غسل الجمعة مستحبٌّ وليس واجب
بعض الفقهاء القدامى كالكليني والطوسي قالوا بوجوب الاغتسال في يوم الجمعة ورووا روايات في كتبهم عن الصادقين عليهم السلام منها ما رواه الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 - ص 40: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل الجمعة فقال: واجب في السفر والحضر إلّا أنّه رخص للنساء في السفر لقلّة الماء، ثم نرى الآن الفقهاء يقولون بعدم وجوبها واستحبابها فقط.
الجواب:
اعلم أخي السائل أنّ هذه المسالة قد درسها وناقشها علماؤنا قديماً وحديثاً.
فذهب الجمهور منهم إلى القول بأنّ غسل الجمعة مستحبٌّ، في حين ذهب القلّة منهم إلى القول بالوجوب.
ونحن سنبيّن ذلك بالاستناد إلى ما ذكره علماؤنا بحسب ما يسع المقام، فنقول:
استدلّ على القول بالاستحباب بعدّة أحاديث مرويّة عن المعصومين (عليهم السلام)، فمنها:
1- ما رواه الشيخ الطوسي (قدس) بإسناده إلى علي بن يقطين قال : سألت أبا الحسن الأوّل عليه السلام عن الغسل في الجمعة والأضحى والفطر؟ قال : « سنّة ليس بفريضة» .
2- ما رواه الشيخ الطوسي (قدس) بإسناده إلى زرارة ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن غسل الجمعة ؟ قال : « سنة في السفر والحضر إلَّا أن يخاف المسافر على نفسه القُرّ» .
3- ما رواه الشيخ الطوسي (قدس) بإسناده إلى القاسم ، عن علي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن غسل العيدين أواجب هو ؟ قال: سنة » قلت: فالجمعة ؟ قال:هو سنة.
وغيرها من الأخبار في هذا الباب.[ ينظر: استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار لمحمد بن الحسن بن الشهيد الثاني (ج2/ص129 وما بعدها)].
واستدلّ على القول بالوجوب بما رواه الشيخ الكليني في الكافي (ج 3 /ص41): بإسناده إلى سماعة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل الجمعة فقال: واجب في السفر والحضر إلّا أنّه رخص للنساء في السفر لقلّة الماء.
وكذلك بما رواه ابن المغيرة ومحمد بن عبد اللّه عن الرضا (عليه السلام) قال سألته عن غسل الجمعة فقال: «واجب على كل ذكر وأنثى من حر وعبد» [الوسائل ج 2 أبواب الأغسال المسنونة باب 6 ح 3].
وغيرها من الأخبار.
ولذا نسب بعض علمائنا إلى الكلينيّ والصدوقين (قدّس الله أسرارهم) أنّهم ذهبوا إلى وجوب غسل الجمعة، إذْ نسب إلى الكلينيّ أنّه قال في الكافي (3/41): باب وجوب الغسل يوم الجمعة. ونسب إلى الصدوق أنّه قال في الفقيه (1/61) باب 22: غسل يوم الجمعة واجب على الرجال والنساء في السفر والحضر ثم قال: وغسل يوم الجمعة سنة واجبة. وكذلك نسب إلى والد الصدوق.
ونقل في الحدائق (4 : 217) أنّ الشيخ سليمان البحراني ذهب إلى الوجوب، ومال إليه الشيخنا البهائي (قدس سره)، وهو الذي نسب القول بالوجوب إلى والد الصدوق كما في (الحبل المتين: 78)، وكذا مال إليه المحقق الأردبيلي (قدس سره) كما في (مجمع الفائدة والبرهان 1 : 73).
والصواب في هذه المسألة ما عليه جمهور علماء الإماميّة، إذْ وجّهوا الأخبار التي فُهِمَ منها القول بالوجوب توجيهاً سليماً وقريباً إلى واقعها، فبيّنوا أنّ المراد من عبارة الواجب الواردة في كلام الإمام عليه السلام في تلكم الأخبار، لا يُراد بها الوجوب الاصطلاحي الذي يُثاب من عمل به، ويُعاقب من تركه، وإنّما يُراد بها معناه اللّغويّ، وهو: الثابت، فيكون معنى الحديث أنّ غسل الجمعة ثابتٌ استحبابه في السفر والحضر، غاية ما في الأمر أنّه رخّص هذا الاستحباب للنساء لقلّة الماء كما هو معروف بين أهل العلم ولا سيّما اللغويّين منهم. [ينظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهانيّ، مادّة (وجب)، ولسان العرب لابن منظور، مادة: وجب].
وقد أيّدوا الاستحباب بقرائن داخليّة وأخرى خارجيّة، فمن القرائن الداخليّة أنّهم بيّنوا أنّ خبر الطوسيّ الأوّل واضح الدلالة على الاستحباب، لأن المتبادر من السنّة المستحب، ومن الفريضة الواجب ، خصوصاً مع وقوع السنة خبراً عن غسل الفطر والأضحى مع استحبابهما اتفاقاً ، وحمل ما تضمن الوجوب لو ثبت كونه حقيقة في المعنى الاصطلاحي على تأكَّد استحبابه .[ينظر استقصاء الاعتبار (ج2/ص130 وما بعدها)].
