أين الإله في هذه الحياة؟

‏السؤال: «أين الإله في هذه الحياة؟ الناس يجلس بعضهم على أكتاف بعض ويمتصّ أحدهم دم أخيه، وما من مكان إلّا وتدور به معركة وحشيّة من أجل لقمة العيش. أين الخير والحبّ والرحمة والجمال» الكاتب الروسيّ مكسيم غوركي.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

لا يمكن التعليق على هذا الكلام إلّا ضمن الظرف والسياق الذي كُتب فيه، فتحديد ذلك ضروريّ لتحديد نوع التعليق الذي يليق به، فإنكار وجود الله تعالى في إطار التأسيس لمشروع سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ، يختلف تماماً عن إنكاره في إطار مشروع فلسفيّ يقارن منطقيّاً بين أدلّة الإثبات والنفي.

ومن أجل الوقوف على ذلك تحتّم علينا الرجوع إلى نفس الرواية التي كتبها الأديب الروسيّ مكسيم غوركي، لنقف على الجو الثقافيّ الذي انطلق منه والأهداف التي كان يصبو إليها.

رواية الكاتب الروسي مكسيم غوركي (اعتراف أين الله) تعدّ من أكثر أعماله شهرة، وقد صدرت هذه الرواية سنة 1908م، وتكمن أهمية هذه الرواية في أنّها واحدة من أهمّ الأعمال التي عكست نوعيّة الصراع السياسيّ والفكريّ في روسيا في تلك الحقبة التاريخيّة، وقد أشار المترجم الدكتور نوفل نيوف في مقدّمته للرواية لذلك بقوله: "إنّ رواية غوركي هذه جاءت في مرحلة من تاريخ روسيا شديدة الخصوصيّة والتعقيد، إذْ تغطّي تلك المرحلة السنوات التي أعقبت إخفاق ما عُرف بثورة 1905م، وما شاع خلال تلك السنوات من اشتداد قبضة النظام القيصريّ على الحراك الثقافيّ، والسياسيّ، والاجتماعيّ عموماً. ففي تلك الأثناء جرت مراجعات، وارتدادات، وتقلّبات كثيرة، متداخلة، وشائكة، تناولت الأسس الفلسفيّة والأيديولوجيّة.. التي كانت الإنتلجينسيا الروسيّة تحاول صقلها، وتبنيها، وأقلمتها وفق الظروف المحليّة، والمناخات السائدة، ومتطلّبات المرحلة من وجهات نظر مختلفة، ومتناقضة تمثِّل جماع المشهد البانوراميّ الروسيّ آنذاك" (اعتراف ص 5)

وقد صنّف غوركي حينها في ضمن الجبهة الثوريّة اليساريّة المتشدّدة، وقد عرفت هذه الجبهة تشقّقات وتصدّعات كثيرة، عكست عمق تلك المراجعات والصراعات الفكريّة والسياسيّة عموماً، وقد ظهر من كلِّ ذلك تيارات أسمت نفسها (الباحثون عن الله) أو (بناة الله) أو (مبدعو الله)، وقد واجه هذا التيار انتقادات واسعة من الجناح الراديكاليّ في الحركة الثوريّة الروسيّة، وخصوصاًمن جانب لينين قائد ثورة 1917م، فقد عـدَّ لينين هذا التيار في طريقه إلى إنشاء دين جديد.

فقبل أن يكتب غوركي رواية اعتراف كان قد نشر رواية (الأم)، وقد جاءت هذه الرواية في خضم الثورة الأولى عام 1905م، التي استهدف من خلالها حشد آلاف العمّال في كلّ أنحاء العالم وراء فكرة الثورة، وعندما لم تصل الثورة إلى الأهداف التي كان يرجوها غوركي كتب رواية الاعتراف التي أراد البحث من خلالها عن طريق آخر، وهو طريق الإيمان، ولكنّه إيمان خاصٍّ بغوركي، إذْ كان يعتقد بأنّ البشر فكّكوا الإله كلّ بحسب مصلحته، في حين يجب أنْ يكون الإله واحداً لجميع البشر حتّى يتمّ التخلّص من الفرديّة والأنانيّة.

