الغلو في الأئمة
السؤال: يقول محمد حسين كاشف الغطاء في مدح الأئمة: يا كعبة الله ان حجت لها * الاملاك فعرشه ميقاتها انتم مشيئته التي خلقت بها * الاشياء بل ذرئت بها ذراتها انا في الورى قال لكم ان لم اقل * مالم تقله في المسيح غلاتها لقد جعل الأئمة هم الكعبة التي تحج لها الملائكة...!! وجعل عرش الرحمن هو ميقاتها...!!! وجعلهم هم مشيئة الله وقدرته التي خلقت بها الاشياء...!!!!؟؟؟ وقطع على نفسه ان يقول في ائمته مالم تقله غلاة النصرانية في المسيح..؟؟؟؟؟!!!! لماذا كل هذا الغلو من مرجع يعتبر معتدل بالنسبة لغيره؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربِّ العالمين
وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين
لم ينقل السائلُ البيتَ الأولَ صحيحاً، وهو على هذه الصورة:
"يا كعبةً لله إنْ حجَّت لها الـ***أملاك منه فعرشُهُ ميقاتها"
والنقل "يا كعبة الله" لعلَّه كان لغرضٍ طائفيٍّ مقيت، وحتى على هذا النقل ف "يا كعبة الله" مُنادى مضاف، والإضافة على معانٍ ثلاثة:
الأول: بمعنى "من" تقول: باب خشب، أي: بابٌ من خشب.
الثاني: بمعنى "في" تقول: مكرُ الليل، أي: مكرٌ في الليل.
الثالث: بمعنى "اللَّام" تقول: غلامُ زيد، أي : الغلامُ لزيد، بمعنى ملكٌ لزيد.
وقوله "يا كعبة الله" يُراد به المعنى الثالث: أي: يا أيُّها الأئمَّة المملوكون لله! فأين الغلوُّ في كون الأئمّة – عليهم السَّلام – مملوكون لله تعالى؟
وقوله: "....إن حجَّتْ لها ال** أملاكُ منه فعرشُهُ ميقاتُها"
السائلُ لم يفرّق بين الغلوِّ والمبالغة، فخلط مصطلحات البلاغة بمصطلحات العقيدة خلطاً غير مغفور.
ثم إنَّ هاهنا فرقاً بين المبالغة وبين بيت الشيخ – رحمه الله -
قال أبو نؤاس يمدح هارونَ العباسيَّ:
وأخفتَ أهلَ الشركِ حتى إنه*** لتخافكَ النُّطَفُ التي لم تُخلقِ
فهنا بالغَ كثيراً حتى جعل النُّطف التي لم تُخلق بعد تخافه، هكذا يقولُ أهل البلاغة، فالمبالغة ما يكون الوصفُ فيها مستحيلاً عقلاً أو عادة، بحيث ينتهي إلى تكذيب القائل وعدم تصديقه.
وأحسن منه قول أشجع بن عمرو السلميِّ يمدح ذاك العباسيَّ نفسه:
وعلى عدوّك يا ابن عمِّ محمدٍ*رصدانِ ضوءُ الصبحِ والإظلامُ
فـإذا تنبّــهَ رِعتَهُ وإذا غَفَـــــــا***سَلَّـتْ عليه سيوفَكَ الأحلامُ
يقول: من جيوشك على عدوِّك الصبح والظلام، ففي الليل تسلُّ الأحلام المزعجة سيوفك عليه حين يغفو، وإذا تنبَّه مستيقظاً ذكَّره ضياءُ الصبح بوجودِك فخاف، وهذه صورةٌ شعريَّة لا تؤدّي إلى التكذيب؛ لأنَّ عدوَّ الخليفة يرى الكوابيس ليلاً وأن الخليفة قاتلُهُ لا محالة، وفي الحقيقة وعالَم الواقع فجنود الخليفة يُطاردونه شاكين السلاح.
وللتخلّص من المبالغة يؤتى بكلِّ ما يُقرّب المعنى من الصحَّة والقبول مثل "لو" و "لولا" للامتناع، و "كأنَّ" للتشبيه، و "يكاد" للمقاربة ونحو ذلك، ومنه قول البحتريّ يمدح المتوكّل:
و لو أن مشتاقا تكلّف فوق ما *** في وسعه لسعى إليه المنبر
فالمنبر مشتاقٌ لخطب الممدوح، ويكاد من شوقه له أن يتكلَّف ما ليس في وسعه فيسعى إليه. وقد يقول قائل: وكيف يسعى المنبر للخليفة الممدوح؟ أليس في هذا التصوير مبالغة؟
فيكون جوابُهُ: أن الشاعر لم يقل إن المنبر سعى للخليفة من شوق ليكون في الأمر مبالغة، بل قال: لو كان في وسعه أن يسعى لسعى، فتخلَّص من المبالغة بالأداة "لو" وهي للامتناع، بمعنى أن المنبر لم يسعَ لأنَّه لم يتكلَّف فوق ما في وسعه.
