ألم يتخذ الشيعة الفقهاء كما اتخذ اليهود الأحبار؟

السؤال: يقول منكرو التقليد بحرمته استناداً على بعض الروايات، وأنّ المؤمن لابدّ أن يتّبع العامل بالأحاديث فقط، لا أن يستعمل أدوات العقل التي يعمل بها المخالفين: فمثلاً هذه الرواية الواردة عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: « قلت له: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللهِ} (التوبة) فقال: أَمَا وَاللَّهِ مَا دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ دَعَوْهُمْ مَا أَجَابُوهُمْ، وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ حَرَاماً، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَلَالاً، فَعَبَدُوهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ».

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

منذ ابتداء الغيبة الكبرى سنة 329هـ - والتي ابتدأت بوفاة السفير الرابع عليّ بن محمّد السمريّ – رجع الشيعة إلى الفقهاء العدول لمعرفة تكاليفهم الدينيّة والشرعيّة، فالفقيه القادر على استنباط الاحكام من الكتاب والسنّة يمثّل الطريق الوحيد الذي يرجع إليه عامّة الناس لمعرفة أحكام دينها.

وقد شدّدت روايات أهل البيت (عليهم السلام) على ضرورة الرجوع لفقهاء الشيعة دون غيرهم من الفقهاء أو الحكّام، فعن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة قال: « سألت أبا عبد الله – عليه السلام – عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال: مَن تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإنْ كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يُكفَر به، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} قلتُ: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران مَن كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله، وعليه ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله » [وسائل الشيعة ج18 ص99].

وبالإسناد عن أبي محمّد (عليه السلام) قال: قال عليّ بن محمّد عليهما السلام: « لولا مَن يبقى بعد غيبة قائمنا - عليه السلام - من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب؛ لَمَا بقي أحدٌ إلّا ارتدّ عن دين الله، ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجلّ » [بحار الانوار ج2 ص6].

وقد عمل الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام) على تأصيل مرجعيّة الفقهاء العدول، ووجوب الرجوع إليهم في معرفة مسائل الشريعة، وأخذ الموقف الشرعيّ تجاه القضايا الحادثة، حيث كان الإمام يوجّه أتباعه وشيعته إلى ضرورة تقليد الفقهاء، وأخذ معالم الدين وأحكام الشريعة منهم، حيث جاء عنه الحديث المشهور: « مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه » [وسائل الشيعة ج27 ص131].

وهذا المقطع « مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه.. » هو المشهور بين عامّة الناس، والكثير منهم يجهل أنّ لهذا الحديث تتمّة طويلة، حيث يبيّن الإمام في جزءٍ من هذا الحديث الفرق بين عامّة اليهود الذين يقلّدون علماءهم، وبين عامّة الشيعة الذين يقلّدون علمائهم، وبهذه التتمّة من الرواية يتّضح المقصود من الحديث الذي أشار إليه السائل، وهو الحديث المرويّ عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، والذي يتصوّر البعضُ أنه يحرّم التقليد.

جاء في تمام الرواية: « إذا كان هؤلاء العوامّ من اليهود لا يعرفون الكتاب إلّا بما يسمعونه من علمائهم، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوامّ اليهود إلّا كعواّمنا يقلّدون علماءهم؟ فقال الإمام - عليه السلام -: بين عوامّنا وعوامّ اليهود فرق من جهة، وتسوية من جهة، أمّا من حيث الاستواء: فإنّ الله ذمَّ عوامّنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم، وأمّا من حيث افترقوا: فإنّ عوامّ اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وأكل الحرام والرشاء وتغيير الأحكام، واضطروا بقلوبهم إلى أنّ مَن فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمّهم، وكذلك عوامّنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة والتكالب على الدنيا وحرامها، فمَن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم، فأّما مَن كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه ».

وبذلك يتّضح بما لا يدع مجالاً للشكّ المقصودُ من قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللهِ}، وبالتالي لا يمكن مقايسة فقهاء الشيعة بما كان يفعله أحبار اليهود بأيّ وجه من الوجوه، فبعد أن يبيّن الإمام مشكلة الأحبار والرهبان يحدّد مواصفات الفقيه الذي يجب الرجوع إليه في التقليد، وهي: صيانة النفس، وحفظ الدين، ومخالفة الهوى، وإطاعة أمر الله تعالى.

أما الكلام في الرجوع إلى رواة الاحاديث، كما في التوقيع الصادر عن الإمام المهدي (عليه السلام): « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله » [الاحتجاج ج2 ص283].

فالمقصود برواة الأحاديث - كما هو واضح - هم الفقهاء الذين يعتمدون في أحكامهم الفقهيّة على أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، ولا يأخذون من غيرهم، كما هو الحال عند فقهاء العامّة. ولا علاقة لذلك بحرمة التقليد ولا حرمة الاجتهاد.

وقد أشار الشهيد الصدر لهذه الحقيقة في مقدّمة رسالته العمليّة، حيث قال: (ونرى من الضروريّ أن نشير أخيراً بصورةٍ موجزةٍ إلى المصادر التي اعتمدنا بصورة رئيسيّة في استنباط هذه الفتاوى الواضحة.

وهي - كما ذكرنا في مستهلّ الحديث - عبارة عن الكتاب الكريم، والسنّة النبويّة الشريفة بامتدادها المتمثّل في سنّة الأئمّة المعصومين من أهل البيت - عليهم السلام -، باعتبارهم أحد الثقلين اللذينِ أمر النبيّ – صلى الله عليه وآله - بالتمسّك بهما، ولم نعتمد في شيء من هذه الفتاوى على غير هذين المصدرين.

أمّا القياس والاستحسان ونحوهما: فلا نرى مسوّغاً شرعيّاً للاعتماد عليها تبعاً لأئمّة أهل البيت - عليهم السلام -.

وأمّا ما يُسمَّى بالدليل العقليّ - الذي اختلف المجتهدون والمحدّثون في أنّه هل يسوغ العمل به أو لا -: فنحن وإنْ كنّا نؤمن بأنّه يسوغ العمل به، ولكنّا لم نجد حكماً واحداً يتوقّف إثباته على الدليل العقليّ بهذا المعنى، بل كلّ ما يثبت بالدليل العقليّ فهو ثابت في نفس الوقت بكتابٍ أو سنّةٍ.

وأمّا ما يُسمّى بالإجماع: فهو ليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسنّة، ولا يُعتمد عليه إلّا من أجل كونه وسيلة إثباتٍ للسنّة في بعض الحالات.

وهكذا كان المصدران الوحيدان هما الكتاب والسنّة، ونبتهل إلى الله تعالى أن يجعلنا من المتمسّكين بهما، ومَن استمسك بهما {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}) [الفتاوى الواضحة ج1 ص15].