علم الرجال وسيلة إلى تمييز الراوي الثقة من غيره

علم الحديث علم يقوم على جرح شخص الله أعلم بحاله لشخص آخر ايضا لا يدرى ما هو حاله. وفي السابق كان المحدثون بعيدين عن بعضهم وقليلو الاختلاط. وبعضهم في بلد والاخر في بلد ومعظم ما طعنوا بعضهم به غير ممكن التأكد منه، وبذلك ذهب الكثير من الحديث الشريف بسبب علم الرجال..

: السيد رعد المرسومي

الجواب:

عن هذا السؤال سيتّضح بعد أنْ نُبيّن هذه المقدّمة فنقول:

إنّ المعروف بين أهل العلم أنّ من أهمّ الأدلّة التي يستند إليها الفقيه والمحقّق في استنباط الحكم الشرعيّ بعد القرآن العظيم هي السنّة الشريفة التي أساسها الروايات والأخبار التي تُروى عن المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين)، سواءٌ التي رويت عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أم التي رويت عن أحد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

ولكنْ مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه ليس كلّ ما روي عن المعصومين (ع) يُعَـدُّ من السنّة، وذلك لأنّه قد كذب على رسول الله (ص) في حياته وبعد مماته، وكذلك الحال فيما روي عن المعصومين (ع).

هذا فضلاً عن أنّ كثيراً من الرواة كان يهم ولا يحفظ الحديث كما ينبغي، وبعضهم كان يخطئ، وبعضهم الآخر كان لا يعرف معنى الحديث ولا كيفيّة توجيهه، وغير ذلك ممّا هو مذكور في كتب الحديث والرجال وكتب تدوين السنة ككتاب السيد الجلالي وكتاب السيد عليّ الشهرستانيّ وغيرهما، ويدلُّ على ذلك عدّة روايات، منها:

1- ما ورد عن أمير المؤمنين (ع) لـمّا سأله سائلٌ عن الاختلاف فيما يروى في تفسير القرآن أو فيما يروى عن الرسول الأكرم (ص)، فأقبل أمير المؤمنين على السائل فقال له: قد سألت فافهم الجواب: إنّ في أيدي الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وعاما وخاصا، ومحكما ومتشابها، وحفظا ووهما، وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده حتى قام خطيبا فقال: مَن كذّب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار .

وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:

رجل: منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثّم ولا يتحرّج يكذب على رسول الله متعمدا ، فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنهم قالوا: هذا صاحب رسول الله (ص) ورآه وسمع منه، فيأخذون عنه، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ووصفهم بما وصفهم به، ثم بقوا بعد النبي (ص) فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله . فهذا أحد الأربعة.

ورجل: سمع من رسول الله (ص) شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه، ولم يتعمد كذبا، فهو في يديه يعمل به ويرويه ويقول : أنا سمعته من رسول اله (ص)، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه، ولو علم هو أنه وهم لرفضه.

ورجل ثالث: سمع من رسول الله (ص) شيئا يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيءٍ ثم أمر به وهو لا يعلم، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو يعلم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذْ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع: لم يكذب على الله ولا على رسوله مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله ولم يهم بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه وحفظ الناسخ والمنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ وعرف الخاص من العام، فوضع كل شيء موضعه وعرف المتشابه بمحكمه.

وقد كان يكون من رسول الله الكلام له وجهان: فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به ولا ما عنى به رسوله، فيحمله السامع ويوجّهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله.

وليس كل أصحاب رسول الله مَن كان يسأله ويستفهمه، حتى إنْ كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي أو الطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا.

وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألتُ عنه وحفظته.

فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم. [ينظر: المعيار والموازنة، لأبي جعفر الإسكافي، (ص ٣٠١)، الغيبة، للنعماني، (ص ٨٠)، الاحتجاج، للطبرسي، (ج1/ص ٤٠٤)، والبحار للمجلسي (ج34/ص169)].

