هل لله الحجة البالغة؟
يقولُ اللهُ في كتابِه وللهِ الحُجّةُ البالغة.. وكثيرٌ منَ الناسِ اليوم يقولونَ بعدمِ بالغيّةِ الحُجّةِ فنحنُ في زمنٍ لا أنبياءَ فيه ولا مُعجزاتٍ والقرآنُ مُختلَفٌ في تفسيرِه وأحكامِه بينَ المُسلمين.. حتّى أصحابُ المذهبِ الواحدِ مُختلفون.. والأدلّةُ الفلسفيّةُ والعقلانيّةُ على كثيرٍ منَ العقائدِ يجري نقضها..
الجوابُ:
قالَ تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشرَكُوا لَو شَاءَ اللَّهُ مَا أَشرَكنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمنَا مِن شَيءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأسَنَا ۗ قُل هَل عِندَكُم مِّن عِلمٍ فَتُخرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن أَنتُم إِلَّا تَخرُصُونَ * قُل فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ ۖ فَلَو شَاءَ لَهَدَاكُم أَجمَعِينَ).
نزلَت هذهِ الآيةُ في حقِّ المُشركينَ عندَما ألزمَتهم الحُجّةُ وانقطعَ حجاجُهم فقالوا: (لو شاءَ اللهُ ما أشرَكنا)، فقصدوا بذلكَ الاعتذارَ عمّا عليهِ حالُهم منَ الشركِ والضلال، أي لو شاءَ الله أن لا نعبدَ مِن دونِه شيئاً ما عبَدنا، فلو لم يكُن راضياً عمّا نحنُ فيه لمنَعنا منه.
يقولُ العلّامةُ الطباطبائيّ في تفسيرِ هذهِ الآية: (الذي توردُه الآيةُ شبهةٌ على النبوّةِ منَ الوثنيّينِ المُنكرينَ لها ولذلكَ عرّفَهم بنعتِهم الصّريحِ حيثُ قال: وقالَ الذينَ أشركوا ولم يكتفِ بالضميرِ ولم يقُل وقالوا كما في الآياتِ السابقةِ ليُعلمَ أنَّ الشبهةَ لهُم بعينِهم... فكأنّهم يقولونَ لو كانَت الرسالةُ حقّةً وكانَ ما جاءَ به الرّسلُ منَ النهي عن عبادةِ الأصنامِ والأوثان والنهي عن تحريمِ البحيرةِ والسائبةِ والوصيلةِ وغيرِها نواهٍ للهِ سبحانَه كانَ اللهُ سبحانَه شاءَ أن لا نعبدَ شيئاً غيرَه وأن لا نُحرّمَ مِن دونِه شيئاً ولو شاءَ اللهُ سبحانَه أن لا نعبدَ غيرَه ولا نحرّمَ شيئاً لم نعبُد ولم نُحرّم لاستحالةِ تخلّفِ مُرادِه عن إرادتِه لكُنّا نعبدُ غيرَه ونُحرّمُ أشياء فليسَ يشاءُ شيئاً مِن ذلكَ فلا نهيَ ولا أمرَ منهُ تعالى ولا شريعةَ ولا رسالةَ مِن قِبلِه).
وقالَ في موضعٍ آخر: (والمعنى أنَّ نتيجةَ الحُجّةِ قد التبسَت عليكم بجهلِكم واتّباعِكُم الظنَّ وتخرّصِكم في المعارفِ الإلهيّةِ فحُجّتُكم تدلُّ على أن لا حُجّةَ لكُم في دعوتِه إيّاكُم إلى رفضِ الشركِ وتركِ الافتراءِ عليهِ وأنَّ الحُجّةَ إنّما هيَ للهِ عليكم فإنّه لو شاءَ لهداكُم أجمعين وأجبرَكم على الإيمانِ وتركِ الشركِ والتحريم).
وعليهِ فإنَّ للهِ الحُجّةَ البالغة فيما يتعلّقُ بالتوحيدِ ولا حُجّةَ لمُشركٍ أو مُنكرٍ لوجودِه تعالى، ولذا قد يغفرُ اللهُ لعبدِه كلَّ الذنوبِ ما عدا الشركَ بالله، قالَ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَدِ افتَرَىٰ إِثماً عَظِيماً).
وعليهِ فالمُرادُ منَ الحُجّةِ البالغةِ في الآيةِ هوَ ما لهُ علاقةٌ بالتوحيدِ في قبالِ الشرك، فليسَ لمُشركٍ حُجّةٌ يحتجُّ بها على شركِه، ولا يمنعُ ذلكَ مِن أن تكونَ للهِ الحُجّةُ البالغةُ في حسابِ عبدِه يومَ القيامة، ففي الحديثِ عن الإمامِ الصّادقِ (عليهِ السلام): في قولِه تعالى: (قُل فللهِ الحُجّةُ البالغة...) قالَ: إنَّ اللهَ تعالى يقولُ للعبدِ يومَ القيامة: عبدي أكنتَ عالماً؟ فإن قالَ: نعم، قالَ له: أفلا عملتَ بما علِمت؟! وإن قالَ: كنتُ جاهلاً، قالَ له: أفلا تعلّمتَ حتّى تعملَ، فيُخصمُ، فتلكَ الحُجّةُ البالغة).
ويضافُ إلى ذلكَ أنَّ الإنسانَ مَهما جادلَ بالباطلِ فإنّه يعلمُ الحقَّ في قرارةِ نفسِه، قالَ تعالى: (بَلِ الإِنسَانُ عَلَىٰ نَفسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَو أَلقَىٰ مَعَاذِيرَهُ)، وقالَ تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاستَيقَنَتهَا أَنفُسُهُم ظُلمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفسِدِينَ).
فكلُّ هؤلاءِ قد أقيمَت عليهم الحُجّةُ البالغةُ حتّى لو أنكروها وتمرّدوا عليها، أمّا مَن لم تبلُغه الحُجّةُ ولم يصِلهُ البلاغُ فقد يشملهُ قولهُ تعالى: (مَّنِ اهتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبعَثَ رَسُولًا)
اترك تعليق