تاريخُ التشيّعِ ودورُ ابنِ سبأ

أينَ أجدُ الرواياتِ الأخرى التي قالها يوليوس فولهاوزن حولَ الإمامِ عليّ والإمامِ الحسنِ والردِّ عليها ارجو مِنكم الرد.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجوابُ:

ليسَ للمُستشرقِ الألمانيّ يوليوس فولهاوزن رواياتٌ خاصّةٌ حولَ الإمامِ عليّ والإمامِ الحسنِ عليهما السلام.

وإنّما تعرضُ في تحليلِه التاريخيّ لحركاتِ المعارضةِ السياسيّةِ المُتمثّلةِ في الشيعةِ والخوارج، وله كتابٌ في ذلكَ بعنوانِ (أحزابُ المعارضةِ السياسيّةِ الدينيّةِ في صدرِ الإسلام الخوارجُ والشيعة) تناولَ فيه تاريخَ التشيّعِ ونشأتَهُ والعواملَ التي ساهمَت في تشكّلِه.

فالتشيّعُ في نظرِه حركةٌ سياسيّةٌ مناهضةٌ لبني أميّة.

فالصّراعُ السياسيُّ بينَ العراقِ والشام في نظرِ فولهاوزن هوَ الأساسُ في تشكّلِ المذهبِ الشيعيّ، وأنَّ حركةَ المختارِ وفرقةِ السبئيّةِ وفرقةِ الكيسانيّة هُما العناصرُ الثلاثةُ التي امتزجَت فيما بينَها لتشكّلَ ما يُعرفُ بالمذهبِ الشيعيّ.

ويبني فلهاوزن نظريّتَهُ على أساسِ أنَّ الدورَ الأكبرَ في وضعِ عقائدِ الشيعةِ يعودُ إلى شخصٍ يهوديّ اسمُه عبدُ الله بنُ سبأ، ويقولُ صراحةً أنَّ رجوعَ التشيّعِ إلى اليهودِ أقربُ مِن رجوعِه إلى المُعتقداتِ الفارسيّةِ القديمة.

وكلُّ ذلكَ تحليلٌ لا تسندُه الشواهدُ التاريخيّة، وقد ردَّ علماءُ الشيعةِ تفصيلاً على مثلِ هذهِ الادّعاءاتِ وأثبتوا بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ أصالةَ التشيّعِ وارتباطَهُ المباشرَ بالنصِّ الدينيّ قرآناً وسنّةً.

وهناكَ بحوثٌ تاريخيّةٌ مُفصّلةٌ تنفي أيَّ علاقةٍ بينَ التشيّعِ وبينَ ما يُسمّى بعبدِ الله بنِ سبأ مثلَ كتابِ (عبدِ الله بنِ سبأ وأساطيرَ أخرى) للسيّدِ مُرتضى العسكريّ.

للوقوفِ على المسارِ التاريخيّ للتشيّعِ والأسسِ التي قامَ عليها يمكنُ مراجعةُ كتابِ (التشيّع) لعبدِ اللهِ الغريفي، وكتابِ (هويّةِ التشيّع) للشيخِ أحمد الوائلي، وغيرِ ذلكَ منَ الكتبِ والبحوثِ التي أصّلَت عقائديّاً وتاريخيّاً للتشيّع.

ويبدو أنَّ هذا المُستشرقَ الألمانيّ وقعَ ضحيّةَ بعضِ المؤرّخينَ الذينَ حاولوا اختراعَ شخصيّةِ ابنِ سبأ ليحمّلوها مسؤوليّةَ ما يُسمّى بالفتنةِ الكُبرى ومقتلِ عثمان بنِ عفّان، فنسجو قصّةً بأنَّ رجلاً يهوديّاً قدمَ مِن صنعاء واسمُه عبدُ الله بنُ سبأ، أظهرَ الإسلامَ في عصرِ عُثمان، واندسَّ بينَ صفوفِ المُسلمين، وأخذَ يتنقّلُ بينَ الشامِ والكوفةِ والبصرةِ ومصر، يثيرُ الفتنَ ويؤلّبُ الناسَ على عُثمان.

