هل مذهب التشيع مذهب تلفيقي؟
السؤال: يزعم البعض: أنّ مذهب الرافضة مذهب تلفييقي ترقيعي خرافي، فمادة الكلام فيه مسروقة من المعتزلة، ثم أضافوا له خرافة الإمامة والعصمة والرجعة وبعضها مسروق من أساطير بني إسرائيل، ومادة الأصول عندهم مأخوذة برمتها من أصول أهل السنة، ومادة العرفان عندهم مأخوذة من تصوف الهروي بعد خلطه بكلام ابن عربي.
الجواب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنّ مذهب التشيّع يتّبع أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين ورثوا العلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد شهد الجميع بأنّهم أعلم العلماء في زمانهم، فلا يدانيهم أحدٌ في العلم والمعرفة، وما فُتِقت العلوم الإسلاميّة إلّا على أيديهم، وصنّف بعض العلماء في ذلك كتباً، وأثبتوا بالأدلّة والأرقام أنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين فتقوا تلك العلوم، وأنّ شيعتهم هم أوّل روّادها والسابقون فيها.
وقد تضمّن السؤال على دعاوى كبيرة جوفاء، أشبه بالفرقعات الإعلاميّة، ولا تصمد أمام البحث العلميّ أبداً، فنقول بشكل مختصر:
1ـ أمّـا علم الكلام:
فيُدّعى أنّ واصل بن عطاء المعتزليّ [ت13هـ] هو أوّل مَن تكلّم.
ولكنّه تلميذ أبي هاشم وعنه أخذ الكلام، وهو تلميذ أبيه محمّد ابن الحنفيّة الذي أخذ العلوم العقليّة من أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فالعلم الإلهيّ لَـم يخرج إلّا من معدن الوحي، فتلك هي خطب (نهج البلاغة) تشهد بهذه الحقيقة.
وقد صرَّح ابن أبي الحديد المعتزليّ بذلك – في كلامه عن أمير المؤمنين –قائلاً: (إنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهيّ.. من كلامه (عليه السلام) اقتُبِس، وعنه نُقل، وإليه انتهى، ومنه ابتدأ) [شرح نهج البلاغة ج1 ص17].
وقد كان أوّل مَن صنّف ودوّن في علم الكلام هو عيسى بن روضة التابعي الإماميّ، بقي إلى أيّام أبي جعفر المنصور، له مصنّف في الإمامة، وهو الذي فتق بابه وكشف نقابه، ثمّ صنّف أبو هاشم بن محمّد بن بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كتباً في الكلام، وهو مؤسّس علم الكلام، من أعيان الشيعة، ولـمّا حضرته الوفاة دفع كتبه إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس الهاشميّ التابعيّ، وصرف الشيعة إليه – كما في معارف ابن قتيبة -، وهما مقدّمان على أبي حذيفة واصل بن عطاء المعتزليّ الذي ذكر السيوطيّ: أنّه أوّل مَن صنّف في الكلام، كما ذكر السيّد حسن الصدر في [تأسيس الشيعة ص259].
وأوّل مَن ناظر في التشيّع هم جماعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ أبو ذرّ الغفاريّ وخالد بن سعيد بن العاص وسلمان الفارسيّ والمقداد بن الأسود وعمّار بن ياسر ونظرائهم، فإنّ احتجاجاتهم في الإمامة منقولة. ذكر الجاحظ: أوّل مَن ناظر في التشيّع الكميت بن زيد الشاعر، وذكر ابن النديم: أوّل مَن تكلّم في مذهب الإماميّة عليّ بن إسماعيل بن ميثم التمّار، وله كتاب في الإمامة. والصواب أنّ أبا ذرّ وشركاءه تقدّموا على الكميت، كما أنّ عيسى بن روضة والكميت متقدّمان على علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار، كما ذكر السيّد الصدر في [تأسيس الشيعة ص264].
فالصحيح أنّ المعتزلة أخذوا الكلام من الشيعة، لا العكس، فإنّ المباحث العقديّة ما فُتِقت إلّا على أيدي أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وما نُشرت إلّا أيدي تلامذتهم.
وأمّـا مباحث الإمامة والعصمة والرجعة، فهي مؤسَّسة في القرآن الكريم، والحديث الشريف، والعقل القويم، ويمكن ملاحظة أيّ كتاب عقديّ ليُرى نوعية البراهين، نشير في المقام لبعض الآيات الكريمة:
أمّا الإمامة والولاية: فيقول الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ}، ويقول تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم}، وغيرها.
وأمّا العصمة والطهارة: فيقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، ويقول تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، وغيرها.
وأمّـا الرجعة: فيقول الله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ}، ويقول تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}، وغيرها.
2ـ وأمّـا علم الأصول:
فيُدّعى أنّ الشافعيَّ [ولد 150هـ، وتوفي 204هـ] هو أوّل مَن صنّف في علم الأصول.
