هل ضاع فقه أهل البيت (عليهم السلام)
السؤال: يقول البعض: لا مشكلة لأهل السنة مع فقه جعفر الصادق عليه السلام، المشكلة أنه ليس لفقهه كتاب متواتر في نقله وتداوله كما جرى لمالك وأبي حنيفة والشافعي. المشكلة أن فقهه لم يصلنا محفوظا أصلا، وفيه اختلاف شديد.
الجواب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا يخفى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوصى المسلمين بالتمسّك بالثقلين؛ الكتاب والعترة، للنجاة من الضلال، وقد تمسّك بهما الشيعة الإماميّة فعلاً، ولهذا تجد عمدة الدليل على الحكم الشرعيّ هو (الكتاب والسنّة)، في حين أهمل المخالفون العترة كليّاً، وتمسّكوا بغيرهم، بل اتّبعوا أعداءهم كالخوارج والنواصب وأشباههم، كما هو معلومٌ، والسائل أقرّ بأنّ أهل السنّة غير متّبعين لأهل البيت (عليهم السلام) ولا متمسّكين بحبلهم.
وقد اشتمل السؤال على دعوى عريضة، لتبرير هجران المخالفين لفقه آل محمّد (عليهم السلام) وعلومهم، وتركهم لها بالكليّة، وهي أنّ فقه أهل البيت (عليهم السلام) ليس له كتاب متواتر ومتداول، وأنّه شديد الاختلاف، ولهذا توجد مشكلة في حفظ علم أهل البيت (عليهم السلام)!!
هكذا ذكر السائل، ولكن لا يخفى أنّ مثل هذه الدعوى لا يجرؤ على التفوّه بها أهل العلم، فإنّ هذا الشرط المدّعى: (تواتر الكتاب + عدم الاختلاف) غير متوفّر بالنسبة إلى فقه أئمّة المذاهب الأربعة من جانب، ومن جانب آخر: فقه أهل البيت (عليهم السلام) محفوظ في التراث الإسلاميّ، وسنذكر السبب الحقيقيّ لإعراض المخالفين عن فقه أهل البيت (عليهم السلام)، ولهذا يقع الكلام بشكل مختصر في أمور أربعة:
الأمر الأوّل: فقه أئمّة المذاهب غير متواتر:
ذكر علماء الأصول والرجال والفهارس: أنّ إثبات الصدور لا يشترط فيه تواتر النقل وتداوله، بل هناك وسائل متعدّدة لإحراز صدور الكلام عن المتكلّم أو الكتاب عن الكاتب، وعمدتها حصول الوثوق الناشئ من أسباب عقلائيّة وعلميّة، ولم يشترط أحدٌ تواتر النقل. فإنّ الأحاديث والكتب المتواترة قليلة جداً، وأكثر الكتب اعتباراً عند المخالفين لا يوجد فيها مثل هذا الشرط، وحيث أنّ الكلام حول الكتب الفقهيّة فلنتكلّم قليلاً عن فقه أئمّة المذاهب الأربعة، فنقول:
إنّ أشهر كتاب في الفقه الشافعيّ هو كتاب (الأمّ) الذي لَـم يؤلّفه الشافعيّ نفسه، بل هو عبارة عن أماليه رواها صاحبه الربيع بن سليمان المراديّ المؤذّن عنه مباشرة، وفي بعض المواضع عن البويطيّ عنه، ومن ثَمَّ نقل الرواة هذا الكتاب عن الربيع، فالكتاب متداول ومشهور عن الربيع، لا عن الشافعيّ نفسه؛ إذ جميع النقلة ينقلونه عن الربيع، فأين هي دعوى التواتر والتداول – التي يدّعيها السائل -؟!!