وقد تعلَّم هذه الصنعةَ من أبي تمَّام وأخذ هذا المعنى من بيتِه:
تَكَادُ مغَانيهِ تَهِشُ عِراصُها * فتركبُ من شوقٍ إلى كلِّ راكبِ
فإنَّ العِراص – وهي البقعة الواسعة – جمادٌ فكيف يحرّكُها الشوق للركوب حتى تستقبل المسافرين؟ ولكن جاء ب "لو" للامتناع فصار المعنى لو كان للجماد أن تتحرَّك للقياكم بسبب الشوق لتحرَّكت هذه الأرض التي وقفتم عليها.
وما في بيت الشيخ كاشف الغطاء – رحمه الله – فليس هناك مبالغة، فاستعماله "إن" لتعليق جواب الشرط على تقدير وقوع فعله، فالقضيَّة هنا على سبيل الفرض والتقدير وإن كان الشرط ممتنع الوقوع؛ لأنَّ القضيَّة الشرطيَّة تعليقيَّة لا تقتضي وجود طرفيها، بل تفترض حصول الجواب عند حصول شرطه؛ وعليه: فإن عرش الرحمن ليس ميقات حجِّ الملائكة لأهل البيت – عليهم السَّلام – إلَّا على تقدير حجّ الملائكة إليهم لمكان "إن" الشرطيَّة، إن حجَّت الملائكة فعرش الله ميقاتها، هذا كلُّه على أساس المحاكمة الشعريَّة بغض النظر عن الواقع الخارجيّ هل فعلاً أن الملائكة تحجُّ إليهم أم لا، فذلك ما سنعرفه من خلال الروايات، فإن ثبتَ من خلال الروايات أنَّ الملائكة تحجُّ إليهم فلا تثريب على الشيخ لقد نطق صدقاً وقال حقَّا، وإن لم تَفُه الروايات بذلك فلا ملامة عليه كذلك لأنَّ ذلك على الشرط "إن حجَّت الملائكة" فإن لم تحجّ امتنع جواب الشرط أعني كون العرش ميقاتاً لهم في حجّهم نحوهم – عليهم السلام – وهنا ليس في الأمر مبالغةٌ أبداً حتى يتخلَّص منها بالأدوات التي مرَّت عليك سابقا؛ فرميُّه بذلك مرفوض.
ومن العجيب أن تزور الملائكة عمران بن الحصين وتصافحه لأنَّه اعتزل الفتنة – كما زعموا في طواميرِهم- ولا تزور أهل البيت – عليهم السلام – الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرا!
وليس في زيارة الملائكة قبورهم – عليهم السلام – غرابةٌ ولا نكارة، فقد رووا في مجاميعهم الحديثيَّة أنَّ قارئ القرآن تزور قبرَه الملائكة، ومن ضعَّف الحديث منهم ضعَّفه سنداً ومنهم من ضعَّف متنه لحرمة زيارة القبور شرعاً – عنده – فلم يُصدِّق بمضمونه؛ وبالتَّالي فتكذيب الحديث ليس لمعارضته العقل بل الشرع؛ والمبالغة ما كانت مستحيلةً بحكم العقل والعادة، ولقد علمتَ أن تكذيبهم الحديث لداعٍ شرعيٍّ لا عقليّ؛ فليس في بيت الشيخ - رحمه الله – مبالغة.
كيف؟ وقد وردَ في الأحاديث أن الملائكة تزور قبورهم؟ وما أدري ما يصنع السائل لو علِم أنَّ الله تعالى والملائكة والأنبياء تزور قبورهم؟
والميقات هو المكان المضروب للشيء، ومنه مواقيت الحجّ، فحجُّ الملائكة – وهو صورة مجازيَّة – يكون ميقاتُهُ – أي انطلاقُهُ – من العرش.
أمَّا جعل الأئمَّة – عليهم السلام – هم الكعبة، فقد ورد في كُتُبهم أن المؤمن أفضل من الكعبة، وهم – عليهم السَّلام - سادة المؤمنين قطعاً. بل ورد في كُتُبهم أنَّ نعال النبيِّ – صلى الله عليه وآله أفضل من العرش، وعليه فهذا تقصيرٌ من الشيخ – رحمه الله – في جعلهم كالكعبة، كمن يجعل الشمس في نورها كالقمر، وكان ينبغي تشبيه الكعبة بهم عليهم السلام في التفاف النَّاس حولهم –عليهم السَّلام- لا تشبيههم بالكعبة، ولك أن تعتذر عنه أنَّه جرى مجرى التعبير النبويِّ كما رواه ابن عساكرَ في تاريخ مدينة دمشق عن أبي ذر – رض - : مَثَلُ عَلِيٍّ فيكُم ـ أو قالَ : في هذِهِ الاُمَّةِ ـ كَمَثَلِ الكَعبَةِ المَستورَةِ، النَّظَرُ إلَيها عِبادَةٌ، وَالحَجُّ إلَيها فَريضَةٌ.
