"الولدُ للفراشِ وللعاهرِ الحجر"،
عندي مجموعةٌ منَ الأسئلةِ عن الحديثِ النبوي: "الولدُ للفراشِ وللعاهرِ الحجر"، فما هوَ المقصودُ منَ الحجر، فهل المرادُ رجمُها بالحجارةِ، معَ أنَّ الولدَ مشكوكٌ في نسبِه ولم نجزِم بأنّهُ مِن زنا؟ وما هوَ موقفُ الشيعةِ مِن هذا الحديث، فهل رتّبوا عليهِ نفسَ الآثارِ التي رتّبَتها باقي المذاهبِ الإسلاميّة، كذهابِ الشافعيّةِ إلى جوازِ نكاحِ الأبِ لابنتِه منَ الزّنا، لأنّها لا تُعتبرُ ابنتَه شرعاً!! او ذهابِ ابنِ قُدامة في المُغني إلى أنَّ المرأةَ التي غابَ عنها زوجُها عشرينَ عاماً فحبلَت في غيبتِه، يتمُّ إلحاقُ الولدِ بهِ بناءً على هذا الحديثِ !!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
وردَ هذا الحديثُ بأسانيدَ صحيحةٍ في مصادرِ الشيعة، مثلَ صحيحةِ الحلبي بنقلِ الكافي والتهذيب، وصحيحةِ سعيدٍ الأعرجِ عن أبي عبدِ اللهِ (عليه السّلام) عن رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، فلا إشكالَ في الحديثِ مِن جهةِ الصحّةِ والصّدور.
وقد اعتبرَ الفقهاءُ هذا الحديثَ دليلاً على قاعدةٍ فقهيّةٍ اصطلحوا عليها بقاعدةِ الفراش، والمقصودُ أنَّ الذي يحكمُ جريانَ النسبِ بينَ الناسِ هو بيتُ الزوجيّة، وهذا ما عليهِ الحالُ في جميعِ الأعراف، فكلُّ مولودٍ يولدُ في أسرةٍ مِن رجلٍ وامرأةٍ وبينَهما زواجٌ شرعيٌّ يُلحقُ نسبُه بالزوجِ صاحبِ الفراش، فالقاعدةُ ليسَ أكثرَ مِن أمارةٍ شرعيّةٍ على صحّةِ النّسب، وحالُها في ذلكَ حالُ جميعِ الأماراتِ الشرعيّة مثلَ أمارةِ سوقِ المسلمِ يعملُ على طبقِها إذا لم يقُم الدليلُ على خلافِها، فمثلاً إذا ثبتَ بدليلٍ قاطعٍ بأنَّ المولودَ انعقدَت نُطفتُه منَ الزنا حينَها لا يُنسبُ لصاحبِ الفراشِ ولا يُعملُ بهذهِ القاعدة، أمّا في حالةِ الشكِّ والتردّدِ لمُجرّدِ الظنونِ فإنَّ الحاكمَ هوَ جريانُ هذهِ القاعدةِ، وقد اشترطَ الفقهاءُ لجريانِ هذهِ القاعدةِ أن يكونَ الموردُ قابلاً، والمقصودُ مِن ذلكَ أن يكونَ عنوانُ الفراشِ مُتحقّقاً، فمثلاً لا تجري هذه القاعدةُ إذا كانَ مدّةُ زواجِها أقلُّ مِن ستّةِ أشهرٍ وانجبَت لهُ ولداً، ففي هذه الحالةِ لا ينسبُ الولدُ للزوجِ؛ لأنَّ أقلَّ مدّةٍ للحملِ والانجابِ ستّةُ أشهر، وهكذا الحالُ إذا كانَ غائِباً وبعيداً عن زوجتِه أكثرَ منَ المدّةِ التي يحصلُ فيها الحملُ والإنجاب، ومِن هُنا لا يمكنُ قبولُ ما قالَه ابنُ قُدامة: "حتّى لو أنَّ امرأةً أتَت بولدٍ وزوجُها غائبٌ عنها منذُ عشرينَ سنةً لحقَه ولدها" (المُغني، عبدُ اللهِ بنُ قدامة، ج6، ص397) وهذا الكلامُ يُعبّرُ عَن فهمٍ مُنحرفٍ للحديثِ، وقصورٍ واضحٍ في ملكةِ الاجتهاد، فالحديثُ لا يثبتُ أكثرَ مِن كونِ الفراشِ أمارةً شرعيّةً على النسبِ، والأمارةُ يُعملُ بها في حالِ عدمِ حصولِ العلمِ بخلافِها، فالأمارةُ الشرعيّة أقوى منَ الظنونِ وأضعفُ منَ العلم.