والربيع بن سليمان هذا لَـم يكن على مستوى عالٍ من الضبط والإتقان في النقل، ولا كان فقيهاً، وإنْ اشتهر بالحديث والفقه، ولهذا قدح فيه العلماء بعبارات مرقّقة، قال ابن عبد البرّ القرطبيّ: (كانت فيه سلامة وغفلة، ولَـم يكن متيقّظاً ولا قائماً بالفقه) [الانتقاء ص112]، فلاحظ أنّه غمز في نقله كما غمز في فقاهته، وكتاب (الأم) هو كتاب فقه وحديث، ونصّ الذهبيّ على أنّه لا يبلغ رتبة الحفّاظ في الحديث، كما لا يبلغ رتبة المزنيّ في الفقه وإنْ كان هو أفضل من المزنيّ في الحديث [ينظر سير أعلام النبلاء ج12 ص587]. بل هناك كلامٌ في أمانة الربيع، ذكره بعضُ الباحثين.
وأمّـا الفقه المالكيّ: فليس لمالك بن أنس كتابٌ فقهيّ، وإنّما له كتاب (الموطأ) الذي يعدّ كتاب حديث، وقد كان دائم التغيير فيها حتّى جاءت رواياته مختلفة فيما بينها اختلافاً فاحشاً، في ترتيب الأبواب وعدد الأحاديث، حتّى بلغت هذه الروايات عشرين نسخة، بل قيل: إنّها ثلاثون نسخة.
والكتاب الذي يعكس آراءه الفقهيّة هو كتاب (المدوّنة) الذي جُمع فيه آراءه المرويّة عنه والمخرّجة على أصوله وعلى آراء بعض أصحابه، ولها نسختان: (نسخة أسديّة) وفيها إجابات الفقيه ابن القاسم على مذهب مالك من حفظه، وقد لُوحِظ عليها بعدّة ملاحظات، منها: عدم الالتزام بأصول المذهب المالكيّ، و(نسخة سحنون) وهي نسخة المدوّنة الأسديّة جاء بها سحنون لابن القاسم وعرضها عليه وراجعه في بعض الأشياء، فهي نسخة جديدة من الفقه المالكيّ بإجابات الفقيه ابن القاسم.
فالملاحظ أنّ كتاب (المدوّنة) يعدّ من إجابات الفقيه ابن القاسم وفق مذهب مالك، وليس متمحّضاً في إجابات مالك نفسه، وفيها كثير من الحدس والاجتهاد بل والبناء على أسس المذهب الحنفيّ سيّما النسخة الأسديّة، فهي تعكس آراء فقه مالكيّ لا مالك نفسه بالضبط.
وأمّـا الفقه الحنفيّ: فليس لأبي حنيفة كتابٌ فقهيّ واصل لنا، وإنّما لتلامذته بعض الكتب الفقهيّة التي بيّنت آراءه، كأبي يوسف والشيبانيّ وغيرهما.
وكذلك حال الفقه الحنبليّ إذ ليس لأحمد بن حنبل مصنّف فقهيّ واصل لنا، وإنّما هي مسائل جمعها بعض تلامذته كالخلّال وأبي داود، وقد كان أحمد نفسه شديد الكراهة لتصنيف الكتب، يقول ابن القيم: (كان شديد الكراهة لتصنيف الكتب، وكان يحبّ تجريد الحديث، ويكره أن يُكتب كلامه، ويشتدّ عليه جدّاً) [إعلام الموقعين ج1 ص28]. بل هناك كلام كثير في عدّ أحمد بن حنبل من الفقهاء، فإنّ جملةً من علماء أهل السنّة لا يعدّونه فقيهاً من الفقهاء، وإنّما هو ناقد للحديث والرجال، ولهذا أهمل مذهبَه جمعٌ ممّن صنّف في المسائل الخلافيّة.
هذا هو حال فقه أئمّة المذاهب الأربعة، فلا شيءَ منها متواتر، ولا متداول عن نفس صاحب المذهب، وإنّما عن تلامذتهم وخاصّتهم، ثمّ يأتي السائل ليقول: أن كتاب كلّ واحد من هؤلاء (متواتر في نقله وتداوله)!! عجباً أيّ تواتر هذا؟! فليس لهؤلاء الفقهاء كتبٌ فقهيّة، وإنّما هي أمالي ومسموعات منهم جمعها تلامذتهم، واشتهرت من بعدهم عن تلامذتهم، لا عنهم أنفسهم كما شرحنا، فأين هو التواتر والتداول؟!!