وقد صوّر غوركي أحداث روايته على لسان شخص اسمه (ماتفي) وهو طفل لقيط غير شرعيّ، وقد تبنّاه فلّاح اسمه دانيال إلى أنْ صار عمره أربع سنوات، ثمّ تولّى أمره شماس – خادم الكنيسة- اسمه لاربون، ثمّ تاجر من دون ضمير وذمّة، وهكذا توالت الأحداث، فأصبحت نشأته مرتبطة بالكنيسة، فأحبّ ماتفي إله الكنيسة، حتّى عبّر عن ذلك بقوله: "لقد أحببت الله وانغمست في الكنيسة بكلّ حرارة قلبي الطفوليّ"، إلّا أنه عاد وكفر نتيجة لظروف وأحداث جعلته يتسائل عن الذي يدعوه لمحبّة الله؟ وهل هي محبّة الكهنة الذين يتاجرون بالدين في الدير؟ أم محبّة الذين يجدون في الإيمان باباً للغفران من أجل ارتكاب المزيد من الذنوب؟!. أم محبّة الذين يجدون في الإيمان مبرّراً للقسوة مع الآخرين ودفن الحياة والحبّ والأمل بشعائر دينيّة؟.. وهكذا تسير الرواية في تمرّدها على الإله الذي استغلّته الكنيسة لمصالحها الشخصيّة، وفي نفس الوقت تعمل الرواية على إيجاد بديل وهو الإله الواحد الذي يجب أنْ يتوحّد فيه الشعب، وهكذا يستنتج في النهاية أنّ الإله الفعليّ هو الشعب وقوّتهم وعلى هذا الأساس قامت الثورة الشيوعيّة قامعة للدين ورجاله بعد أنْ فسدوا وعاثوا الفساد مع النظام القيصريّ.

وفي ضمن هذا السياق يمكننا فهم العبارات التي وضعها السائل بين أيدينا، فماكسيم غوركي بهذه الكلمات يتسأل عن وجود الله الذي أصبح سبباً لتكريس الاستبداد القيصريّ، والإله الذي وظّفه كهنة الكنيسة لمصالحهم الشخصيّة ومطامعهم الذاتيّة، فالكفر بهذه الصورة المشوّهة للدين والإله، والإيمان بقدرة الشعوب على التحرّر كان هو الخيار الوحيد في نظر ماكسيم غوركي.

والإنصاف ربّما يقودنا إلى تفهّم هذا الموقف، فالإنسان إذا خُيِّرَ بين الانتصار لعقله وإنسانيّته وبين الانتصار لدين محرّف لا يعترف بعقل ولا إنسانيّة، فإنّ الكفر بهذا الدين والتمرّد عليه هو الأولى، وقد كان ذلك نفسه السبب وراء موجة الكفر والإلحاد التي حصلت في عصر النهضة والتنوير في الغرب، فالظرف الذي تولّد فيه هذا التيّار كان ظرفاً خاصّاً شهدت فيه أوربا ولادة جديدة، وموقف الكنيسة الذي كان مناهضاً لمشروع النهضة ولّد تياراً معارضاً للدين.

ومن الخطأ تعميم هذه التجارب على الإسلام، فكلّ أسباب التخلّف التي كرّستها الكنيسة في الحضارات الاُخرى غير موجود في الإسلام، وإنْ كان المسلمون اليوم يعيشون حالة من التخلّف والرجعيّة فإنّ السبب هو ابتعادهم عن القِيَم الحضاريّة التي نادى بها الإسلام، فالعلم، والعمل، والتقدّم، والتطوّر، والعدل، والحرية، والمساواة، والتنمية، وغير ذلك من قيم النهوض تمثّل قِيَماً إسلاميّة لا تتمّ العبادة لله تعالى إلا بها، كما أنّ الضمير الأخلاقيّ الذي ينمّيه الإسلام في نفسيّة الأمّة هو الضامن لحصانة الأمّة من الانحراف، إلا أنّ الأمة تخلّت عن قِيَمِهَا وعن ضميرها الأخلاقيّ فكان هذا هو حالها.

وعليه، فإنّ الله موجود أين ما وجد الحقّ والعدل وكلّ قِيَم الخير والفضيلة، ومسؤوليّة الإنسان المرتبط بالله تعالى هي تحمّل أمانة خلافته في الأرض، فواجب الإنسان هو منع الفساد والظلم، وإقامة حكم الله تعالى في الأرض.

ومن هنا، فإنّ الذي يبحث عن الإله الذي يكون بديلاً عنه للقيام بواجبه في إعمار الأرض ومنع الفساد لن يجده.

أمّا الذي يبحث عن الإله الذي يستمدّ منه قِيَم الحقّ والفضيلة لكي يقوم بواجبه ومسؤولياته، فإنّه سيجده معه في كلّ خطوة من خطواته وفي كلّ موقف من مواقفه.