ جنابِكم في ذلك؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
منَ المؤكّدِ أنَّ المواقعَ الإسلاميّةَ التي تجيبُ على الأسئلةِ العقائديّةِ لا تتدخّلُ فيما يتعلّقُ بالبحوثِ العلميّةِ التطبيقيّة، فكلُّ ما يهمُّها هوَ الردُّ على الرؤيةِ الفلسفيّةِ المُناهضةِ للأديانِ، ولكن يبدو أنَّ السائلَ لا يُفرّقُ بينَ مباحثِ العلومِ الطبيعيّةِ وبينَ مباحثِ العلومِ الإنسانيّة، فالعلومُ الطبيعيّةُ تقفُ عندَ حدودِ الظواهرِ المادّيّةِ التي يمكنُ حصرُها ودراستُها في المُختبرِ التجريبي، وهذهِ البحوثُ لا تتعارضُ معَ الدينِ ولا تسيرُ في الاتّجاهِ المُعاكس له؛ لكونِها علوماً حياديّةً بالنسبةِ للتوحيدِ والإلحادِ، فمثلاً عندَما نناقشُ آينشتاين لا نناقشُه في بحوثِه العلميّةِ في الفيزياء، وإنّما نناقشُ إلحادَه الذي يُعبّرُ به عَن رؤيتِه الفلسفيّة، فهوَ لم يُصبِح مُلحِداً لأنّهُ كان فيزيائيّاً أو لأنَّ مباحثَ الفيزياءِ لها علاقةٌ بإثباتِ وجودِ الخالقِ أو نفيه، وإنّما أصبحَ مُلحِداً لرؤيةٍ فلسفيّةٍ وموقفٍ معرفيّ مِن وجودِ الخالق، وبذلكَ يكونُ آينشتاين قد تجاوزَ البحثَ التطبيقيَّ إلى البحثِ الفلسفي، وهُنا يحقُّ لنا مُخالفتُه والاعتراضُ عليه عقليّاً وفلسفيّاً ولا يفيدُ أنّه عالمٌ فيزيائي؛ لأنّنا لا نناقشُه في الفيزياءِ وإنّما في الفلسفةِ، وبهذا يتأكّدُ الفرقُ بينَ العلومِ التطبيقيّةِ والعلومِ الإنسانيّة، فما هوَ موجودٌ في المواقعِ الدينيّة ليسَ نقاشاً للمباحثِ التطبيقيّةِ وإنّما نقاشٌ في العلومِ الإنسانيّةِ بوصفِها مُشتركاً بينَ جميعِ العُقلاءِ وغيرَ خاضعةٍ للمُختبرِ العلمي، فاللحظةُ التي يتحدّثُ فيها عالِمُ الطبيعةِ عن الإيمانِ أو الإلحاد هيَ ذاتُها اللحظةُ التي يتخلّى فيها عن كونِه عالماً في الطبيعيّاتِ، وحينَها يفقدُ أيَّ ميّزةٍ اكتسبَها من كونِه مُتخصّصاً مثلاً في علمِ البيولوجي أو علمِ الكيمياء أو غيرِ ذلك، أمّا العلومُ الإنسانيّةُ والاجتماعيّة فهيَ العلومُ المُختصّةُ في دراسةِ الإنسانِ وما يحملهُ مِن معارفَ وميولٍ وعقائد وغيرِ ذلك، وهيَ المساحةُ التي يتدخّلُ فيها علماءُ الدين.