الأمر الثاني: فقه أئمة المذاهب مختلف فيه:
إنّ وقوع الاختلاف في الفقه حالة طبيعيّة، ولها مبرّراتها الموضوعيّة، ولكنّ السائل يرى أنّ الاختلاف يعدّ مشكلة، فنقول: لقد وقع خلاف كبير في المذاهب السنيّة الأربعة، كما جاء في [فقه الآل ص1013]:
ففي المذهب الحنفيّ يقول الشيخ بكر: (وتعدّد الأقوال والآراء في المذهب الحنفيّ طبيعة له يقتضيها الجنوح للرأي) [المدخل المفصل ج1 ص15]، ومن أمثلته: أنّ لأبي حنيفة في مسألة الوضوء بنبيذ التمر عند عدم الماء ثلاث روايات [ينظر المختلف في الفقه ج1 ص222].
وفي المذهب المالكيّ يقول البقاعيّ عن شرف الدين الكنديّ أنّه سُئل: ما لمذهبكم كثير الخلاف؟ قال: لكثرة نظّاره في زمن إمامه [ينظر المدخل المفصل ج1 ص15]، ومن أمثلته: أنّ لمالك في مسألة انتقاض الوضوء من مسّ الذكر ثلاث روايات [ينظر المقدمات ج1 ص101].
وفي المذهب الشافعيّ يقول أبو زهرة: (ننبّه إلى أمرٍ ثابت، وهو أنّ الشافعيّ قد روى عنه أصحابه قولين أو ثلاثة في المسألة الواحدة) [الإمام الشافعي ص174]، بل قال النووي عن مذهب الشافعيّ: (إنّ كتب المذهب فيها اختلاف شديد بين الأصحاب، بحيث لا يحصل للمطالع وثوق بكلّ ما قاله المصنّف منهم هو المذهب، حتّى يطالع معظم كتب المذهب المشهورة) [المجموع ج1 ص305]، ومن أمثلته: أنّ له في مسألة نجاسة الشعر بالموت أربعة أقوال [ينظر الحاوي الكبير ج1 ص66].
وفي المذهب الحنبليّ تكثر الروايات وتتعدّد الأقوال، حتّى أنّك تجد مئات المسائل يرد فيها عن أحمد قولان أو روايتان، حتّى أنّ أبا يعلى الحنبليّ ألّف كتاباً سمّاه (الروايتين والوجهين) جمع فيه ما يقارب ألف مسألة من المسائل الفقهيّة ممّا فيها روايتان أو وجهان. بل قد تجد في المسألة الواحدة ثلاث روايات أو أربع روايات بل ربّما تصل إلى ست روايات، ومن أمثلته: ما نقله الماورديّ: (قلت: وقد تقدّم في أوّل كتاب الطلاق أنّ في أقوال السكران وأفعاله خمس روايات أو ستّة) [الإنصاف ج12 ص132]، يقصد روايات عن أحمد بن حنبل، بل وصل الحال إلى أن يصنّف أحدهم رسالة ماجستير بعنوان: (المسائل الفقهيّة التي لم يختلف فيها قول الإمام أحمد)، جمع فيها 643 مسألة فقط، وهذا يعني أنّه ما من مسألة إلّا ووقع فيها خلاف.
وبهذا يظهر أنّ قول السائل: أنّ في فقه الإمام الصادق مشكلة وهي أن (فيه اختلاف شديد)، فهو كلام إعلاميّ ولا يمتّ صلة بالبحث العلميّ.
الأمر الثالث: فقه أهل البيت (عليهم السلام) محفوظ عند المسلمين:
إن علوم أهل البيت (عليهم السلام) محفوظة عند شيعتهم وخاصّتهم، فإنّ الشيعة هم أصحابهم والحافّون بهم، ومن الطبيعيّ أن يكون علمهم عندهم، كما أنّ فقه الشافعيّ عند خاصّة تلامذته، وفقه أبي حنيفة عند خاصّة تلامذته، وهكذا علم الإمام الصادق (عليه السلام) عند تلامذته الملازمون له.