ومِن خلالِ ما قدّمنا يتّضحُ أنَّ قوله (وللعاهرِ الحجر) لا يُقصدُ به رجمُ الزاني، فالحديثُ لم يكُن في واردِ بيانِ حُكمِ الزّاني وعقوبتِه وإنّما في واردِ بيانِ حُكمِ النّسب، أي أنَّ الزّاني لا حقَّ لهُ في الولدِ ولا يستحقُّ أن يُنسبَ إليه، والذي يؤكّدُ ذلكَ هوَ السّياقُ التاريخي الذي جاءَ فيه هذا الحديث، فقد صدرَ هذا الحكمُ عَن رسولِ اللهِ عندَما تنازعَ سعدٌ بنُ أبي وقّاص، وعَبدٌ بنُ زَمعَة في ولدٍ كانَ مِن زمعة.
ففي روايةِ مُسلمٍ لمّا ذهب سَعد بن أبي وقّاص إلى مكّة في عامِ الفتحِ، قالَ لهُ أخوه عُتبَةُ بنُ أبي وقّاص: إنّ ابنَ زمعةَ ولدَ مِن نُطفتي، وهوَ منّي، فخُذهُ وأعتني به! فأخذَه سعدٌ في عامِ الفتح، وقالَ: هذا ابنُ أخي، وقد أُوصيتُ به. فقامَ عَبدُ بنُ زَمعَة، وهو أخو ذلكَ الولد، وقالَ: هذا أخي، وقد ولدَ على فراشِ أبي.
فتخاصما عندَ رسولِ الله. قالَ سعدٌ: يا رسولَ الله! هذا الغلامُ ابنُ أخي عتبة وقد عهدَ إليَّ أنّهُ ابنُه؛ انظُر إلى شبهِه. فقالَ عبدٌ بنُ زمعة: يا رسولَ الله! هذا أخي، وقد ولدَ علی فراشِ أبي، فهوَ مِن أولادِه. فنظرَ رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) إلى الطفلِ ورأى شبهَه البيّنَ بعُتبة.
ثمّ التفتَ إلى عَبدٍ بنِ زَمعَة وقالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبدُ! الوَلَدُ لِلفِرَاشِ وَلِلعَاهِرِ الحَجَرُ) (صحيحُ مُسلم ج 2، ص 1080)
ويبدو أنَّ الاختلافَ في الأعرافِ هوَ السّببُ في عدمِ تفهّمِنا لمُطالبةِ الزّاني بولدِه، أو نسبةِ المولدِ لأبيهِ بالزّنا، إلّا أنَّ ذلكَ لهُ شواهدُ منَ التاريخ، فقد نسبَ معاويةُ بنُ أبي سفيان زياداً بنَ سُمّيّةَ إلى أبيهِ وجعلهُ أخاً له.
وفي الخبرِ أنَّ أميرَ المؤمنين (عليهِ السّلام) كتبَ إلى معاوية عندَما قالَ له: يا عليّ ! نفيتَ زياداً عن أبي سفيان! فقالَ الإمامُ: لم أنفِه، بل نفاهُ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ علیهِ وآله وسلّم) إذ قالَ: الوَلَدُ لِلفِرَاشِ وَلِلعَاهِرِ الحَجَر) (بحارُ
الأنوار ج 10، ص 127)
وعندَما كتبَ زيادٌ كتاباً إلى الإمامِ الحسنِ المُجتبى (عليهِ السّلام)، وأساءَ فيه الأدبَ بقولِه: مِن زيادٍ بنِ أبي سفيان إلى الحسنِ ابنِ فاطمة، فإنّ الإمامَ (عليهِ السّلام) أجابَه قائلاً: مِنَ الحَسَنِ ابنِ فَاطِمَةَ إلى زِيَادِ ابنِ سُمَيَّةَ. أَمَّا بَعدُ؛ فَإنَّ رَسُولَ اللَهِ (صَلَّى اللَهُ علیهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: الوَلَدُ لِلفِرَاشِ وَلِلعَاهِرِ الحَجَرُ. وَالسَّلاَمُ) (شرحُ نهجِ البلاغةِ لابنِ أبي الحديد، ج 16، ص 194)
وبالتالي معاويةُ خرجَ عَن حُكمِ اللهِ عندَما ادّعى بأنَّ زياداً هوَ ابنُ أبي سفيان، في حينِ أنَّ زياداً لابدَّ أن يلحقَ بزوجِ أمّه وهوَ عبيد ثقيف، وقد كتبَ الحُسينُ (عليهِ السّلام) كتاباً إلى معاويةَ يُعيّرُه بنسبهِ زياداً إلى أبي سفيان حيثُ قال: (أو لستَ المُدّعي زياداً بنَ سمّيّةَ المولودَ على فراشِ عبيد ثقيف، فزعمتَ أنّهُ ابنُ أبيك، وقد قالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): (الولدُ للفراشِ وللعاهرِ الحجر) فتركتَ سُنّةَ رسولِ اللهِ تعمُّداً وتبعتَ هواكَ بغيرِ هُدىً منَ اللهِ ثمَّ سلّطتَه على العراقيّينَ يقطعُ أيدي المُسلمينَ وأرجلهم ويسمّلُ أعينَهم ويصلبُهم على جذوعِ النخلِ كأنّكَ لستَ مِن هذهِ الأمّةِ وليسوا منك) (اختيارُ معرفةِ الرجالِ، الشيخُ الطوسي، ج1، ص 255)
اترك تعليق