رؤية الله في الآخرة

فاضل أيوب/ : قرأت في بعض مواقع السنة مقالا جاء فيه: ان قول موسى لربه { أرني أنظر إليك }، وتفسير النافين لها بأن موسى طلب رؤية الله رؤية عينية بقوله { أنظر إليك } دليل على صحة تفسيرنا لقوله تعالى { إلى ربها ناظرة } بأنه النظر المعروف بالعين. لأن أهل البدع بأنفسهم يفسِّرون قول موسى لربه { أنظر إليك }. بأنه النظرُ بالعينين، ثم يزعمون أن الله نفاه نهائيا بقوله { لن تراني }, والحق أن هذا النفيَّ مخصوصٌ بالدنيا فقط ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: [ إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا ], ولكن بما أنهم يفسِّرون قوله تعالى { أنظر إليك } بأنه النظر المعروف بالعين، فكذلك صاروا مُلْزَمِين بتفسير قوله تعالى { إلى ربها ناظرة } بالرؤية العينية أيضًا. فالنظر في الحالتين عُدِّيَ بـ إلى، والنظر إذا تعدى بإلى فالعرب لا تعرف منه إلا الرؤية العينية.

: اللجنة العلمية

يستدل البعض من أهل السنة بقوله تعالى: {وُجُـوهٌ يَـوْمَئِـذٍ نَـاضِـرَةٌ * إِلى رَبِّهَـا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِـذٍ بَـاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَـاقِرَةٌ} فقالوا (ناظرة) معناها تنظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى.

نقول: لا دلالة في الآية الكريمة على أنّ المراد بالنظر فيها هو خصوص الرؤية البصرية، لأنّ لفظ النظر، لاسيما المتعدّي منه بإلى ليس اسماً للرؤية نفسها، ولا هو بملازم لها، وإنّما هو مدّ الطرف نحو الشيء رآه أَو لم يره، كما نصّ عليه أهل اللغة في معاجمهم، ودليله من كتاب الله نفسه، يقول عز وجل: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}(1)، حيث أثبت نظرهم إليه في حال نفي الإبصار عنهم وما ذاك إلا لأنّ النظر والرؤية متغايران وغير متلازمين.

وأَيضاً يُقال في العرف: ((نظرت إِلى الهلال فلم أره))، و((نظرت إليه فرأيته))، وإذا كان النظر والرؤية متغايرين، ولا تلازم بينهما، فلا دلالة في الآية على خصوص الرؤية البصرية كما يحاول البعض استفادته من الآية الكريمة، بل المتبادر إِلى الأذهان من قوله سبحانه : {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، أنّها تنتظر وتتوقع فضل الله وما أعدّه لها من الكرامة في دار الآخرة كما يقول أهل العرف: إنّما ننظر إِلى الله ثمّ اليك، أي: إنّما ننتظر ونتوقع فضل الله ثمّ فضلك، واستعمال النظر في الانتظار سائغ عند العرب ولاسيما المتعدّي منه بإلى, ومنه قول الشاعر العربي:

 

وجوه ناظرات يوم بدر    إلى الرحمن تنتظر الخلاصا  

 

إذ أثبت الشاعر هنا النظر إِلى الرحمن مع عدم رؤيته، وبين في آخر البيت بأنّ مراده من النظر هوالإنتظار، فقال: تنتظر الخلاصا. وهذا المعنى ــ أي: مجيء ناظرة بمعنى منتظرةــ جاء به القرآن الكريم أيضا، في قوله سبحانه، حكاية عن بلقيس: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}(2)، أي: منتظرة بم يرجع المرسلون.

هذا، بل يوجد الدليل من نفس الآية الكريمةــ المستدل بها في المقام ــ بما يوجب حملها على معنى الانتظار دون غيره من المعاني، وهذا الدليل هو: تقديم المعمول في الآية على العامل، فإنّ تقديمه عليه يعدّ كنص صريح في اختصاص الله عز وجل بنظرهم إليه.. فهي في الدلالة على الاختصاص على حدّ قوله سبحانه: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}(3)، وقوله سبحانه: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}(4)، وقوله سبحانه: {أَلا إِلى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ}(5)، وقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(6)، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(7).

وهذا الإختصاص بالنظر يوجب القطع بأنّه لا يراد منه الرؤية؛ وذلك لأنّ المؤمنين يوم القيامة ينظرون إِلى أشياء كثيرة لا يحيط بها حصر ولا تدخل تحت عدد في محشر تجتمع فيه الخلائق من إنس وجن وملائكة وغيرهم، فاختصاصه سبحانه وتعالى بنظرهم إليه - لو كان الله جائز الرؤية- مستحيل.. ولذلك وجب حمل الآية على معنى يصح معه هذا الاختصاص، والّذي يصح معه ذلك إنّما هو كون (ناظرة) في الآية الكريمة بمعنى (منتظرة) كقول أحدنا: إنّما أنا في أمور دنياي وآخرتي ناظر إِلى ربّي سبحانه وتعالى.

هذا، ويمكن إضافة دليل آخر بأنّ المراد بـ (ناظرة) في الآية الكريمة هو منتظرة، وذلك بقرينة السياق،إذ جاءت الآية الكريمة في سياق التضاد مع آية أخرى تليها،حيث قال الله سبحانه وتعالى: {وُجُـوهٌ يَـوْمَئِـذٍ نَـاضِـرَةٌ * إِلى رَبِّهَـا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِـذٍ بَـاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَـاقِرَةٌ}(8).