والذين التفّوا حول أهل البيت (عليهم السلام) هم شيعتهم، فيُطلَب فقههم وعلومهم منهم، وها هي المدوّنات الحديثيّة والفقهيّة الشيعيّة كلّها مليئة بفقه أهل البيت (عليهم السلام)، وتتضمّن عشرات الآلاف من الأحاديث المنقولة عنهم.
فما يُدَّعى في السؤال من أنّ (المشكلة أنّ فقهه لم يصلنا محفوظاً أصلاً) غلطٌ واضح، بل فقه الإمام الصادق (عليه السلام) محفوظ عند تلامذته وأتباعه.
بل إنّ فقه أهل البيت (عليهم السلام) لا يزال محفوظاً في خبايا وزوايا التراث الحديثيّ والفقهيّ والرجاليّ لأهل السنّة أيضاً، وهي تشكّل رؤية مذهبيّة بحدّ ذاتها مع أنّها معرَض عنها عندهم، وقد تصدّى لجمعها بعض الباحثين في كتابه الموسوم بـ (فقه الآل بين دعوى الإهمال وتهمة الانتحال)، وعقد فيه مقارنة بين فقه أهل البيت (عليهم السلام) في مصادر أهل السنّة مع ما في مصادر الشيعة، وبناء عليه قسَّم الكتاب إلى ثلاثة أبواب:
الأوّل: مسائل فقه الآل السنيّة الموافقة لفقه الإماميّة: من الصفحة 95 إلى الصفحة 952.
الثاني: مسائل فقه الآل السنيّة المخالفة لفقه الإماميّة: من الصفحة 955 إلى الصفحة 990.
الثالث: مسائل فقه الآل السنيّة الموافقة من وجهٍ لفقه الإماميّة: من الصفحة 993 إلى الصفحة 999.
والملاحظ أنّ الباب الأوّل – وهي المسائل الاتّفاقيّة - قد شمل معظم الأبواب الفقهيّة، في حين أنّ المسائل الخلافيّة لا تتجاوز بعض المسائل فحسب.
وأعظم مجهود في استقراء فقه أهل البيت (عليهم السلام) من مصادر المخالفين، هو ما قدّمه العلّامة الشيخ محمود قانصو في هذا المجال، فإنّه صنّف موسوعة ضخمة بعنوان: (المستدرك الثاني لوسائل الشيعة) أو (أحاديث الأئمّة الطاهرين بأسانيد العامّة والمخالفين)، مرتّبة مبوّبة، تقع في 21 مجلداً، تضمّنت ما يقارب 25.000 حديثاً.
ومع هذا يقول السائل: (المشكلة أنّ فقهه لم يصلنا محفوظاً أصلاً)!!
وأمّا وجود الاختلاف: فقد ذكرنا أنّ وقوع الاختلاف في الفقه حالة طبيعيّة، ولها مبرّراتها الموضوعيّة، سواء كان الاختلاف في الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، أو في فتاوى فقهاء الإماميّة (أعلى الله كلمتهم)، فالاختلاف في الأحاديث ناشٍ من مناشئ مختلفة كاختلاف موضوع الحكم، وعدم ضبط النصّ، والفتوى وفق مذهب المخالفين إذ كان الأئمّة قد يفتون وفق مذهب أهل المدينة أو الكوفة، وقد بحث العلماء طرق معالجتها في كتب الأصول. والاختلاف في فتاوى الفقهاء ناشٍ من اختلاف المباني في مبادئ الاستنباط كالأصول والرجال والاستظهار، ولا يمكن عدّ ذلك مبرّراً للهجران والترك.
الأمر الرابع: السبب الحقيقي لهجران المخالفين فقه أهل البيت (عليهم السلام):
لا شكّ ولا ريب أنّ أهل السنّة أهملوا علوم أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّ هذه حقيقة واضحة لا يمكن إنكارها، فإنّ الباحث لو تصفّح أيّ كتاب فقهيّ أو عقديّ فلن يجد أقوالاً لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) إلّا في مواضع قليلة جداً ذُكرَت لغرض معيّن كتأييد مذهبٍ ما.