2- ما رواه الكشي بإسناده إلى أبي عبد الله (ع) أنّه قال: إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس. [رجال الكشيّ، اختيار الشيخ الطوسي، (ج1/ص ٣٦٤)، وأعيان الشيعة للسيّد محسن العامليّ (ج ٣/، ص ٦٠٦)، والبحار للمجلسيّ (ج2/ص219)].

3- ما رواه الكشي بإسناده إلى أبي عبد الله (ع) أنّه قال: لعن اللّه المغيرة بن سعيد إنّه كان يكذب على أبي فأذاقه اللّه حر الحديد .[ينظر رجال الكشيّ، ترجمة المغيرة بن سعيد].

4- ما رواه الكشي بإسناده إلى أبي عبد الله (ع) أنّه قال: ما أجد أحدا أحيى ذكرنا وأحاديث أبي عليه السلام الا زرارة وأبو بصير ليث المرادي ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي ، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا . هؤلاء حفاظ الدين وأمناء أبي عليه السلام على حلال الله وحرامه ، وهم السابقون إلينا في الدنيا والسابقون إلينا في الآخرة. [ رجال الكشي ج ١/ ص ٣٨٨].

5- ما رواه الكشي بإسناده إلى عبد العزيز بن المهتدي قال : سألت الرضا عليه السلام فقلت : اني لا ألقاك في كل وقت فعن من آخذ معالم ديني؟ قال: خذ من يونس بن عبد الرحمن. [ينظر: رجال الكشي، ج2/ص ٣٦٣].

وغيرها من الروايات التي ذمّت المذمومين ومدحت الممدوحين، فلذا سلك هذا المسلك جمهور أهل العلم في مدرسة أهل البيت (ع)، لبيان أحوال الرواة التي لها مدخلٌ في قبول رواياتهم أو ردّها.

إذْ قال شيخ الطائفة الطوسيّ (قدّس): وممّا يدلُّ أيضا على صحّة ما ذهبنا إليه ، أنا وجدنا الطائفة ميّزت الرّجال الناقلة لهذه الأخبار، ووثّقت الثقات منهم ، وضعّفت الضعفاء ، وفرّقوا بين مَن يُعتمد على حديثه وروايته ، ومَن لا يُعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم وذمّوا المذموم ، وقالوا فلان متهم في حديثه ، وفلان كذاب ، وفلان مخلط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفي ، وفلان فطحي ، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها ، وصنفوا في ذلك الكتب ، واستثنوا الرّجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم ، حتى إنّ واحدا منهم إذا أنكر حديثا نظر في إسناده وضعّفه برواته. هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم ، فلو لا أنّ العمل بما يسلم من الطعن ويرويه من هو موثوق به جائز ، لما كان بينه وبين غيره فرق ، وكان يكون خبره مطروحا مثل خبر غيره ، فلا يكون فائدة لشروعهم فيما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق وترجيح الأخبار بعضها على بعض ، وفي ثبوت ذلك دليل على صحة ما اخترنا. [عدّة الأصول ج1/ص141)].

ومن هنا بدأ المتأخّرون والمعاصرون من أهل العلم ببيان تلك المعايير التي من خلالها تمييز الرواة الثقات والصادقين والحافظين والضابطين عن غيرهم من الرواة الكاذبين والمدلّسين والواهمين ونحوهم، فأودعوا تلك المعايير في علمٍ سمّوه (علم الرجال)، وعرّفوه بأنّه العلم الذي يبحث عن تعديل الرواة وتضعيفهم، لمعرفة الثقات والممدوحين منهم لأجل قبول روايتهم، ومعرفة الضعاف والمجروحين والمجاهيل منهم لعدم قبولها. [ينظر: أعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين، (ج1/ص13)، والذريعة لأغا بزرك الطهرانيّ، (ج ١٠/ص٨٠)، وأصول الحديث للفضليّ، (ص11) وغيرهم].