 فما المراد من قوله سبحانه وتعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ}.وقوله: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}؟!

 من الواضح أنّ المراد بقوله سبحانه وتعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ}، أَيّ وجوه مقطبة؛ لأنّها تتوقع أن يفعل بها داهية تكسر فقار ظهرها، كما هو مقتضى الفقرة الثانية من الآية: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}.

وبلحاظ هذا المعنى المستفاد من هذه الآية الكريمة ينبغي تفسير الآية التي قبلها بما يناسب المعنى المذكور وذلك لقرينة التضاد بين الآيتين.. فتكون هاتان الآيتان في مقام تصوير هيئتين متضادتين تنتظران عاقبتين متضادتين.

 الأولى تنتظر إنجاز الوعد بالأجر والثواب، والثانية تنتظر الوعيد بإنزال العقوبة والعذاب.

وهذاالمعنى هو المروي عن أمير المؤمنين علي_، وأَيضاً يروى ذلك

عن مجاهد والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك(9)، وقد اختاره الزمخشري عند تفسيره للآية الكريمة من كشّافه حين قال: ((فإنَّ المؤمنين نظّارة ذلك اليوم؛ لأنّهم الآمنون الّذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه محال، فوجب حمله على معنىً يصح معه الاختصاص، والّذي يصح معه أن يكون من قول الناس: أنا إِلى فلان ناظرٌ فيما يصنع بي، تريد معنى التوقع والرجاء، ومنه قول القائل:

وإذا نظرتُ إليك من مَلِك        والبحرُ دونَك زدتني نعما (10)

انتهى.

 وربما يستدلّ بعض القائلين بالرؤية، بطلب نبي الله موسى لرؤيته سبحانه، كما في قوله سبحانه وتعالى: {قَالَ ربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}(11).

 قالوا: لو لم تكن الرؤية ممكنة لما طلبها نبي الله موسى، فهذا الطلب يكشف عن إمكان ذلك لا امتناعه!

نقول: هذا من عجائب الإستدلال، ففي نفس الآية المستدل بها هنا ما يدلّ على امتناع ذلك، فاقرأ تمام قوله سبحانه وتعالى في الآية المباركة: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ ربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}(12).

فلو كانت الرؤية ممكنة، ولو في الآخرة، لبيّنها المولى سبحانه لنبيّه وكليمه مباشرة، مادام الطلب قد جاء منه مباشرة وليس من غيره، فيقول له ياموسى إن رؤيتي ممتنعة في الدنيا ولكنك في الآخرة سوف تراني وتنعم برؤيتي، وبهذا ينهي الموضوع بينه وبين كليمه، مادام الكليم يتلقى منه علوم التوحيد مباشرة وينقلها إِلى الناس، لا أن يدخله في امتحان صعب يخر بعدها- موسى- صعقاً ثمّ يقوم من فزعه ليقول لله سبحانه وتعالى: يارب إني تبت إليك من طلبي هذا وأنا أوّل المؤمنين بأنك لا ترى!

هذا على فرض أنّ الطلب قد جاء من موسى مباشرة وليس نيابة عن قومه الذين أرادوا ذلك حتّى يؤمنوا به، وإلا فالموضوع يكون أشد وضوحاً في بيان الإمتناع والإنكار على طالبيه بالمرّة، والآيات الكريمة تخبرنا بأنّ هذا الطلب بالرؤية قد جاء بإلحاح شديد من قوم موسى، الذين كادوا أن يكفروا بنبوته إِذا لم يحقق طلبهم هذا، وليس من موسى نفسه.

يقول سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثمّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ}(13). فهنا نجد بكل وضوح أنّ هذا الطلب بالرؤية لا يمكن أن يصدر من نبي الله موسى_ مباشرة، لأنه يعد ظلماً يستحق عليه طالبه العذاب والإبادة من الوجود، وهذا لا يليق بنبي الله جزماً.

ويقول سبحانه في آية أخرى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ ربّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ}(14).

وهنا نجد البيان أكثر وضوحا بأنّ طلب الرؤية من قوم موسى كان عملاً سفهياً، وأنّه فتنة يضلل عليها طالبها. 

وعليه؛ فالإستدلال بطلب نبي الله موسى أَو طلب قومه للرؤية، هو أقرب لإثبات الإمتناع منه إِلى إثبات الجواز والإمكان فتدبّر ذلك.

وسنذكر في مقال مفصل على الموقع الأدلة العقلية والنقلية في امتناع رؤيته سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.

______________

(1) سورة الأعراف:198.

(2) سورة النمل: 35.

(3) سورة القيامة:12.

(4) سورة القيامة:30.

(5) سورة الشورى:53.

(6) سورة البقرة:245.

(7) سورة الفاتحة:5.

(8) سورةالقيامة:22ــ25.

(9) انظر: مجمع البيان للطبرسي 10: 199، وجامع البيان للطبري 29: 239.

(10) تفسير الكشاف 4: 509، 510.

(11) سورة الأعراف: 143.

(12) سورة الأعراف: 143.

(13) سورة النساء: 153.

(14) سورة الأعراف: 155.