وفيما بعد اعتبرَه البعضُ المؤسّسَ الحقيقيَّ للشيعة، وذكروا على لسانِه بعضَ العقائدِ الشيعيّة بمفهومِها الخاطئ عندَ عامّةِ السنّة، مثلَ قولِهم إنَّ ابنَ سبأ كانَ يقولُ إنَّ جبرائيلَ أخطأ فبدلَ أن ينزلَ على الإمامِ عليّ نزلَ على محمّد، وإنَّ محمّداً غابَ وسوفَ يرجعُ كما غابَ عيسى بنُ مريم، وإنَّ لكلِّ نبيٍّ وصيّ ووصيُّ محمّد هوَ عليّ وغيرها منَ الكلمات، التي خلطوا فيها بينَ الحقِّ والباطلِ لتشويهِ حقيقةِ الشيعة.

وقد حاولوا بذلكَ أن يضربوا عصفورين بحجرٍ واحد.

الأوّلُ: هوَ تبرئةُ الصحابةِ ممّا حدثَ مِن فتنة، وتصويرُهم بصورةِ الضحيّةِ التي وقعَت فريسةً لخبثِ رجلٍ يهوديّ.

والثاني: القضاءُ على الشيعةِ كتيّارٍ بدأ في الظهورِ بشكلٍ واضحٍ في الساحةِ بعدَ مقتلِ عثمان.

وقد تأثّرَ بهذهِ الفكرةِ علماءُ وباحثونَ كبار مثلَ الأستاذِ أحمَد أمين الذي ادّعى إنَّ أبا ذر قد تأثّرَ بأفكارِ ابنِ سبأ التي هيَ أفكارُ مزدك المجوسيّ، لِما فيها منَ الزّهدِ والتقوى.. وادّعى بأنَّ حربَ الجملِ كانَت مِن صُنعِ ابنِ سبأ، إذ دسَّت جماعاتٌ منه في صفوفِ كلٍّ مِن عليّ وعائشة، ففزعَ الجيشانِ ظنّاً مِنهم بأنَّ الخصمَ قد دسَّ في صفوفِه، فاندلعَ القتال. وغيرُها الكثيرُ منَ الحكاياتِ والقصص.

والمُتتبّعُ لكتبِ التاريخِ يجدُ إنَّ مرجعَ كلِّ أخبارِ ابنِ سبأ يعودُ إلى تاريخِ الطبريّ الذي انفردَ بها راوٍ واحد اشتهرَ بالكذبِ عندَ جميعِ علماءِ الجرحِ والتعديلِ وهوَ سيفُ بنُ عمر، ثمَّ أخذَ عن الطبريّ ابنُ الأثير وابنُ كثير وابنُ خلدون وغيرُهم.

وقد فنّدَ العلّامةُ مرتضى العسكريّ هذه الروايةَ وأثبتَ أنّها مجرّدُ أسطورةٍ مخترعةٍ لا أساسَ لها في التاريخِ الإسلاميّ، وذلكَ في كتابِه (عبدُ الله بنُ سبأ وأساطيرُ أخرى)

والعجيبُ أنَّ التمسّكَ بعبدِ الله بنِ سبأ لا يبرّرُ للصّحابةِ ما وقعَ بينَهم مِن فتنٍ وحروب، إذ كيفَ برجلٍ يهوديّ مغمور لا سابقةَ له بالإسلام أن يلعبَ بكبارِ الصحابةِ ويحرّكهم كالدُمى في حروبٍ طاحنةٍ راحَ ضحيّتها آلافٌ منهم.

وهل بهذهِ البساطةِ نُصنّفُ كلَّ مَن وقفَ في وجهِ عثمان بأنَّه مِن أتباعِ ابن سبأ، ألا يكونُ هذا شبيهاً بما تفعلهُ الأنظمةُ الشموليّةُ في المنطقةِ عندَما تتّهمُ المعارضةَ بأنّها ذاتُ أجندةٍ خارجيّة وإنّها عميلةٌ لبعضِ الدولِ الأجنبيّة، فكيفَ جازَ لنا أن نصدّقَ تهمَ السلطةِ على مَن ثارَ عليها، وننخدعَ كما انخدعَ أحمد أمين عندَما اعتبرَ أبا ذرٍّ متأثّراً بابنِ سبأ.

