هل رؤية الله تعالى يوم القيامة بالبصر أو بالقلب؟

السؤال: أنّ الرؤية لله قوّة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتّصال الأشعة، ولا مقابلة المرئيّ، ولا غير ذلك؛ لكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضاً بوجود ذلك على جهة الاتّفاق؛ لا على سبيل الاشتراط، وقد قرّر أئمّتنا المتكلّمون ذلك بدلائله الجليّة، ولا يلزم من رؤية الله تعالى: إثبات جهة؛ تعالى عن ذلك؛ بل يراه المؤمنون لا في جهة؛ كما يعلمونه لا في جهة.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

هذا الكلام مأخوذ من شرح النوويّ لصحيح مسلم (ج 5 ص 15) طبعة دار الكتب العلميّة، ولمناقشة هذا القول لا بدّ من تحديد محلِّ النزاع بين المثبتين للرؤية والنافين لها، ولتحديد ذلك لا بدَّ من الإشارة أوّلاً إلى الأحاديث التي عُـدّت مستنداً دينياً للقائلين بالرؤية يوم القيامة، إذْ تؤكّد هذه الأحاديث بأنّ المؤمن يرى الله رؤية بصريّة كما يرى الأشياء في الدنيا.

وعليه، فإنّ محلّ النزاع بين المتكلّمين محصور في إمكانية الرؤية البصريّة لله تعالى، أمّا تأويل الرؤية بالشكل الذي يخرجها عن كونها رؤية بصريّة، فهذا بعيد عن محلّ النزاع وبعيد أيضاً عن الأحاديث التي ارتكز عليها القائلون بالرؤية.

إذْ حفلت الكتب السُنيّة بروايات صريحة في الرؤية البصريّة لله عزّ وجلّ، نذكر بعضاً منها: "فعن جابر، قال: كنّا جلوساً عند النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنّكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثمّ قرأ: (وسبح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب". [صحيح البخاريّ ج1، باب فضل صلاة العصر، صحيح مسلم ج2باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما].

وعن جرير بن عبد الله، قال: قال النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: إنّكم سترون ربّكم عياناً. [صحيح البخاريّ ج9 كتاب التوحيد، قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربّها ناظرة)].

وجاء في حديث طويل، أنّ أبا هريرة أخبرهما: أنّ أناساً قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربّنا يوم القيامة. قال: هل تمارون في القمر ليلة البدر، ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، يا رسول الله. قال النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: ما تمارون في رؤية الله تبارك تعالى يوم القيامة، إلّا كما تمارون في رؤية أحدكم... إلى أنْ قال: حتّى إذا لم يبقَ إلّا َمنْ كان يعبد الله من برٍّ وفاجرٍ أتاهم ربّ العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها، فيقال: ماذا تنتظرون؟ ... تتّبع كلّ أمّة ما كانت تعبد.

قالوا: فارقنا الناس في الدنيا، على أفقر ما كنّا إليهم، ولم نصاحبهم ونحن ننتظر ربّنا الذي كنّا نعبد. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: لا نشرك بالله شيئاً. مرّتين أو ثلاثة. حتّى إنّ بعضهم ليكاد أنْ ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها؟ فيقولون: الساق. فيكشف عن الساق. [صحيح البخاريّ ج6، تفسير سورة النساء ـ ج9 كتاب التوحيد، صحيح مسلم ج1، باب معرفة طريق الرؤية].

وغيرها من عشرات الأحاديث الصريحة في الرؤية البصرية التي حفلت بها صحاحهم، وعلى أساس هذه الأحاديث التي زعموا صحّتها بنوا اعتقادهم برؤية الله تعالى يوم القيامة، حتّى تطرّف إمام الحنابلة وكفّر كلّ من يخالف هذا الاعتقاد، ولم يقفوا عند هذا الحدّ بل جوّزوا إمكانية رؤيته في الدنيا.