والصواب أنّه لَـم يثبت أنّ الشافعيّ هو أوّل مَن صنّف في الأصول، فهذا هشام بن الحكم [ت199هـ]، له كتاب في (الألفاظ) – وهو من مباحث الأصول المهمّة -، وهو متقدّم طبقة على الشافعيّ؛ لأنّه من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، في حين أنّ الشافعيّ ولد بعد وفاة الإمام الصادق (عليه السلام).
ومن قدماء الشيعة: يونس بن عبد الرحمن المولود حدود سنة [124هـ] ورأى الإمام الصادق (عليه السلام)، وتوفي حدود سنة [203هـ]، فهو متقدّم طبقة على الشافعيّ أيضاً، وابن أبي عمير [ت217هـ] وهو معاصر للشافعيّ، فإنّهما صنّفا في (علاج الحديثين المختلفين) وفي (العام والخاصّ)، وهذان من أهم مباحث علم الأصول.
هذا من ناحية التدوين، وأمّـا التأسيس والابتكار فالصواب أنّه من أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، الذين هم منبع العلم ومعدنه، فإنّ الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، ومن بعدهما بقيّة الأئمّة (عليهم السلام)، فإنّههم علّموا خاصّة شيعتهم كيفيّة استنباط الحكم الشرعيّ، وأملوا عليهم قواعده ومسائله؛ وقد وردت عنهم أحاديث كثيرة في أمّهات المسائل الأصوليّة مبثوثة في المدوّنات الحديثيّة؛ كحجيّة الأخبار وعدم حجيّة القياس، وكيفيّة ترجيح الأخبار، والاستصحاب، والبراءة، والاحتياط وغيرها.
وقد تصدّى جمعٌ من الأعلام لجمعها وتبويبها، كالسيّد عبد الله شبّر، فإنّه صنّف كتاباً قال في مقدّمته: « هذه أوراق قليلة قد اشتملت على فوائد جليلة، وتضمّنت استنباط مهمّات المسائل الأصوليّة - التي تُستنبَط منها الأحكام الشرعيّة الفرعيّة - من الآيات القرآنية و الأخبار المعصوميّة » [الأصول الأصليّة ص5]، وقد طبع الكتاب في أكثر من 300 صفحة.
فالأئمّة (عليهم السلام) كان لهم الدور الأساسيّ في تعليم الأصحاب الأصول والقواعد التي يلزمهم اتّباعها في استنباط الحكم الشرعيّ، وقد نتج عنه تصنيف أصحابهم كتباً تعدّ من أمّهات مسائل علم الأصول، كهشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن وابن أبي عمير، ثمّ من بعدهم الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ وغيرهم.
3ـ وأمّـا علم العرفان: فهو على قسمين:
العرفان النظريّ: وهو معرفة الله تعالى ومعرفة حججه والمعارف الإلهيّة:
فقد نقلنا كلام ابن أبي الحديد المعتزليّ أنّ العلم الإلهيّ قد ابتدأ واقتبس من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: (إنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهيّ.. من كلامه (عليه السلام) اقتُبِس، وعنه نُقل، وإليه انتهى، ومنه ابتدأ) [شرح نهج البلاغة ج1 ص17]. وتراث أهل البيت (عليهم السلام) زاخر بالمعارف الإلهيّة لحدٍّ لا يمكن لفرقة إسلاميّة أن تزعم أنّ تراثها مليء بالمعارف كتراثنا.
والعرفان العمليّ: وهو السير والسلوك إلى الله تعالى عن طريق الأعمال الشرعيّة:
وتراث أهل البيت (عليهم السالم) زاخر بالأعمال العباديّة والرياضات الشرعيّة؛ من صلوات وأدعية ومناجاة وأوراد وغيرها، وفي هذا التراث الضخم ما لا يوجد في تراث جميع الملل والنحل والمذاهب، وعلى سبيل المثال: كتاب (منهاج الجنان في أعمال شهر رمضان) للسيّد العبّاس الكاشانيّ، يقع الكتاب في طبعته الحجريّة في (540) صفحة، يختصّ هذا الكتاب بأعمال شهر رمضان، فأين تجد تراثاً عباديّاً كمثل ما في تراث أهل البيت (عليهم السلام)؟!
هذا هو العرفان الصحيح في مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وأمّـا العرفان النظريّ المبنيّ على أفكار ابن عربي وأشباهه، والعرفان العمليّ المبنيّ على الرياضات غير الشرعيّة للصوفيّة، فهو لا يمثّل مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّ كلّ ما فيها من أباطيل هو مردود عند الشيعة وغير مقبول. أضف لهذا: أنّ المتصوّفة يدّعون أنّ خرقتهم متّصلة بأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، فمَن أخذ ممّن؟!
اترك تعليق