ويحاول البعضُ تبريرَ تغييب تراث أهل البيت (عليهم السلام): بأنّه (كثر الكذب على جعفر، ولهذا تحاشى العلماء الأمناء كثرة الرواية عنه، فضاع فقهه)!! ويقول آخر عن الإمام الرضا (عليه السلام): (ما روى عنه إلّا متروك) [تهذيب التهذيب ج7 ص340]!!.
عجباً، إنْ كان الشيعة كذبوا على أهل البيت (عليهم السلام)، أو انفرد المتروكون في الرواية عنهم، فأين هم ثقات أهل السنّة لينقلوا عنهم؟ وأين هم حفّاظ الحديث الذين كانوا يتبارون في كثرة محفوظاتهم التي تتجاوز مئات الآلاف؟ لماذا تركوا أهل البيت (عليهم السلام) لينفرد المتروكون والكذّابون في الرواية عنهم؟! ففي الحقيقة، هذا التبرير لا يقنع قائله أصلاً.
والصحيح أنّ علماء المخالفين كانوا يتنفّرون من أهل البيت (عليهم السلام)؛ لِـما كان عندهم (عليهم السلام) من العلم الغزير بحيث لم يتمكّنوا من مجاراتهم، ورأوا الناس قد اجتمعوا حولهم، وإليك بعض الشواهد:
قال عمرو بن ثابت: (رأيت جعفر بن محمّد واقفاً عند الجمرة العظمى، وهو يقول: سلوني سلوني)، وقال صالح بن أبي الأسود: (سمعت جعفر بن محمّد يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّه لا يحدّثكم أحدٌ بعدي بمثل حديثي) [الكامل ج2 ص132].
وقال حسن بن زياد: (سمعت أبا حنيفة وسُئل: مَن أفقه مَن رأيت؟ قال: ما رأيتُ أحداً أفقه من جعفر بن محمّد، لـمّا أقدمه المنصور للحيرة، بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة، إنّ الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمّد، فهيّء له من مسائلك الصعاب، فهيّأتُ له أربعين مسألة... ثمّ قال: يا أبا حنيفة، هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله، فابتدأت أسأله. فكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربّما تابعنا، وربّما تابع أهل المدينة، وربّما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة. ثمّ قال أبو حنيفة: أليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟!) [سير أعلام النبلاء ج6 ص257].
هذا ما دفع علماء المخالفين – مع عوامل أخرى كمساعدة السلطة – حسداً وكبراً للّمز والطعن بأهل البيت (عليهم السلام) بطرقٍ ملتوية، وكلام بعضهم - من أنّ الصادق والرضا (عليهما السلام) لَـم يروِ عنهم إلّا كذّاب أو متروك - هو في الحقيقة كلام مَن لا يتمكّن من اللّمز صريحاً بأهل البيت (عليهم السلام) خشيةَ أن يُعدّ ناصبيّاً، فراح يطعن بكلِّ مَن روى عنهم، وذلك لتصفير القيمة العلميّة لكلّ ما يصدر عنهم (عليهم السلام).
يقول يحيى بن سعيد القطّان– لـمّا سُئل عن الإمام الصادق -: (في نفسي منه شيء، ومجالد أحبّ إليّ منه) [تهذيب الكمال ج5 ص74]، ومجالد ضعّفه جمعٌ من علمائهم، نكتفي هنا بنقل ما ذكره البخاريُّ: (كان يحيى بن سعيد يضعّفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه، وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئاً) [تهذيب التهذيب ج4 ص24]، هذا حال مَن هو أحبّ إلى القطّان من الإمام الصادق (عليه السلام).