ومن الواضح - بأدنى تفكّرٍ - أنّ هذا الاعتقاد يستلزم الآتي:

أوّلاً: أنّ الرؤية الحسيّة التي تؤكّدها الأحاديث السالفة تستلزم أنْ يكون المرئيّ جسماً له كثافة ولون حتّى تتمّ الرؤية، فمن مستلزمات الرؤية أنْ يكون المرئيُّ جسماً تنعكس منه الأشعة، وأنْ يكون في مقابل الرائيّ، وأنْ تكون هناك مسافة بين الرائيّ والمرئيّ بالإضافة إلى سلامة الحاسّة، وبهذه الشروط يكون الله ـ والعياذ بالله ـ جسماً له لون، ويكون محدوداً بمكان وهذا محال.

ثانياً: ويستلزم أيضاً أنّ الله تعالى يتغيّر ويتشكّل بصور مختلفة (فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، فيأتيهم في الصورة التي يعرفون).. والطريقة التي يعرفونه بها هي (الساق) فله ـ سبحانه ـ ساق تُكشف وتُغطّى..!!

وهذه العقائد الواضحة البطلان نتاجٌ طبيعيّ للأحاديث الإسرائيليّة التي سلّم بها إخواننا أهل السنّة، لورودها في صحيحي البخاريّ ومسلم، ولولا هذه الأحاديث لما ذهب عقلٌ سليمٌ إلى هذا القول.

وقد وقف الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام في وجه هذه العقيدة وكلّ العقائد التي تؤدّي إلى التجسيم والتشبيه، وكذّبوا تلك الأحاديث البعيدة كلّ البعد عن المعارف القرآنيّة، فهذه الأحاديث مهما كثرت لا قيمة لها في نفسها كما أنّها تُعارضُ الروايات الكثيرة والمتواترة عن أهل البيت (عليهم السلام) التي تنفي إمكانية الرؤية وكلّ ما يؤدّي إلى التجسيم والتشبيه.

وإذا اتّضح محلّ النزاع بين المثبتين والنافين للرؤية يوم القيامة يتّضح أنّ الكلام الذي ذكره النوويّ في شرح صحيح مسلم يعدّ فِراراً من محلّ النزاع، إذْ محلّ النّزاع هو الرؤية البصريّة التي صرّحوا بها (وهي بهذه العيون كالقمر في ليلة البدر).

أمّا الرؤية التي لا يشترط فيها اتّصال الأشعة، ولا مقابلة المرئيّ، ولا غير ذلك من شروط الرؤية البصريّة، فليست مورد خلاف ولم ينازع فيها المعتزلة أو الشيعة.

وعليه، فإنّ هذا الكلام يعدّ إقراراً واعترافاً واضحاً باستحالة الرؤية البصريّة لله تعالى.

وعليه، فإنّ الرؤية القلبيّة التي لا تستلزم التشبيه والتجسيم لا خلاف فيها، وقد صرّح الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) بالرؤية القلبية لله تعالى، فقد روى الصّدوق بسنده عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام، فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر أيّ شيءٍ تَعبد؟ قال: «الله»، قال: رأيتَه؟ قال: «لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يُعرف بالقياس، ولا يُدرك بالحواس، ولا يُشبّه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلاّ هو»، قال: فخرج الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته). [كتاب التوحيد، للصدوق، باب ما جاء في الرؤية، الحديث الخامس].

وفي المحصّلة، أنّ رؤية الله تعالى بالبصر ممتنعة في الدنيا وفي الآخرة، ويترتّب على ذلك عدم التسليم بصحّة تلك الأحاديث التي حفلت بها كتب أهل السنّة؛ وذلك لأنّها تتحدّث عن رؤية الله تعالى يوم القيامة بالرؤية البصريّة، أمّا الرؤية القلبيّة التي لا يشترط فيها الجهة والمسافة واتّصال الأشعة وغير ذلك، فلا خلاف فيها، وهي متحقّقة للمؤمن في الدنيا وفي الآخرة.