أمّا ما يتعلّقُ بنظريّةِ التطوّرِ فقد ناقشناها في إجاباتٍ سابقةٍ مِن جهةِ أنَّ لها خطراً على الرؤيةِ الدينيّةِ أم لا؟ وقد قُلنا هناكَ أنَّ هذهِ النظريّةَ لا تُشكّلُ أيَّ تهديدٍ لموضوعِ الإيمانِ باللهِ تعالى، ولا تقعُ في مقابلِ الفكرةِ القائلةِ بأنَّ الكونَ لهُ إلهٌ أوجدَه منَ العدم؛ لأنَّ التطوّرَ في نظريّةِ داروين يقعُ ضمنَ إطارِ المخلوقِ بعدَ خلقِه وإيجادِه، ومِن هُنا نظريّةُ التطوّرِ يتمُّ قبولُها ضمنَ تأثيرِ البيئةِ على الكائناتِ الحيّةِ ومدى قُدرةِ تلكَ الكائناتِ على التكيّفِ معها، وهذا المقدارُ منَ النظريّةِ لا يتمُّ رفضُه أو التنكّرُ عليه مِن قبلِ المؤمنين، وقد قامَت هذهِ النظريّةُ على مجموعةٍ منَ البحوثِ العلميّةِ التي تثبتُ تكيّفَ كثيرٍ منَ الكائناتِ الحيّةِ بما يتناسبُ معَ البيئة، مثلاً التغيّرُ الذي حدثَ في بعضِ مناقيرِ الطيورِ بسببِ تبدّلِ نوعِ الغذاءِ الذي توفّرُه الطبيعةُ لهذهِ الطيور، أو التبدّلاتِ التي حدثَت في شكلِ بعضِ الأسماكِ وغيرِ ذلكَ منَ الأمثلة، كلُّ ذلكَ لا يصلحُ أن يكونَ تفسيراً لسببِ الوجودِ أو أصلِ الحياةِ على هذا الكوكب، ويبدو أنَّ الإشكاليّةَ الكبيرةَ التي تواجهُ هذهِ النظريّةَ هوَ الإلحادُ الذي عملَ على إفراغِها عَن محتواها العلميّ مِن أجلِ توظيفِها لخدمةِ مشروعِه غيرِ العلمي وغيرِ العقلائي، ومعَ أنّه لا وجودَ لأيّ صلةٍ بينَ الإلحادِ وبينَ نظريّةِ التطوّرِ سواءٌ كانَ في نُسختِها الداروينيّة أو كانَ في نُسختِها الحديثةِ التي تمَّ تطويرُها، بل لا وجودَ لموضوعٍ مُشتركٍ بينَ الإلحادِ وبينَ تلكَ النظريّة، فالإلحادُ يؤمنُ بأنَّ الكونَ وُجدَ منَ العدمِ ولا يحتاجُ إلى علّةٍ أو سببٍ لوجودِه، ونظريّةُ التطوّرِ تقومُ أساساً على أنَّ التغيّرَ لا يحدثُ من دونِ علّةٍ أو سبب، ومنَ الأخطاءِ الواضحةِ التي تعمّدَ الإلحادُ ارتكابَها هوَ تحميلُ نظريّةِ داروين القولَ بأنَّ التطوّرَ قد يحدثُ بينَ الأنواع، أي أنَّ النوعَ يمكنُ أن يتطوّرَ فينقلبَ إلى نوعٍ آخر، وهذا أمرٌ مُستبعدٌ بحسبِ البحوثِ الحديثةِ لهذهِ النظريّة، فالعصفورُ لا يمكنُ أن يتطوّرَ فيصبحَ قطّاً، والسمكةُ تصبحُ فرساً، والقردُ يصبحُ إنساناً، ولا وجودَ لشاهدٍ واحدٍ يثبتُ حدوثَ تطوّرٍ في النوع، فالعصفورُ يتغيّرُ منقارُه إلّا أنّهُ يظلُّ عصفوراً، والأسماكُ تتشكّلُ بأشكالَ أخرى إلّا أنّها تظلُّ أسماكاً، والإنسانُ يمكنُ أن يتغيّرَ لونُه أو حجمُه إلّا أنّهُ لا يخرجُ عَن كونِه إنساناً، ومِن هُنا فإنَّ خرافةَ أنَّ الإنسانَ والقردَ يرجعانِ إلى جدٍّ واحدٍ هوَ مُجرّدُ هراءٍ فكري لا يمتلكُ شاهداً علميّاً واحداً على صحّتِه. وعليهِ يمكنُنا القولُ أنَّ الإلحادَ يشكّلُ خطراً كبيراً على النظريّاتِ العلميّةِ بوصفِه توجّهاً مؤدلجاً يعملُ على إفراغِ النظريّاتِ العلميّةِ مِن محتواها وتوظيفِها مِن أجلِ خدمةِ أيدولوجياتِه الخاصّة، أمّا الإيمانُ باللهِ فإنّهُ يفسحُ المجالَ لكلِّ الاكتشافاتِ العلميّةِ ويحرّضُ العقلَ على التفكيرِ في مخلوقاتِ اللهِ تعالى.
اترك تعليق