وكيفَ لم يُسجِّل لنا التاريخُ موقفاً مِن عُثمان اتّجاهَ هذا المعارضِ الخطير ابنِ سبأ؟ وكيفَ يسكتُ عنه وهوَ يراهُ يؤلّبُ الناسَ ضدَّه ويزعزعُ أركانَ خلافتِه؟ في الوقتِ الذي سجّلَ لنا التاريخُ مواقفَ حازمةً وحادّةً مِن عثمان اتّجاهَ كبارِ الصحابةِ الذينَ بدرَ مِنهم اعتراضٌ على بعضِ سياساتِه، فقد نفى أبا ذرٍّ الى الشامِ على جملٍ مِن دون سرجٍ ومِن ثمَّ نفاهُ إلى الرّبذةِ حتّى ماتَ فيها وحيداً، وكيفَ ضربَ عمّارَ بنَ ياسر حتّى سبّبَ له فتقاً وغيرها منَ الأحداث.

منَ الصّعبِ توجيهُ مُجرياتِ الثورةِ ومقتلِ عثمان بالشكلِ الذي ينسجمُ معَ هذهِ الفريةِ الكُبرى التي تُسمّى ابنِ سبأ، فلا الذينَ اعترضوا عليه مِن اتباعِه، ولا عثمانُ نوَّه به يوماً بوصفِه خطراً على الأمّة، ولا الذينَ أجهزوا على عثمانَ وقتلوه كانوا مِن رعاعِ الأمّةِ وإنَّما كانَ بعضُهم بدريّون.

وفي الختامِ منَ المناسبِ أن نذكرَ ما قالَه الدكتور طه حسين في موضوعِ ابنِ سبأ في كتابِه الفتنةُ الكُبرى: حيثُ قال: ""وهناكَ قصّةٌ أكبرَ الرواةُ المُتأخّرونَ مِن شأنِها، وأسرفوا فيها حتّى جعلَها كثيرٌ منَ القدماءِ مصدراً لِما كانَ منَ الاختلافاتِ على عُثمان، ولما أورثَ هذا الاختلافُ مِن فُرقةٍ بينَ المُسلمين لم تُمحَ آثارُه، وهيَ قصّةُ عبدِ الله بنِ سبأ الذي يُعرَفُ بابنٓ السوداء.

قالَ الرواة: كانُ عبدُ اللهِ بنُ سبأ يهوديّاً مِن أهلِ صنعاء حبشيَّ الأمِّ، فأسلمَ في أيّامِ عُثمان، ثمَّ جعلَ يتنقّلُ في الأمصارِ يكيدُ للخليفةِ ويُغري به ويُحرّضُ عليه، ويذيعُ في الناسِ آراءً مُحدثةً أفسدَت عليهم رأيَهم في الدينِ والسياسةِ جميعاً

وإلى ابنِ السوداءِ يضيفُ كثيرٌ منَ الناسِ كلَّ ما ظهرَ منَ الفسادِ والاختلافِ في البلادِ الإسلاميّة أيّامَ عُثمان، ويذهبُ بعضُهم إلى أنَّه أحكمَ كيدَهُ إحكاماً، فنظمَ في الأمصارِ جماعاتٍ خفيّةً تستّترُ بالكيد، وتتداعى بينَها إلى الفِتنة، حتّى إذا تهيّأت لها الأمورُ وثبتَ على الخليفة، فكانَ ما كانَ منَ الخروجِ والحصارِ وقتلِ الإمام.

ويخيّلُ إليَّ أنَّ الذينَ يُكبرونَ مِن أمرِ ابنِ سبأ إلى هذا الحدِّ يُسرفونَ على أنفسِهم وعلى التاريخِ إسرافاً شديداً، وأوّلُ ما نلاحظُه أنّنا لا نجدُ لابنِ سبأ ذكراً في المصادرِ المُهمّة التي قصَّت أمرَ الخلافِ على عثمان، فلَم يذكُره ابنُ سعدٍ حينَ قصَّ ما كانَ مِن خلافةِ عُثمان أو انتفاضِ الناسِ عليه، ولم يذكُره البلاذريّ في أنسابِ الأشراف، وهوَ فيما أرى أهمُّ المصادرِ لهذهِ القصّة وأكثرُها تفصيلاً، وذكرَه الطبريّ عن سيفٍ بنِ عمر، وعنهُ أخذَ المؤرّخونَ الذينَ جاؤوا بعدَه فيما يظهر.