ومثل هذا اللمز من كبار علماء المخالفين بأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، تسبّب في إحداث ضغط اجتماعيّ على كلّ أهل العلم وطلابه، فهذا يحيى بن معين ينقل أنّه لـمّا خرج حفص بن غياث إلى عبّادان اجتمع عليه البصريّون فقالوا له: (لا تحدّثنا عن ثلاثة: أشعث بن عبد الملك، وعمرو بن عبيد، وجعفر بن محمّد) [تهذيب الكمال ج5 ص75]، وهذا يعني أنّ البصريّين كانوا عازفين عن علم الإمام الصادق (عليه السلام)، بل يحيى بن معين نفسه يقول – لـمّا قال له يحيى بن سعيد القطّان: لِـم لا تسألني عن حديث جعفر بن محمّد -: (لا أريده). [المصدر السابق]
ومثل هذا العزوف والرغبة عن علوم أهل البيت، فرضته الأجواء عند المخالفين، فهؤلاء هم أكابر علمائهم يطعنون بأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ويسخرون ممّن يحضر عندهم (عليهم السلام) ويروي عنهم، ينقل الشافعيّ عن سفيان: (كنّا إذا رأينا طالباً للحديث يغشى ثلاثة ضحكنا منه: ربيعة، ومحمّد بن أبي بكر بن حزم، وجعفر بن محمّد، لأنّهم كانوا لا يتقنون الحديث) [سير أعلام النبلاء ج6 ص91]، فقوله سفيان: (ضحكنا منه) ليس مختصّاً به، بل يحكي صنيع أكابر العلماء في زمانه.
هذا هو الذي يفسّر غياب مذهب أهل البيت (عليهم السلام) عند المخالفين، وليس السبب هو وجود كذّابين أو متروكين ينقلون عنهم – كما يُدّعى -، إذ ما من عالِـم إلّا وبين الرواة عنه كذّابون ومتروكون، وإنّما السبب هو عزوف نفس علماء المخالفين عن علوم أهل البيت (عليهم السلام)، وفرضهم حصاراً اجتماعيّاً على كلِّ مَن يراودهم ويتعلّم منهم.
وقد أفصح ابن خلدون عن كلِّ ما سبق، مصرِّحاً بأنّ علماء السنّة لَـم يحتفلوا بعلوم أهل البيت (عليهم السلام)، بل تصدّوا لها بالإنكار والقدح، وعدم روايتها ونقلها، مـمّا أدّى إلى تغييب تراثهم، وانحصر تواجدها عند الشيعة وفي بلدانهم، يقول: (وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها، وفقهٍ انفردوا به.. وشذّ بمثل ذلك الخوارج، ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم، بل أوسعوا جانب الإنكار والقدح، فلا نعرفُ شيئاً من مذاهبهم، ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها إلّا في مواطنهم، فكتبُ الشيعة في بلادهم، وحيث كانت دولتهم قائمة) [المقدمة ص446].
هذا هو الواقع الذي جرت عليه سيرة علماء المخالفين، فإنّهم اعتبروا فقه أهل البيت (عليهم السلام) مبتدعاً ومنفرداً، وأنّ الموقف الشرعيّ يملي عليهم هجرانها وإنكارها وقدحها، وهذا ما أدّى فعلاً لتغييبها عندهم.
وبهذا يتبيّن أنّ ما ورد في السؤال: (لا مشكلة لأهل السنة مع فقه جعفر عليه السلام) غير صحيح أبداً، بل توجد مشكلة حقيقيّة عندهم مع فقه الإمام الصادق وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
وأمّـا تبرير السائل بأنّ (المشكلة أنّه ليس لفقهه كتاب متواتر في نقله وتداوله، كما جرى لمالك وأبي حنيفة والشافعي. المشكلة أن فقهه لم يصلنا محفوظاً أصلاً، وفيه اختلاف شديد) فهو تبرير سطحيّ، لا يمتّ للواقع بصلة، كما بيّناه في الأمور الثلاثة المتقدّمة.
الحاصل: المخالفون عندهم مشكلة حقيقيّة مع علم أهل البيت (عليهم السلام) وفقههم، ممّا أدى لتغييب تراثهم عن المشهد العلميّ عندهم. وأمّـا تبرير هذا الهجران بأنّ فقه أهل البيت (عليهم السلام) غير محفوظ وأنّ فيه اختلافاً شديداً، فهو باطلٌ؛ لأنّه محفوظ عند شيعتهم وأتباعهم، بل وعند المخالفين أنفسهم في زوايا تراثهم المهجور، ولأنّ الاختلاف الروائيّ له أسبابه الموضوعيّة ومعالجاته المنطقيّة.
والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق