هل الآيات المكية تتعارض مع الآيات المدنية؟
يقالُ أنَّ السّورَ القرآنيّةَ التي أنزلَت على رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله في مكّة كانَت ذاتَ مضمونٍ إنسانيّ ويحترمُ المُخالفَ وبلهجةٍ حواريّةٍ، بيدَ أنَّ السّورَ في المدينةِ كانَت عنيفةً وتدعو للحربِ والبراءةِ منَ الأديانِ الأخرى ومُعاداتها..
الجوابُ:
أوّلاً: لابدَّ منَ الإشارةِ إلى أنَّ تقسيمَ القرآنِ إلى مكّيٍّ ومدني مجرّدُ اصطلاحٍ تواضعَ عليهِ العُلماء ولم يستنِد هذا التقسيمُ على دليلٍ شرعيّ منَ القرآنِ أو السنّة، وعليهِ يجبُ الحفاظُ على هذا الاصطلاحِ في الحدودِ المُتعارفِ عليها في علومِ القرآن.
ثانياً: القرآنُ الكريم وحدةٌ موضوعيّةٌ متكاملةٌ يهدفُ إلى تحقيقِ غايةٍ واحدة وهيَ هدايةُ الإنسان، وعليهِ لا يجوزُ تقسيمُ آياتِه بالشكلِ الذي يوحي بوجودِ تعارضٍ أو اختلافٍ بينَها، فمثلاً آياتُ التسامحِ لا تعارضُ آياتِ الجهادِ وإنّما تشكّلُ في ما بينَها خطاباً واحداً يستوعبُ الإنسانَ في جميعِ أحوالِه الظرفيّة.
ومِن هُنا حذّرَ القرآنُ مِن تقسيمِ آياتِه بالشكلِ الذي يجعلُنا نقبلُ بعضَها ونرفضُ البعضَ الآخر، قالَ تعالى: (الَّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ)، وقالَ: (أَفَتُؤمِنُونَ بِبَعضِ الكِتَابِ وَتَكفُرُونَ بِبَعضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُم إِلَّا خِزيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا ۖ وَيَومَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ العَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ)
ثالثاً: منَ الطبيعيّ أن تتناولَ الآياتُ التي نزلَت قبلَ الهجرةِ العقائدَ والمعارفَ بوصفِها الأساسَ للتشريعاتِ التفصيليّة، أمّا بعدَ الهجرةِ ومرحلةِ تأسيسِ الدولةِ الإسلاميّة في المدينةِ فيتطلّبُ معالجاتٍ للقضايا الاجتماعيّةِ والسياسيّة والاقتصاديّة، فطبيعةُ التدرّجِ والتسلسلِ في بيانِ الحقائقِ يستدعي وجودَ مثلَ هذه الفوارق في الخطاب، ومنَ الخطأ فهمُ تلكَ الفوارقِ على أنّها تأسيسٌ لخطابٍ ثانٍ مختلفٍ عن الخطابِ الأوّل، وإنّما هوَ خطابٌ واحدٌ راعى جانبي التأسيسِ والانطلاقِ الفِعلي.
رابعاً: القرآنُ كلّه خطابٌ إنسانيٌّ يحترمُ المُخالفَ ويخاطبُه بلهجةٍ حواريّة، قالَ تعالى: (ادعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ)، وقالَ في سورةِ آلِ عمران وهيَ مدنيّة: (فَبِمَا رَحمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُم ۖ وَلَو كُنتَ فَظًّاً غَلِيظَ القَلبِ لَانفَضُّوا مِن حَولِكَ ۖ فَاعفُ عَنهُم وَاستَغفِر لَهُم وَشَاوِرهُم فِي الأَمرِ ۖ فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ) الأمرُ الذي يؤكّدُ على أنّ الدعوةِ للإسلامِ قائمةٌ في الأساسِ على اللينِ وعدمِ القسوة.
خامساً: لم يدعُ القرآنُ للجهادِ واستخدامِ العُنف إلّا معَ المُخالفِ الحربي الذي يبادرُ بالاعتداءِ على المُسلمين، فقد جاءَ في سورةِ المُمتحنة وهيَ منَ السّورِ المدنيّة قولهُ تعالى: (لَّا يَنهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَم يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَم يُخرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُم أَن تَبَرُّوهُم وَتُقسِطُوا إِلَيهِم ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ)، فالقاعدةُ في ذلكَ هيَ قولهُ تعالى: (فَمَنِ اعتَدَىٰ عَلَيكُم فَاعتَدُوا عَلَيهِ بِمِثلِ مَا اعتَدَىٰ عَلَيكُم ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ)، وقالَ تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلمِ فَاجنَح لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ).
اترك تعليق