هل التسلسل ممكن؟
السؤال: التسلسل ممكن بالضرورة المنطقيّة، إذْ إنّ القول بامتناعه والقول بوجود علّة أولى يستلزم الترجيح من دون مرجّح وهو باطل؛ لأنّ هذه العلّة القديمة إمّا أن توجِد معلولها أزلاً وهذا مستحيل، لأنّه سيوجد المعلول منذ اللا بداية وهذا تناقض "بدأ منذ اللا بداية". وبالتالي يصبح التراخي واجباً في هذه الحالة، وهذا التراخي لا يمكن أن يكون إلّا بتجدّد مرجّح، وإلّا لزم الترجيح من دون مرجّح وهو باطل، لأنّ علّة العالم متحقّقة والعالم غير موجود، ودون تجدّد أيّ شيء اقتضت هذه العلّة وجود العالم! أي ما لا يقتضي وجود العالم اقتضى وجود العالم، وهو تناقص "ترجيح من دون مرجّح" وتجويزه هو نفي للصانع أصلاً. فلزم تجدّد مرجّح، وهذا المرجّح الحادث بالضرورة له مُحدِث حادث.. وهكذا إلى الأوّل، وإلّا لزم -مجدَّداً- صدور حادثٍ من قديمٍ أزلا وهو باطل كما تقدم. فثبت أنّه لا توجد علّة أولى، وأنّ التسلسل ضرورة لا مفرّ منها.
الجواب:
للإجابة عن هذا الإشكال لا بدّ من توضيح بعض المسائل المتعلّقة بالتسلسل، فبالوقوف عليها يتّضح أنّ ما ذكره من إشكال لا يتعلّق بالتسلسل.
أولاً: معنى التسلسل: وهو أنْ تكون الحوادث معلولة لعلل غير متناهية، فكلّ حلقة من أجزاء السلسلة علّة لما هو دونها ومعلول لما هو فوقها، وهكذا تطّرد الاحتمالات بصورة مستمرّة دون أنْ يصل العقل إلى شيء يستقرّ عليه في حكمه.
ثانياً: موضوع قانون العلّة والمعلول: إذْ يشتبه البعض عندما يعتقد أنّ قانون العلّة والمعلوم يشمل كلّ ما يتّصف بالوجود، في حين أنّ هذا القانون يختصّ بالموجودات الممكنة والحادثة، فليس كلّ موجود لا بدّ له من علّة وإنّما كلّ موجود حادث لا بدّ له من علّة، فممكن الوجود هو الذي يتساوى فيه طرفي الوجود والعدم، ولا يخرج من طور العدم إلى طور الوجود إلّا إذا تعلّق بعلّة تُوجِده، أمّا واجب الوجود فهو الموجود الذي يكون وجوده من ذاته ولذاته، فلا يحتاج إلى علّة إيجاد.
وعندما نتحدّث عن التسلسل نتحدّث عن تسلسل العلل والمعلولات الممكنة، وبعبارة أخرى: إنّ حقيقة بطلان التسلسل لها علاقة (بالحوادث والممكنات) أي لا يمكن إرجاع الحوادث إلى علل حادثة غير متناهية، بل لا بدّ أن تنتهي تلك الحوادث إلى علّة واجبة وغير حادثة.