واعتراض بعضهم بأنّ المراد بالفريضة ما ثبت وجوبه بالقرآن والمراد بالسنة ما ثبت بالسنة مدفوع بـ :
أوّلًا : أنّه من المستبعد إرادة المعنيين المتغايرين في خبر واحد .
وثانياً : أن الوجوب قد استعمل أيضاً في المستحب كما في الفقيه في خبر سماعة : حيث قال عليه السلام : «وغسل يوم عرفة واجب ، وغسل الزيارة واجب ، وغسل دخول البيت واجب ، وغسل المباهلة واجب ».
وثالثاً: فإنّ الظاهر من السؤال في الخبر الأوّل عن غسل الجمعة أواجب هو أو مستحب ؟ لا عن كون وجوبه من القرآن أو من السنة ، إذ لو كان السؤال عن هذا لكان ذكر العيدين لغواً من السائل ، فإن المستحب لا معنى لكونه من القرآن أو من السنّة. والخبر الأخير مؤيّد لإرادة المستحب إذا تأمّله المتأمّل.
وأمّا رابعاً : فلأنّ استعمال الوجوب في الاستحباب الكامل موجود بكثرة ، ووجود السنة بمعنى ما ثبت بالسنّة كذلك ، وترجيح أحدهما على الآخر إذا لم يمكن فالأصل يعمل مقتضاه إلى أن يثبت ما يقتضي الخروج عنه.[ينظر استقصاء الاعتبار لحفيد الشهيد الثاني ( ج2/ص130 وما بعدها)].
وفوق ذلك فإنّ كثيراً من علمائنا الأعلام كان ملتفتاً إلى مثل هذا الأخبار، ومع ذلك تجده يضع غسل الجمعة صريحاً في عنوان: «الأغسال المندوبة»، فعلى سبيل المثال: تجد المحقّق الحلّيّ في كتابه المعتبر في شرح المختصر (1/353) يقول: مسألة: غسل الجمعة مندوب مؤكد للرجال و النساء سفرا و حضرا، وهو مذهب الثلاثة وأتباعهم. وقال أبو جعفر بن بابويه في كتابه غسل يوم الجمعة واجب على الرجال والنساء في السفر والحضر، الّا انه رخص للنساء في السفر لقلة الماء، وبالوجوب قال الحسن البصري وداود الظاهري. لنا ما رووه عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا غسل الجمعة مسنون. ومن طريق الأصحاب ما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن غسل يوم الجمعة قال: «سنّة في السفر والحضر الا أن يخاف المسافر على نفسه الضر». ولا يعارض ذلك لأنا نقول المراد بذلك تأكيد الاستحباب، ويدل على ذلك ما رواه علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «الغسل في الجمعة والأضحى والفطر سنّة وليس بفريضة».
وأمّا القرينة الخارجية الدالّة على الاستحباب، فذهب بعض أهل العلم إلى أن غسل الجمعة أمر محل ابتلاء الرجال والنساء في كل جمعة فلو كان واجباً عليهم لانتشر وجوبه وذاع ووصل إلينا بوضوح ولم يشتهر بين الأصحاب استحبابه، ولما أمكن دعوى الإجماع على عدم وجوبه كما عن الشيخ (قدس سره) وهذا دليل قطعي على عدم كونه واجباً شرعاً.
وقد ذكر مثل ذلك في الإقامة، لأن الأخبار الواردة فيها لا قصور في دلالتها على الوجوب لكنّا مع ذلك بنينا على استحبابها لعين ما ذكرناه من القرينة، لأن وجوبها لا يلائم اشتهار الفتوى باستحبابها مع كثرة الابتلاء بها في كل يوم خمس مرات، فلو كانت واجبة لانتشر وجوبها وذاع ولم تكن مورداً لدعوى الشهرة أو الإجماع على خلافه.
وعلى الجملة إن غسل الجمعة لا يقصر عن صلاة الكسوفين التي اشتهر وجوبها وذاع مع قلة الابتلاء بها، بل قد لا يتفق في بعض السنين، وكيف يخفى وجوب غسل الجمعة مع كثرة الابتلاء به في كل أسبوع؟! وقد تقدم أن الشيخ ادعى الإجماع على عدم وجوبه، ولم يعلم من المتقدمين قائل بوجوبه، وسبق أن الكليني والصدوق ووالده (قدس اللَّه أسرارهم) لم يعلم ذهابهم إلى الوجوب لما مر.
ومن هنا تعلم صحّة ما ذهب إليه صاحب الحدائق لمّا قال: بأن مراد الكليني والصدوق من الوجوب هو الثبوت لا الوجوب بالمعنى المصطلح وهو ما لا يجوز تركه، وإنما عبّرا بالوجوب تبعاً لما ورد في الأخبار من أن غسل الجمعة واجب. [ينظر: شرح العروة الوثقى كتاب الطهارة (تقرير بحث السيّد الخوئيّ) (ج10/ص7)].
ودمتم سالمين.
اترك تعليق