ويشهد لهذا المسلك الأصيل ما ذكره المرجع الكبير السيّد محمّد سعيد الحكيم (قدّس) في كتابه (المحكم في أصول الفقه، ج ٣/ص271) لـمّا قال: ويشهد بصحة الاجماع المذكور أمور: تصدّي الأصحاب قديما وحديثا للجرح والتعديل ، وتمييز من تقبل روايته ممن لا تقبل ، وتعبيرهم عن بعض الرواة بأنه مسكون لروايته ، أو أنه مقبول الرواية أو صحيح الحديث ، أو لا يعمل بما ينفرد به ، وتصريحهم بتصحيح ما يصح عن جماعة ، وقبول مراسيل بعض الرواة ، لأنه لا يرسل إلا عن ثقة ، إلى غير ذلك مما يشهد بالمفروغية عن قبول الخبر غير العلمي في الجملة بينهم . وقد نبه لذلك الشيخ قدس سره في العدة ، فقال : ( إنا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثقت الثقات منهم وضعفت الضعفاء ، وفرقوا... إلخ.

فإذا عرفت ما تقدّم، فقد ظهر لك أنّ صاحب الإشكال لا يعرف المعايير التي بها يُوثّق الراوي أو يُضعّف، وكذلك عدم معرفته بكون بُعد المكان بين النقاّد الرجاليين والرواة لا يمنع من بيان حال الرواة خصوصاً أنّ قسماً من الرواة قد وصل إلينا توثيقهم أو تضعيفهم جيلاً من بعد جيل وطبقة من بعد طبقة من خلال المشايخ الأجلّة أو من خلال الكتب الكثيرة المعدّة لهذا الشأن.

والقسم الآخر وإنْ لم ينصّ على توثيقهم أو تضعيفهم صريحاً لكنْ ورد في تراجمهم من القرائن ما يفضي إلى القول بمدحهم والسكون إلى روايتهم أو إلى عدم ذلك، وكلُّ ذلك مبيّن في أقوال أهل العلم من ذوي الاختصاص في علم الرجال، فلكلِّ مقام مقال، ولكلِّ فنّ رجال.

ثُمَّ لا ينبغي الركون إلى إشكاله الآخر لـمّا زعم أنّه بجرح بعض الرواة يذهب كثيراً من الحديث الشريف، فهذا القول ما خرج من عالمٍ يحتجُّ بقوله؛ وذلك لأنّه يعطي تصوّراً مغلوطاً حاصله: أنّ نقّاد الحديث والرجال قد جرحوا كثيراً من الرواة، وبسبب هذا الجرح يسقط كثيراً من الحديث!!

في حين أنّ الصواب في هذه المسألة على عكس ذلك، فعدد الذين وثّقهم النقّاد أو مدحوهم هم أكثر من الذين ضعّفوهم، فضلاً على أنّ جرح الرواة متفاوتٌ.

فمن الرواة من يكون جرحه شديداً – وهم الأقلّ – كالكذّاب والوضّاع ونحوهما فهذا لا يعتبر بحديثهم طبقاً لـما مبيّن في محلّه في كتب الحديث والرجال.

ومن الرواة من يكون ضعفه يسيراً، ولكنْ لا يسقط حديثه عن الاعتبار، ولذا أشرنا في أجوبة سابقة إلى مقالة معروفة يعلم بها كثيرٌ من أهل العلم حاصلها: أحاديث ضعاف وعليها العمل بغير خلاف.

وهذا الأمر يقرُّ به جميع أهل العلم من كافّة المذاهب الإسلاميّة وكذلك الوهابيّة.

وفي نهاية المطاف: ننبّه على أمرٍ مهمٍّ في المقام حاصله أنّ وثاقة الرواة ليست دائماً تفضي إلى صحّة الحديث، إذْ كمٍ من أحاديث رواتها ثقات ولكنّها منكرة لا يعمل بها، ويعرف ذلك من غاص في الكتب الاستدلاليّة ودرس الحديث ورجاله دراسةً متأنّية وصولاً إلى النتائج المطلوبة. فليكنْ ذلك في الحسبان والاعتبار قبل تبنّي الإشكالات التي يدندن بها الذين لا يفرّقون بين الغثّ والسمين، ولا يميّزون الشمال عن اليمن.

ودمتم سالمين.