ولستُ أدري أكانَ لابنِ سبأ خطرٌ أيّامَ عثمان أم لم يكُن؟.. ولكنّي أقطعُ بأنَّ خطرَه - إن كانَ له خطر - ليسَ ذا شأن، وما كانَ المُسلمونَ في عصرِ عثمان ليعبثَ بعقولِهم وآرائِهم وسلطانِهم طارئ مِن أهلِ الكتاب أسلمَ أيّامَ عثمان!

ومِن أغربِ ما يُروى مِن أمرِ عبدِ الله بنِ سبأ هذا أنَّه هوَ الذي لقّنَ أبا ذرٍّ نقدَ معاوية فيما يقولونَ مِن أنَّ المالَ هوَ مالُ الله، وعلّمَه أنَّ الصّوابَ أن يقول: إنَّه مالُ المُسلمين!.. ومِن هذا التلقينِ إلى أن يُقال: إنَّه هوَ الذي لقّنَ أبا ذرٍّ مذهبَه كلّه في نقدِ الأمراءِ والأغنياء.. فالذينَ يزعمونَ أنَّ ابنَ سبأ قد اتّصلَ بأبي ذر فألقى إليه بعضَ مقاله.. يظلمونَ أنفسَهم، ويظلمونَ أبا ذر، ويرقونَ بابنِ السوداء هذا إلى مكانةٍ ما كانَ يطمعُ في أن يرقى إليها.

والرواةُ يقولونَ: إنَّ أبا ذرٍّ قالَ ذاتَ يوم لعثمان بعدَ رجوعِه منَ الشامِ إلى المدينة: لا ينبغي لمَن أدّى زكاةَ مالِه أن يكتفي بذلكَ حتّى يُعطي السّائلَ، ويُطعمَ الجائع، ويُنفقَ في سبيلِ الله. وكانَ كعبُ الأحبار حاضراً هذا الحديث، فقالَ: مَن أدّى الفريضَة فحسبُه.. فغضبَ أبو ذرٍّ وقالَ لكعب: يا ابنَ اليهوديّة! ما أنتَ وهذا! أتعلّمُنا دينَنا؟!.. ثمَّ وجأه بمحجنه.

فأبو ذرٍّ ينكرُ على كعبِ الأحبار أن يُعلّمَه دينَه، بل أن يدخلَ في أمورِ المسلمينَ حتّى بإبداءِ الرّأي، معَ أنَّ كعبَ الأحبار مسلمٌ أقربُ عهداً بالإسلامِ مِن ابنِ سبأ وكانَ مجاوراً في المدينة.

وأكبرُ الظنِّ أنَّ عبدَ الله هذا إن كانَ كلُّ ما يُروى عنهُ صحيحاً، إنَّما قالَ ما قال ودعا إليه بعدَ أن كانَت الفتنة، وعظمَ الخِلاف، فهوَ قد استغلَّ الفتنةَ ولم يُثِرها، وأكبرُ الظنِّ كذلكَ أنَّ خصومَ الشيعةِ أيّامَ الأمويّينَ والعبّاسيّينَ قد بالغوا في أمرِ عبدِ الله بنِ سبأ هذا ليُشكّكوا في بعضِ ما نُسِبَ منَ الأحداثِ إلى عثمانَ وولاتِه مِن ناحية، وليُشنّعوا على عليٍّ وشيعتِه مِن ناحيةٍ أخرى، فيردّوا بعضَ أمورِ الشيعةِ إلى يهوديٍّ أسلمَ كيداً للمُسلمين.

إلى أن يقول: .. هذهِ كلّها أمورٌ لا تستقيمُ للعقل، ولا تثبتُ للنّقد، ولا ينبغي أن تُقامَ عليها أمورُ التاريخ"" (الفتنةُ الكُبرى، طه حُسين، فصلُ ابنِ سبأ تحتَ عنوان ابنِ السوداء: ج 1 - ص 131)."