بيت الشيخ – رحمه الله –
أنا في الورى قالٍ لكم إن لم أقُل*مالم تقلهُ في المسيح غلاتُها
هاهنا نكتةً بلاغيَّةً في بيت الشيخ – رحمه الله – جديرةٌ بالتأمل حريَّةٌ بالتدبّر، ويقف عرفانُها على معرفة الفرق بين استخدام "إن" مكان "إذا".
فـ"إنْ" الشرطيَّة تُستعمل فيما يستحيلُ حصولُهُ أو يندر كما في قوله تعالى { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ } فإنّ الإحصاء ممتنعٌ على العادّين، بخلاف "إذا" فإن جوابها مقطوعٌ بحصوله كما في قوله تعالى { حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } فإنَّه إذا مات الإنسان توفَّته رسُلُ الله – الملائكة – حتماً.
ولكن أحياناً تُستخدم "إنْ" مكان "إذا" لداعٍ بلاغيٍّ للجزم بوقوع الشرط عند عدم جزم السَّامع بوقوعه.
ومثال ذلك قول الشاعر:
"أنا حائكٌ إن لم أكن مولى هواك وابن حائك"
والحائك الكاذب، والشاعر لا يريد أن يصف نفسه بالكذب، بل جاء بهذا الشرط للمبالغة في ولائه ممدوحه.
والشيخ – رحمه الله – يقولُ أنا مبغضٌ لكم إن لم امدحكم بحقيقة مدحكم حتى لو قيل إني مغالٍ فيكم – عليهم السلام – فهو يريد المعنى الكنائيَّ أعني المبالغة في المدح، لا المعنى الحقيقي القول بأن أمير المؤمنين – عليه السلام – ابن الله تعالى والعياذ بالله.
وهذا يشبه قول الشَّافعي:
إن كان رفضاً حبُّ آلِ محمدٍ* فليشهد الثّقلانِ أني رافضي
والرفضُ – عندهم – تقديم أمير المؤمنين – عليه السلام – مع التنقيص من قدر الصَّحابة، والشَّافعيُّ لا يتنقَّصهم بالتأكيد، فالمعنى أنَّه يبالغ في حبِّ أهل البيت – عليهم السلام – حتى لو قيل إنه رافضي، لا إنَّه كذلك على وجه الحقيقة.
بيت الشيخ – رحمه الله –
أنتم مشيئته التي خلقت بهـا الـ * أشياء بل ذُرِئت بهـا ذراتهـا
أيضاً عجلة السائل في اتّهام الشيعة بالغلوِّ جعله لا ينقل هذا البيتَ بصورةٍ صحيحةٍ كذلك.
فكأنَّهم – عليهم السَّلام – بسبب طاعتهم ربَّهم صاروا مرآة إرادتِهِ ورضاه وغضبه، ولا تنسَ أنَّ الله يغضب لغضب فاطمة – عليها السَّلام – ويرضى لرضاها، وفي آية المباهلة إشارةٌ إلى ذلك، فقد همَّ أن يحترق على النَّصارى وادي نجران لو باهلوا النَّبيَّ وأهل بيته – صلى الله عليه وآله – فليس هنا تفويض بل الأمر كلُّه لله تعالى، ولكن إعظاماً لحقّهم يسألون الله تعالى أن يُجريَ بعض الكرامات على أيديهم مثل إحياء الموتى كإحياء عيسى – عليه السَّلام – لهم فيُحيي الله الموتى على أيديهم بإذنه تعالى.
عن محمد بن سنان قال : "كنت عند أبي جعفر -عليه السلام - فذكرت اختلاف الشيعة فقال -عليه السلام - : " ان الله لم يزل فرداً متفرداً في الوحدانية، ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمةَ فمكثوا ألف دهرٍ، ثم خلق الأشياء وأشهدهم خلقها وأجرى عليها طاعتهم وجعل فيهم ما يشاء، وفوَّض أمر الأشياء إليهم في الحكم والتصرف والارشاد والأمر والنهي والخلق، لأنهم الولاة فلهم الأمر والولاية والهداية فهم أبوابه ونوابه وحجاجه يحللون ما شاء ويحرمون ما شاء، ولا يفعلون إلا ما شاء، عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون"
فهنا نفى التفويض المُطلق، إلَّا ما كان تحت سلطان الله تعالى وبأمره، وعن الإمام المنتظر – عليه السَّلام – " وقد جاءَ رجلٌ يسأله عن المفوضة قال عجل الله فرجه : " كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله فإذا شاء شئنا "
والحمدُ لله ربِّ العالمين.
اترك تعليق