ثالثاً: دليل بطلان التسلسل: إنّ المعلوليّة كما هي وصفٌ لكلّ جزء من أجزاء السلسلة فهي أيضاً وصفٌ لمجموع السلسلة، ولأنّ قانون العليّة حاكم على أفراد السلسلة فهو حاكم أيضاً على مجموعها، وبعبارة أخرى: كما نسأل عن علّة إيجاد كلّ فرد من أفراد السلسلة نسأل أيضاً عن علّة إيجاد كلّ السلسلة، فنقول: ما هي العلّة التي أخرجت جميع هذه المعلولات من كتم العدم إلى حيّز الوجود؟ وبعبارة الشيخ السبحانيّ: "إذا كانت المعلوليّة آية الفقر وعلامة الحاجة إلى العلّة، فما تلك العلّة التي نفضت غبار الفقر عن وجه هذه الحلقات وألبستها لباس الوجود والتحقّق وصيّرتها غنيّة بالغير؟ إنّ معلوليّة الأجزاء التي لا تنفكّ عن معلوليّة السلسلة آية التعلّق بالعلّة، وعلامة التدلّي بالغير، وسمة القيام به. فما هي تلك العلّة التي تتعلّق بها الأجزاء؟ وما ذاك الغير الذي تتعلّق به السلسلة؟
وأنت إذا سألت كلّ حلقة عن حالها لأجابتك بلسانها التكوينيّ بأنّها مفتقرة في وجودها، متعلّقة في جميع شؤونها بالعلّة التي أوجدتها. فإذا كان هذا حال كلّ واحدة من هذه الحلقات، كان هذا أيضا حال السلسلة برمّتها.
وعندئذ نخرج بهذه النتيجة: إنّ كل واحدة من أجزاء السلسلة معلولة، والمركّب من المعاليل (السلسلة) أيضاً معلول. والمعلول لا ينفك عن العلّة، والمفروض أنّه ليس هنا شيء يكون علّة ولا يكون معلولاً وإلّا يلزم انقطاع السلسلة وتوقّفها عن نقطة خاصّة قائمة بنفسها أعني ما يكون علّة ولا يكون معلولاً، وهذا خلف" (الإلهيات للسبحانيّ ص 65).
إذا اتّضح ذلك نعود إلى ما ذكره صاحب الإشكال في نقضه لبطلان التسلسل، فإذا دقّقنا فيما قال نجد أنّ كلّ ما ذكره لا علاقة له بإبطال التسلسل، وإذا جاز لنا أنْ نعدّه إشكالاً فهو إشكال على قِدَم العالم وليس إشكالاً على بطلان التسلسل، إذْ إنّ الترجيح بلا مرجّح يُعتَرَضُ به على من يقول: إنّ الحوادث مسبوقة بالعدم، أي أنّ وصف الله بعلّة الكون يقتضي وجود الكون بوجوده، وبمعنى آخر: كلّما وجدت العلّة التامة وُجِدَ معها معلولها ولا يمكن أن يتأخّر عنها؛ لأنّ تأخير المعلول عن علّته زماناً يعني ترجيح زمن على زمن آخر وهو ترجيح بلا مرجّح، فلماذا اختار هذا الزمن دون الزمن الآخر؟
وهذا الإشكال كما هو واضح لا يرتبط ببطلان التسلسل، فالقائلين ببطلان التسلسل هدفهم الوصول إلى علّة غنيّة بذاتها غير محتاجة إلى غيرها، وهذا متحقّق سواء قلنا بوجود الموجودات بوجود علّتها أو قلنا بتأخّرها عن علّتها، وهنا يبقى أمام مَنْ يقول بتأخرها الردّ على شبهة الترجيح بلا مرجّح، وبالتالي ربط بطلان التسلسل بالترجيح بلا مرجح ربط في غير محلّه، وخصوصاً بالنسبة للفلاسفة الذين اختاروا القول: بأنّ الكون قديم زماناً وحادث ذاتاً، فلا يمكن الاعتراض عليهم بالترجيح بلا مرجح.
إلّا أنّنا لا نميل لقول الفلاسفة، فالكون بحسب النصوص الدينيّة لم يكن ثمّ كان، أي أنّه حادث ذاتاً وزماناً، ولا يُشكَل علينا بشبهة الترجيح بلا مرجّح؛ لأنّ الله فاعل مختار ولا يمكن مقايسته بالعلل الماديّة التي تكون مضطرّة في إيجاد معلولها، فالله بعلمه وحِكمته اختار أنْ يخلق الخلق بعد أنْ كان عدماً، والمرجّح والحِكمة لذلك موجوده في علمه تعالى، وليس بالضرورة أنْ يقف الإنسان عليها؛ بل يكفي الإنسان أنْ يعلم بأن الله فاعل مختار لا يفعل إلا بحِكمة.
اترك تعليق